تقارير وتحقيقات

أمل بورتر في ندوة في المركز الثقافي العراقي بلندن / عدنان حسين أحمد

 

لندن: احتفى المركز الثقافي بلندن بالفنانة والروائية البريطانية - العراقية أمل بورتر لمناسبة ترجمتها لرسائل والدها الراحل سيرل بورتر، وقد قدّمها كاتب هذه السطور، كما أدار الحوار وفعّله بين الحضور والضيفة المُحتَفى بها. وقد جاء في معرض التقديم بأن أمل بورتر هي فنانة تشكيلية، وباحثة في الفن التشكيلي ومؤرخة له في الوقت ذاته، كما أنها روائية معروفة أصدرت حتى الآن ثلاث روايات مهمة في المشهد الروائي العراقي لعل أبرزها "دعبول"، التي كتبتها بلغة بصرية وسمعية نبهني إليها الشاعر والناقد صلاح نيازي، هذا إضافة إلى كونها مترجمة محترفة وقد ظهرت مخايل الاحتراف على ترجمتها لرسائل والدها الراحل "سيرل بورتر. . العراق بين الحربين العالميتين". درستْ الفن التشكيلي في العراق وموسكو ولندن وحصلت على شهادة الدكتوراة في هذا المضمار. دأب كاتب هذه السطور كالعادة في التركيز على موضوع المُحاضَرة وجوهرها الذي يكمن في الرسائل وعدم الاشتطاط في الأسئلة والمداخلات الجانبية التي تنأى بنا عن لبّ الموضوع الذي اجتمعنا من أجله. كما نوّه إلى التوطئة العميقة و"الطريفة" التي كتبتها بورتر، لا لكي تفهم شخصية والدها الغامضة، وإنما لتعرف مَنْ هي أمل بورتر الكاتبة والفنانة والإنسانة قبل كل شيئ؟ أشار مُقدِّم الندوة إلى أن والدها سيرل كان يتوفر على إمكانية واضحة في السرد والكتابة القصصية، وثمة رسائل عديدة تصلح أن تكون قصصاً قصيرة لو أن الراحل أضاف لها بعض اللمسات الفنية والتقنية البسيطة.

استهلت أمل حديثها بالقول إنّ شخصية والدها بسيطة جداً، ولكنها غامضة جداً في الوقت ذاته، ومكمن الصعوبة في هذه الشخصية هي أن السهولة فيها مقترنة بالتعقيد. ثم استرسلت بالحديث المُسهب عن عائلتها حتى خَشيتُ أنها قد تنسى الرسائل التي وفدنا من أجلها! ولكن تبيّن لاحقاً أنها كانت تريد أن تحيطنا علماً بالمناخ الأُسري الحميم لها، وتشرح لنا خصوصية العلاقة بينها وبين والدها سيرل الذي أنجبت له زوجته سبعة أطفال تحتل أمل في هذا العدد التسلسل السادس. وحينما رأت أمل النور أُصيبت والدتها "لولو" بالكآبة فبدأ سيرل برعايتها شخصياً مما أفضى بالنتيجة إلى هذا التعلّق الذي سوف يصبح لاحقاً صداقة حميمة بين الأب وابنته القريبة من ذهنه وطريقة تفكيره. أشارت أمل إلى أنّ والدها يحب الحكاية مثلما هي تحب السرد الحكائي الذي يتناوبان عليه ويبنيانه حتى يصل إلى حدود "الفنتزة" والغرائبية اللامألوفة، لقد نمّى فيها روح البحث، وحرّضها على ضرورة التمتع بالحياة. لا تشك أمل البتّة في أن والدها أحبّ العراق ووقع في غرامه، وأراد أن يكون شاهداً على ولادته الجديدة. وأضافت بأنه كان يحب ثلاثة أشياء أساسية في حياته وهي "الهندسة، والنساء، والطعام"، ولكن عندما تقدّم به السن احتلت النساء المركز الأول في اهتماماته، فلاغرابة أن تتعود الأُسرة على وجود عشيقات في حياته كان يتآخى مع بعضهنّ ويصبحن خالات الأبناء والبنات في نهاية المطاف، كما هو الحال مع الفنانة سليمة مراد، التي عرضتْ صورتها مع كمٍ كبير من الصور الأخرى لترينا أنه كان يتهامس معها، بينما تحاول أمل الصغيرة سناً آنذاك أن تسترق السمع وتنال جرّاء ذلك بعض الصفعات الخفيفة على تلصصها غير البريء ربما!

ذكرت أمل بأن أول حُب في حياة والدها كان لفتاة من البصرة، ولكنها رفضت أن تسترسل في الحديث عن هذه القصة الرومانسية جداً لكي تغري الحاضرين بقراءة الكتاب. وأشارت إلى أنّ والدها، حديث الخدمة في الجيش البريطاني، لم يكن عسكرياً أصلاً، وإنما هو مهندس مدني، لكنهم منحوه رتبة عسكرية لإقناعه بالانضمام إليهم، فعائلة بورتر مهندسون في غالبيتهم، ويحبون الهندسة بشكل لا يصدّق حتى أن ابنها قد أصبح هو الآخر مهندساً.

أكدّت أمل بأنّ والدها لم يكتب هذه الرسائل لغرض النشر، وإنما هي شكل من أشكال البوح بينه وبين أختة دورا التي يعتبرها بمثابة أمه. "أنتِ لم تكون أختي الكبيرة فقط، بل كنتِ أمي، والرجل يستطيع مكاشفة أمه، أليسَ كذلك"؟ ص55. إذاً، لم يعرف أحد بأمر هذه الرسائل حتى زوجته " لولو"، وابنته القريبة منه أمل. لم تكن دورا امرأة عادية، ولا ترضى بالأشياء المألوفة، وقد وصفتها أمل بـ "الثورية" لأنها تقف دائماً ضد أي شكلٍ من أشكال الظلم والتعسّف، وتتوفر على ذهنية تحليلية متوهجة. أما عمّتها الأخرى "آيرين" فهي حالمة وشاعرية وتعشق المرح والحب والحياة. أشارت أمل إلى أن والدها كان يتحدث عن الهند بهُيام وكأنها عشيقة من عشيقاته، وحينما زارت الهند لاحقاً تأكدت من صحة ما يذهب إليه، ولكنها كانت تتساءل في قرارة نفسها، بعد أن تُوفي والدها، وقرأت الرسائل، وقررت أن تزور كامبريا في كارلايل موطن أفراد عائلتها، حيث اندهشت، وهي ترى هذه المنطقة الهادئة، الوادعة، الجميلة، وتساءلت في نفسها: "كيف عاش والدي في الهند حيث الصخب، والضجيج، والناس، والألوان المتناقضة، ثم جاء إلى العراق، البلد الذي يختلف في جغرافيته وعاداته الاجتماعية التي لا تسمح بظهور النساء إلاّ في حالات نادرة"؟ لقد رأى سيرل أول امرأة كانت تعمل على متن "الدُوبة" واعتبر رؤيتها في ذلك اليوم انتصارا. لذلك تستغرب أمل كيف استطاع والدها أن يتأقلم في العراق، ويهيم بحبه إلى درجة العشق والوَلَه. وتأكيداً على هذه التناقضات الصارخة أجد من المناسب الإشارة إلى ما قالته أمل عن مزاج والدها المتقلب، فحينما يمرض، وترتفع درجة حرارته، يتكلم بالإنكليزي، وينسى اللغة العربية يقول:

"I want to be near river Eden" (أريد أن أكون قرب نهر إيدِن) في كارلايل طبعاً، وحينما يكون متضايقاً من شيئ ما يصرِّح:  " I wish i was in India now "، وعندما يكون في ذروة النشوة يبوح: " Baghdad Is lovely". لقد عاش سيرل هذه التناقضات إذاً، لكنه كان يحب الحياة دائماً، ويستمتع بها، ويعتقد أننا يجب أن نعطيها حقها، وأن نأخذ حقوقنا منها. لم يكن بورتر هو المهندس الوحيد الناجح في العائلة، كما تؤكد أمل دائماً، وإنما معظم أفراد عائلة بورتر، ففي نهاية القرن السابع عشر كان أول من اخترع ماكينة لصنع الطابوق في كارلايل هو من آل بورتر، وأول من صنع ماكينة لتقشير حبوب القهوة من أسرة من آل بورتر أيضاً، وهذا يعني أنّ الهندسة كانت تجري في عروق هذه العائلة، وقد عززت أمل حديثها بالوثائق وبراءات الاختراع التي جعلتها في متناول أيدي الحاضرين.

شدّدت أمل على القول بأن والدها يكره السلطة سواء أكانت سياسية أو دينية، لذلك حذّر أبناءه منها لأنه يعتقد أن الإنسان يفقد إنسانيته حينما يصل إلى هذه السلطة، ولكنه يحبّذ العمل مع الحكومة ويرفض العمل مع الاحتلال، مثل جده تماماً، الذي رفض التعامل مع الحكم البريطاني رفضاً قاطعاً، وكان لا يؤمن بحكومة الاحتلال "الراج". وتوقفت أمل عند معلومة غريبة بعض الشيئ مفادها أن الهند لم تكن مُحتَّلَة بالكامل مثلما يتصور بعض منا، ذلك لأنّ جدها كان يعمل في مقاطعة مستقلة مع المهراجا وقد أسّس السكك الحديد في ميسور. لابد من الإشارة إلى أن حديث أمل كله تقريباً معزز بالوثائق والأسانيد فحينما ذهبت إلى الهند وجدت اسم جدها في السجلات الرسمية، هذا الأمر التوثيقي سينسحب إلى البحث والتنقيب عن عائلتي أبيها وأمها أيضاً. ذكرت المُحاضِرة بأن والدها سيرل رفض أن يعمل في أية مؤسسة غير حكومية حينما استقال من الجيش، لذلك رفض التعامل مع بيت "لنج"، وهم من أخوال أبيه لأنه يعتبرهم جزءاً من سلطة الاحتلال، وفضّل أن يكون مهندساً في مديرية البلديات العامة التي انهمك فيها إلى أن استقال بسبب المضايقات التي تعرّض لها من قِبَل المدير العام.

أشرنا قبل قليل إلى أن والد أمل كان مغرماً بالعراق، ومتعلقاً بأناسه البسطاء منهم على وجه التحديد، فهو لا يحب الأرستقراطيين في كل مكان تقريباً، كما كان يكره السلطة مهما كان شكلها سواء أكانت سياسية أم دينية، لذلك تعمّدتْ أمل أن تشير إلى مقدمة الكتاب التي كتبها الدكتور علي ثويني، وقالت إنّ فيها الكثير من الأخطاء والمغالطات التي لا تريد التوقف عندها طويلاً لأنها أشارت إلى ذلك في مقدمة الطبعة الرابعة لهذا الكتاب التي ستصدر ببغداد قريباً، ثم أنّ والدها لا علاقة له البتة في الموضوعات الحسّاسة التي وردت في متن المقدمة.

ذكرت أمل غير مرّة بأن علاقة سيرل بعمتها دورا علاقة خاصة أيضاً، فعند وفاة والدة دورا كان سيرل عمره أربع سنوات تقريباً فتولت هي عملية تربيته، وبدأ يعاملها معاملة الأم التي يبوح لها بكل شيئ تقريباً. تعترف أمل بأنّ عمتها دورا قد شغلتها كثيراً خصوصاً فيما يتعلق بالمعلومات الواردة في نهاية الرسائل والشكوك التي تيقنت منها بعد عملية البحث الطويلة والمضنية. أما عمتها الأخرى "آيرين"، العاشقة الحالمة التي تحب الحياة جداً، فقد ذكرتْ في دفتر يومياتها الصغير عام 1903، الذي جلبته المُحاضِرة كوثيقة، أن قصائد الشاعر عمر الخيام هي من أجمل أشعار الحب التي قرأتها في حياتها، وتبدو آيرين من الناحية العاطفية أقرب إلى سيرل من عمّتها دورا، المرأة العملية التي تُعنى بالقضايا الحياتية العامة.

أشارتْ أمل بأن أباها تعرّف إلى عدد من العوائل الآشورية والكلدانية وقد اختار من بين نسائهم زوجته الأولى "غزالة" التي وصفها بأنها طويلة، وسمراء، وخجولة بعض الشيئ، وذات عينين واسعتين فيهما الكثير من الحنان. وحقيقة الأمر أن سيرل سوف ينجذب لاحقاً إلى نساء أخريات يحملن جزءاً غير قليل من هذه المواصفات الجمالية لعل أبرزها صفة الأعين "الشهرزادية"، وربما السومرية التي استقرت في عقله الباطن، وبصيرته الداخلية العميقة. في أثناء حديثها عن الحقبة الملكية أشارت أمل إلى رسالة جاك لشقيقه سيرل مُذكِّراً إياه بحقيقة دامغة مفادها: "لقد قلت إنكم استوردتم ملِكاً من دولة مجاورة، ألم نستورد نحن ملوكنا من أوروبا، ونحن سعداء بهم؟ لا أفهم سبب عدم الرضا".ص141 ويعتقد جاك احتمال تأثير الدعاية الروسية على أفكار الناس في العراق، فالبصريون، كما هو معروف، استقبلوا الملك فيصل الأول استقبالاً بارداً لم يصفق فيه أحد، وقد وصفه سيرل وصفاً دقيقاً وهذا جانب من ملاحظاته الذكية بـ "لقاء غريبين لا يعرف أحدهما الآخر"! وكان سيرل يعتبر هذه العملية تسوية سياسية لأن إنكلترا نكثت بوعدها، وأعطته حكم سوريا، لكن السوريين رفضوه فلم يكن أمام بريطانيا التي ينعتها بحكومة المؤامرات غير أن تخلق العراق، وتنصِّبه ملكاً عليه، وهي تعتقد بصحة هذا الرأي، وتثق بتحليلات والدها كثيراً.

875-adnan1

سألت أمل والدها عن سبب عدم حبه لإنكلترا فكان يقول: ""Well they don’t have yoghurt" وهي تعتقد أن هذا الجواب بسيط، لكنه عميق في الوقت ذاته، إذ أصرّ على البقاء في العراق والزواج بامرأة عراقية إلى أن جاءته صعقة الحُب على أحد جسور بغداد التي التقى فيها بأم أمل السيدة لولو فتح الله زنبقة، وكان شقيقها الأكبر يمازحهما بالقول: "أنتِ بياتريس وأبي دانتي التقيتما على الجسر".

ذكرت أمل أنه من غير الإنصاف أن تبحث عن تاريخ والدها من دون أن تبحث عن تاريخ والدتها فوجدت أنّ والدها ينحدر من حلب، وقد سكنوا في بيروت، لكنهم قدِموا إلى العراق حينما حدثت المجاعة الشهيرة في لبنان، وقسم منهم يقطن الآن في الأردن، بينما يقيم قسم آخر منهم في حلب، وقد استقبلوها بكثير من الإعجاب والدهشة، لكن ما يدور في الوطن العربي الآن من اضطرابات منعها من مواصلة البحث. جدير ذكره أنّ أخاها الموسيقار لويس زنبقة هو ملحن أول سلام جمهوري في العراق وكان يعزف على آلة المتردِّدة "Trombone". وعلى الرغم من أنّ عائلة غالبية آل بورتر لا يتناولون الكحول في كارلايل إلاّ أنّ العراقيين علّموا سيرل على تناول "العرق المستكي"، خصوصاً وأن منزله قد تحول إلى مكان للطرب والمرح والحفلات الاجتماعية. لم تقتصر الأفراح والمسرات على البيت حسب، وإنما كان يصطحب العائلة كلها إلى ملهى عبدالله، وحينما تحتج أمل متذرعة بالتعب والحاجة إلى النوم كان يجرجرها ويقول: " You have to enjoy your self" عليك أن تتمعي بالحياة.

ذكرت أمل بأنّ الجيش البريطاني عرض على والدها العمل معهم في الحبانية لكنه رفض، بينما وافق على العمل كمهندس كهرباء في كركوك ووعدهم بأنه سوف ينوِّر المدينة خلال ستة أشهر، وحينما استضافوها في البي بي سي للحديث عما يدور في العراق عام 2003 قالت لهم: "إذا نوّرتم العراق خلال ستة أشهر وأنتما قوتان عظميان "أميركا وإنكلترا" فهذا يعني أنّ العراق سوف ينجح، لكنكما خذلتمونا عندما تركتم العراقيين يغرقون في ظلام دامس".

عرّجت المُحاضِرة مرة أخرى للحديث عن والدتها لولو فتح الله التي كانت جميلة وظلّت محافظة على جمالها لمدة طويلة جداً، وكان سيرل متعلقاً بها إلى حدّ العشق على الرغم من نزواته العابرة، بل كان يتضايق حينما تزور أهلها ليوم أو يومين، وأشارت إلى علاقته الحميمة بالفنانة سليمة مراد التي حافظت على صداقته، وظلّت تتردد على بيتهم، وتغني لأمل أغنيتها المفضلة "هذا مو أنصاف منك". وحينما يسافر والدها إلى أوروبا كان يشعر بالحنين إلى العراق، بل أنه كان يسأل ابنته كل يوم عن موعد سفرهما. وقد وصفت أمل هذا التعلّق الغريب بتعلّق طفل صغير بشيئ يحبه كثيراً، وتعلل سببه بأنه كان يشعر في داخله بأنّ الإنكليز قد غدروا العراق مثلما غدروا الهند أيضاً.

تنطوي قصة البحث التي قامت بها أمل عن آل بورتر في كارلايل على مفارقة مدهشة، فبينما هي منهمكة في البحث عن أهلها وذويها من جهة الوالد نصحتها موظفة الاستعلامات بالذهاب إلى قسم التسجيل السكاني لمقابلة المدير جوني ووكر الذي احتار أول الأمر وقال لها لا أدري كيف أجد لكِ آل بورتر والعديد من سكان المدينة يحملون هذا الاسم، ولكنه فجأة اتصل بصديق اسمه برايان وقال له: "هنا سيدة من العراق اسمها أمل بورتر" فسمعتْ جواب الطرف الآخر يقول: "إنها ابنة عمي، لا تدعها تخرج أبداً وأريد أن أراها". حينما سمعت أمل هذا الجواب أوشكت أن تنهار، وبدأت الدموع تنهمر من عينيها، وأرتنا صورته على الشاشة الكبيرة في أول يوم التقت معه، ولا يزالا أصدقاء حتى هذه اللحظة. لم تكتفِ أمل برسائل والدها، وإنما كانت تذهب للمكتبة البريطانية وتتأكد من كل معلومة فيها، كما ذهبت إلى الهند وعرفت السبب الذي يقف وراء عدم تعميد والدها إلاّ بعد شهرين واكتشفت أن أمه عادت إلى إنكلترا لكي تنجبه هنا، لأن الشخص المولود خارج إنكلترا لا يحق له أن يصبح نائباً في البرلمان البريطاني. ختمت أمل محاضرتها بالقول بأن أعمام والدها هم أصحاب شركة "بورتر إنجنيرينغ" التي استمرت نحو 200 سنة، لكنهم اضطروا لاغلاقها عام 1991 بعد أن ضؤل وجودهم، وقلّت اهتماماتهم في هذا المضمار.

لم يُتَح لأمل بورتر أن تتوقف عند غالبية المواقف أو المعلومات المهمة التي وردت في كتاب "رسائل سيرل بورتر"، فقد تحدثت عن عدد محدد من النساء اللواتي أحبهن سيرل وكان حري بها أن تتوقف عندهن جميعاً بدءاً من رجاء، مروراً بغزالة ولولو وركزان وانتهاء بخزعلية. ثمة شخصيات أخرى مهمة كان لابد من الإشارة إليها مثل الدليل إبراهيم الذي لا يخفي ميله الشديد لحياة اللهو والمرح، وهارتيون الأرمني الذي يتحدث عن فجيعة الأرمن، ويسرد قصة البدوي النبيل الذي افتداهم بجلد خروف وأخلى سبيلهم من الجندرمة الأتراك. أما ملاحظاته الثقافية والاجتماعية والسياسية والدينية وحتى النباتية حينما يتحدث عن شجرة الدفلى التي جاؤوا بها من الهند أو شجرة السدر التي يقدِّسها العراقيون لاعتقادهم بأنها سدرة المنتهى التي تنتصب إلى يمين العرش الإلهي فهي جديرة بالبحث والقراءة والتحليل.

 875-adnan4

أسئلة ومداخلات

بعد انتهاء الفنانة والكاتبة أمل بورتر من محاضرتها عقّب كاتب هذه السطور على بعض المواقف والملاحظات الدقيقة التي وردت في متن الرسائل التي كتبها سيرل بورتر خصيصاً لدورا وبقية أشقائه وقال:"إنَّ هذا الكتاب ينقسم إلى ثلاثة أقسام أو صفحات بحسب توصيف المترجمة أمل بورتر، فالصفحة الأولى هي "صفحة الحرب والاحتلال" التي تبدأ منذ دخول القوات البريطانية إلى الفاو يومي 5 و 6 / 11 / 1914، وحركتها باتجاه مدينتي الناصرية والعمارة ووصولاً إلى الكوت، والصفحة الثانية هي "صفحة بغداد" التي تبدأ من دخول القوات البريطانية إلى بغداد والصفحة الثالثة والأخيرة هي صفحة "كركوك". لا يمكن للسيدة بورتر أن تتوقف عند كل الأشياء المهمة في الكتاب فهي كثيرة بمكان بحيث لا يمكن حصرها تماماً، ولكن أنا أحببت الإشارة إلى أنَّ سيرل كان دقيق الملاحظة بشكل لا يصدق، وهذه الملاحظات تساعدنا على فهم الشخصية العراقية بقدر أو بآخر، فحينما نزل في مدينة الفاو والمناطق المجاورة لها اكتشف أن الرعاة يمشون أمام قطعانهم بينما الراعي في بريطانيا يمشي خلف القطيع، وكأنّ الدكتاتورية لها دخل في ذلك لأن الدكتاتور هو الذي يتقدم القطيع دائماً، وإذا سقط في حفرة نسقط معه فلهذا يمشي في المقدمة، بينما في إنكلترا يمشي الراعي خلف القطيع مباشرة بسبب أنظمتهم الديمقراطية حيث يتعلمون دائماً أن لا يمشوا خلف شخص آخر.

أمل بورتر: كان والدي يثير هذا الموضوع دائماً، وحينما أستفهم منه عن الفرق كان يقول إنّ القطيع يعرف المكان المناسب له، ويعرف ماذا يختار، وماذا يريد أن يأكل، وعلى الراعي أن يلبّي رغبة القطيع ويطيعه، ويجب علينا أن نعطي الخروف أو أي حيوان آخر الحرية في اختيار ما يريد، وهو تأكيد لكلام الأستاذ عدنان حينما قال إنه نوع من الديمقراطية التي يستمدها الراعي من نظام البلد الذي يعيش فيه.

دأب كاتب هذه السطور في غالبية الندوات الثقافية والفنية والفكرية على أن يتدخل في الوقت المناسب بحيث لا يسطو على وقت المُحاضر من جهة، ولا يستعرض قدراته الذهنية أو معلوماته الثقافية من جهة ثانية لذلك اغتنمَ الفرصة لكي يسد الثغرات البسيطة التي لم تغطِها المُحاضرة، ليس نتيجة للتقصير أو عدم الإحاطة، وإنما نتيجة للحشد الكبير من المواقف والمعلومات التي تتوفر عليها الرسائل، لذلك استثمر مقدِّم الندوة الفرصة المتاحة ثانية لكي يمرِّر للحاضرين بعض المعلومات الذي يعتقد أنها تصّب في صلب الموضوع وتخدم السياق العام للمحاضرة حيث قال: "حينما حطّ سيرل في القرنة ولاحظ التقاء دجلة بالفرات انتبه إلى لون الماء، ويبدو أنه كان يمتلك عيناً تشكيلية فعلاً، بحيث لاحظ أن لون مياه نهر الفرات بني أو أميَّل إلى اللون الترابي، بينما مياه دجلة زرقاء صافية، ولاحظ أيضاً الخط أو البرزخ الذي يفصل بين الماءين إن صح التعبير. كما انتبه إلى شجرة آدم الموجودة في القرنة والتي نُسجت حولها عشرات الأساطير التي ابتدعتها الذاكرة الشعبية. وهكذا تستمر ملاحظات سيرل بهذه الدقة اللافتة للانتباه، وحينما أجرّ بيتاً في العراق لاحظ أن أسنان المفتاح في العراق إلى الأعلى، وليس إلى الأسفل كما هي العادة في غالبية بلدان العالم، والغريب أن مالك الدار "اللاند لورد" حينما جاء مع سيرل كان قد نسي المفتاح فطلب من الجار أن يعيرهم مفتاحه لكي يفتحوا به الباب، فياتُرى، ما فائدة المفاتيح إذاً إذا كان مفتاح باب الجار يفتح باب بيته؟ هناك ملاحظات كثيرة لا تقتصر فقط على الجانب السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو الديني، فقد كان سيرل هو أول من رصد هذا النسيج العراقي المكون من عدة قوميات وأديان وطوائف وما إلى ذلك، هذا إضافة إلى رصده لكثير من القصص والحكايات التي ينطوي على مفارقات حقيقة، وعندما يرصد هذه الأشياء كان ينقلها كما هي بأمانة وصدق من دون أن يُدخل الجانب العاطفي فيها وهذه صفة أوروبية على وجه التحديد، بينما نحن الشرقيين عاطفيون أكثر من اللازم، أما هم عقلانيون وذهنيون".

875-adnan2

أمل: قبل أن تسألونني وأنا مستعدة للإجابة على أي سؤال يخطر ببالكم، لكنني أود أن أروي لكم هذه الحادثة التي علاقة بملاحظة سيرل لبعض الظواهر أو الحالات التي تتعلق بالشخصية العراقية وطريقة تفكيرها وعملها. كان سيرل يعمل في السكك الحديد في بغداد وكان من ضمن واجباته أن يدرِّب العمّال العراقيين كيفية شدّ المكائن ونصبها، وتشغيل القطارات وما إلى ذلك، وكان يبدأ هذه العملية بالتسلسل كأن يفتح الصناديق الخشبية، ويخرج الماكينات، ويبدأ بالشد والنصب خطوة خطوة، وحينما يأتي دور العامل العراقي الذي يرى الماكينة مفككة يبدأ في العمل بالسبّ والشتم على مساعديه، ولا ينصب الماكينة على وفق التسلسل الطبيعي الذي علّمته إياه، وعلى الرغم من بقاء براغٍ وصامولات غير مشدودة، لكن الغريب في الأمر أنّ الماكينة تبدأ بالعمل حينما يشغلها"! (ذكر سيرل في رسائله المتعلقة بهذا الخصوص بأنه كان يعتمد كثيراً على العمال الآشوريين والكورد والتركمان الذين يتنقون مثل هذه الأعمال، ويحرصون على إنجازها بدقة متناهية).

سعدي عبد اللطيف: أثار الأستاذ سعدي عبد اللطيف سؤالاً جانبياً اعتقدتْ السيدة أمل بورتر أنه يقع خارج نص الرسائل ومن حقها أن لا تجيب على أي سؤال أو استفسار يقع خارج موضوع المحاضرة، لكنني انتبهت إلى وجود شخصية كانت مختبئة في منزل سيرل في كركوك أجد من المناسب الإشارة إليها واقتباسها علّنا نضع سؤال الزميل عبد اللطيف في نصابه الصحيح، خصوصاً وأن جوهر السؤال ينصّب على علاقة وليم بالرفيق فهد. فبينما كانت لولو تنبِّه سيرل بأن وضعْ ولدهما وليم غير مستقر، ولم يكمل دراسته العليا، ويبدو أنه متورط في نشاطات سياسية محظورة، وبدأ يترك وظيفته من دون أعذار مشروعة، وأنه آخر مرّة جاء فيها إلى كركوك "وبعد ساعات من وصوله وصل صديق له غريب الأطوار، إذ لم يخرج من البيت لمدة ثلاثة أيام، وبقي طوال الوقت في إحدى الغرف الصغيرة والمنزوية من البيت في جناح الضيوف، كان وليم يأخذ له الطعام وعندما نسأله لمَ لا يشاركنا المائدة؟ كان صديقه يدّعي أنه يعاني من الصداع وحتى ليلاً لم يخرج أبداً، إلاّ أنّ الكثير من أصدقاء وليم كانوا يزورون هذا الضيف ويجلسون ويتحدثون ساعات طويلة". ربما يكون هذا الضيف هو الرفيق فهد فعلاً لأنه كان يحرص على الاختباء من جهة ولابد أن يكون شخصاً مهماً، كما أنّ الكثير من أصدقاء وليم كانوا يزورونه ويتحدثون إليه ساعات طويلة، وهذه الساعات الطويلة تشير أيضاً إلى أهمية موقعه القيادي.

أمل: هذا السؤال يقع خارج نص الكتاب، ولكن ليس لدي مانع في الإجابة عليه. كان والدي ضد السياسة، ومثلما أشرت أكثر من مرة بأنه لا يحب السياسة، ويعتقد أنها تخرّب النفوس. كان لأخي الكبير وليم صديق قريب جداً منه. وأتذكر حينما كنت طفلة صغيرة في كركوك، لا أعرف السنة بالضبط، جاء هذا الصديق مع وليم من بغداد إلى كركوك، وكان هذا الصديق لطيفاً واعتيادياً رحبت به العائلة، وبقي في البيت لبضعة أيام. كنت أجلس في حضنه، وألعب بشاربه، وأقول له: "أنت عندك شوارب مثل أخي وليم" فكان يرّد ويقول: "لا، أنا شواربي أكبر" وكان يضحك معي كثيراً، وحينما غادر البيت اكتشف والدي بأنّ ذلك الرجل الذي كان مختبئاً في بيتنا هو الرفيق فهد! وكان اختيار مكان اختبائه صحيحاً لأنه منْ يفكر في تفتيش بيت شخص إنكليزي صادف أن يكون الرفيق فهد مختبئاً فيه؟

حسن الجرّاح: هل هناك رسالة معينة تجاوزتِها في الترجمة لسبب ما؟

أمل: أنا ترجمت كل الرسائل، وكان قسم منها ناقصة، والقسم الآخر منها مفقودة وغير متسلسلة، ولم يكن سهلاً عليَّ أن أرتبها، ولكنني ترجمتها كلها ولم أترك أي شيئ من الرسائل التي وقعت تحت يدي، إلاّ أنني لم أعلِّق عليها لأنني لا أمتلك الحق في أن أتدخل، بل كنت أشعر أن أخوتي على صواب حينما يعترضون عليّ لأنه ليس من حقي أن أنشر هذه الرسائل الشخصية التي لم يكتبها للنشر، ولكن ظروفي الخاصة الصعبة في العراق التي ضاعت فيها الرسائل، وظروف العراق السياسية هي التي دفعتني لأن أترجم هذه الرسائل وأنشرها كلها، ولم أبقِ أية رسالة غير مترجمة. وقد أحسست بها كلها لأنّ نفَس والدي فيها.

كريم رشيدي: عرضتِ الكثير من الصور في المحاضرة، بينما أخذ الحديث عن الرسائل مساحة أقل، ما السبب الكامن وراء هذا التقسيم غير المتوازن زمنياً؟

أمل: أنا أحببت أن أضعكم في الصورة لأنني لا أستطيع أن أتحدث عن الرسائل كلها، فالكتاب يضم أكثر من مئتي صفحة، وفيه الكثير من المعلومات والتفاصيل الصغيرة التي قد تأخذ مني ساعات طويلة لو تحدثتُ عنها. لقد أحببت أن أريكم شكله، وشكل زوجته الأولى والثانية التي هي أمي، وقد أدخلتكم جميعاً إلى بيتنا حتى ترون هذا الإنسان الذي أحبّ العراق ومات فيه. أردت أن أحيطكم علماً بتصرفاته اليومية، وعِشقه للنساء، ووجود سليمة مراد، نجمة الغناء العراقي في بيتنا، وكذلك الطبيعة المرحة التي كان يبثها في كل مكان يحّل فيه.

هوشيار: هل جاء والدكِ، السيد سيرل، يرحمه الله، إلى العراق مع القوات البريطانية الموجودة في الهند أم في إنكلترا؟

أمل: أبي جاء مع القوات البريطانية التي كانت معسكرة في الهند، ولكنه لم يكن عسكرياً، فهو مهندس مدني أصلاً وواجبه كان ينحصر في الطرق والجسور، وهو لم يقاتل مع القوات البريطانية مطلقاً وقد ذكر هذا الأمر في الرسائل. لقد وُلد والدي في إنكلترا، ولكن تعميده تمّ في الهند، وقد ذكرت قبل قليل أنه إذا لم تسجَّل الولادة في إنكلترا فإنه لا يستطيع أن يكون عضواً في البرلمان البريطاني، لكن جدي قرر أن يذهب للهند للعمل ومدّ سكك الحديد، لأن القطارات لم تكن موجودة هناك، كما أنه رفض العمل مع الاحتلال، وعندما تعرّف على زوجته وهي من بين "لنج" بقي جدي في الهند، وعندما ذهبتُ إلى "ميسور" وجدته صورته التي وضعوها في إحدى المحطات الأولى التي أسسها هو، ولكن بعد استقلال الهند رُفعت هذه الصورة وهي موجودة الآن في أرشيف القصر.

عدنان: كان كاتب هذه السطور يستثمر بعض الدقائق القليلة جداً ليزوّد الحاضرين ببعض المعلومات المهمة التي تسلّط الضوء على جانب من جوانب الكتاب الذي يتسع في حقيقة الأمر إلى أكثر من محاضرة فقال إنّ هذه الرسائل كان يكتبها سيرل إلى شقيقاته وأشقائه الموجودين في مدينة بنكلور الهندية، وقد بدأها في نهاية عام 1915 ثم توقفت في أواسط الأربعينات من القرن الماضي، أي أنها امتدت إلى أربعة عقود، وغالبية هذه الرسائل كانت موجهة إلى السيدة "دورا"، هذه المرأة المثقفة التي تتابع جزءاً كبيراً مما يُنشر في الثقافة البريطانية وفي صحافتها أيضاً، فمثلاً كانت تقرأ نتاجات فيرجينيا وولف، الكاتبة الشابة آنذاك، وهذا الكلام عن ولعها بالقراءة وجمع المعلومات سوف يقودنا بالنتيجة إلى جابمن، هذه الشخصية الغامضة والغريبة والمختبئة في مدينة كركوك والتي تنتهي بها الرسائل بعد أن تكشفها وتعرّيها، فنهاية الكتاب هي أقرب إلى النهايات البوليسية المثيرة الصادمة، هذا إضافة إلى أن العدديد من رسائل هذا الكتاب تصلح أن تكون قصصاً قصيرة ناجحة فنياً لأنها تتوفر على مجمل اشتراطات القص، واللغة السردية المتدفقة، والبناء الرصين للأحداث والشخصيات، والنهايات التنويرية المدهشة التي تنطوي على مفاجآت كثيرة.

سامية الأطرش: نعتِّ الوالد بأنه زير نساء، لكنكِ لم تتحدثي إلاّ عن سليمة باشا فقط، هل في كتابك أسماء ثانية لنساء أخريات؟

أمل: نعم، توجد شخصيات عديدة في الكتاب، كما أن هناك شخصية يذكرها جميع أفراد العائلة، ولكن ليس بحضور الوالد، لأنه يرفض أن نذكرها، وعندما تقرأوا الكتاب سوف تعرفونها حتماً. (وعلى الرغم من هذا التحفّظ والتشويق إلاّ أمل كشفت اسم هذه المرأة ولم تستطع التستر عليه لمدة زمنية أطول) ثم مضت أمل إلى القول: "هي إنسانة بسيطة، ولم تكن من عائلة كبيرة، واسمها خزعلية، وقد ترك والدي والدتي بسببها لمدة خمس سنوات حيث عاش مع خزعلية التي كانت بائعة هوى، كما كانت صغيرة جداً وجميلة جداً في الوقت ذاته. كان والدي في البيت يحب كل الأكلات ماعدا الباميا التي كان يمنع دخولها إلى البيت، وحينما يسافر كنّا نشبع من أكل الباميا. كان والدي متعلقاً جداً بالأطفال، وكان يأتي يومياً لزيارتهم والاطمئنان عليهم، وذات يوم أخذ معه أخي الأكبر أرشد، الذي سمّاه بالمناسبة على اسم صديقه أرشد العمري، وكان عمره ثلاث أو أربع سنوات، وحينما عاد في نهاية النهار سألته والدتي، التي كانت زعلانة من والدي طبعاً، سألته إن كان قد تغدى أم لا؟ فأجابها بأنه أكل باميا! وحينما استفسرت منه أين أكل الباميا؟ أجاب: في بيت خزعلية! ثم أضاف بأن أباه أكل أكثر منه! كان يحب سليمة باشا أيضاً، ويفضل الاستماع إلى كل أغانيها وأن أغنيته المفضلة "طولي ياليلة"، وثمة نساء أخريات قد يطول الحديث عنهنّ.

عمر صكبان: هل كان سيرل متحفظاً في علاقاته النسائية، وكيف كان يوفق بينهن؟

أمل: أعتقد أنه كان فريسة سهلة للمرأة العراقية، والسبب في ذلك أنه إنكليزي، والمرأة التي تريد أن ترتبط معه بعلاقة عاطفية تعرف مسبقاً أنه لن يفضحها، كما أنه على الصعيد الشخصي يحب المرأة العراقية بصدق ويعتبرها جميلة. وفي بيت "لنج" حينما يأتون على ذكر النساء الإنكليزيات ذوات الشعر الطويل، والعيون الزرق، والطول اللافت للنظر، والرشاقة الجسدية، وشقرة البشرة، كان لا ينتبه مطلقاً إلى هذا الكلام، وحينما كان أخي يحب أن يشاكسه يقول له: "أنظر إلى هذه الجميلة الشقراء"، كان يرّد: إي ثلاجة! (في إشارة واضحة إلى برود المرأة الأوروبية).

كريم عبد: هل لديك مشاريع مشابهة لرواية "دعبول" التي تتناول شخصيات بغدادية، خصوصاً وأنك تتوفرين على عفوية واضحة في نقل المكان، وتأثير هذا المكان على الإنسان؟ وهل شاهدت مسلسل "سليمة باشا" الذي عُرض في رمضان الماضي؟

أمل: إنني أشتغل الآن على رواية جديدة، أما عن المسلسل فلم أرَه لأنني امتنعت عن مشاهدة التلفزيون منذ مدة طويلة والسبب هو ضعف مصداقية هذا الجهاز، وإذا شاهدت التلفزيون فأنني أعرف بأنني سأتألم، (فلا عين التشوف ولا قلب اليحترق).

أميل كوهين: مسلسل "سليمة باشا" كان قصة مختلقة، وليس فلما وثائقياً لكي ينقل الحقائق كما هي.

أمل: أنا لم أرَ المسلسل كما ذكرت، ولذلك لا أستطيع الحكم عليه. ومثلما ذكر الأستاذ عدنان في معرض حديثه عن رواية "سوسن وعثمان" التي تؤرخ لحقبة زمنية معينة وقد كتبت هذه الرواية بروحية خاصة. بالمناسبة أنا أكتب رواية الآن، وأريد أن أحدثكم عنها وعن طبيعة الأجواء التي تحيط بي في أثناء الكتابة. فأنا حينما أدخل في مناخ الكتابة الروائية أعاني، وأبكي، وتنهار أعصابي لأنني أتخيل الأحداث حقيقية. في العراق هناك عدد من القوميات والأديان والطوائف، وأنا تربيت في بيت عربي، وهذا يعني نحن "لا كلدان، ولا سريان ولا آثوريين"، وإنما نحن عرب بحكم جدتي عربية، وكانت تفتخر بعروبتها إلى أن وافتها المنية، بل أنها كانت تبكي على الشيخ خزعل الذي اختطفته السلطات الإيرانية آنذاك. إذاً، لا أستطيع أن أخرج عن هذا الجو العربي، لكننا نحن المسيحيين المتمركزين في بغداد والبصرة تحديداً لهجتنا هي أقرب إلى الفصحى، ولكنّ هذه اللهجة انقرضت تقريباً أو سوف تنقرض، وربما حينما أموت أكون آخر إنسان يتكلم هذه اللهجة، لذلك بدأت أكتب روايتي الجديدة باللهجة المسيحية العربية، وليست اللهجة المسيطرة الآن التي لا علاقة لها باللهجة التي نتكلمها في منازلنا في محاولة لتوثيق هذه اللهجة على الرغم من أن الرواية تؤرخ لفترات وحقب زمنية مختلفة مرّ بها الشعب العراقي وكانت غالبيتها مؤلمة مع الأسف الشديد.

875-adnan3

سامية الأطرش: حينما تكتبين عن العراق هل تذرفين دمعة لأنك تشعرين بالغربة مثلاً؟

أمل: أنا لا أشعر بالغربة في أي مكان، لأنني ابنة هذه الأرض، فأي أرض ممكن أن تحتويني وأتمتع بالعيش فيها. أنا أحاول أن أحيا بمتعة في أي مكان. أما عندما أقول أبكي فأنا لا أبكي الغرب، وإنما أبكي الواقع. الغربة بالنسبة لي تعني الإنسان الذي لا يحاول أن يستفيد من المحيط الذي يعيش فيه. لقد عشت في دول عديدة ولم أشعر في أي منها بالغربة أبداً لأنني أحاول أن أستثمر الواقع الجديد، ولا أحاول أن أبكي أو أقضي وقتي في ذرف الدموع. أنا لديّ سكرتيرة جميلة جداً، ليس بشكلها حسب، وإنما بأخلاقها العالية اسمها "بولا" وهي التي "تمّشي" حياتي، وبيدها كل شيئ، فأنا لا أعرف قوائم الماء والكهرباء، ولا أعرف رصيدي في البنك، ولا أعرف مواعيد سفري وجدول تحركاتي فهي التي تنبهني على كل هذه التفاصيل الصغيرة. وذات يوم وأنا منهمكة في الكتابة دخلت عليّ "بولا" ورأتني أبكي بحرقة فقالت: "ماذا حدث"؟ قلت: "اغتصبوها"، قالت: "منْ"؟ قلت: (هؤلاء الرجال الثلاثة اغتصبوا "شموني")، ثم قالت: "هل رأيتهم"؟ فانتبهتْ وقلت لها "هذا ما يحصل في الرواية"! التقطت "باولا" أنفاسها وقالت: " I’m going home"، "إنني ذاهبة إلى المنزل".

عدنان: " أظن وأتمنى أن يكون ظني صحيحاً بأنني أحاول لملمة المحاور الأساسية التي ينطوي عليها موضوع المحاضرة لذلك أثرت السؤال التالي:" لماذا أحبَّ سيرل بورتر العراق إلى هذه الدرجة، ولماذا قرّر أن يُدفن في تربة العراق، ولماذا كره الطبقة الأرستقراطية كثيراً في إنكلترا وحتى في العراق أيضاً حتى لم يلتقِ بغيرترود بيل لأنها كانت متغطرسة ومتعجرفة وأرستقراطية؟

أمل: هذا شيئ يدور في عائلة آل بورتر كلها تقريباً، ولا أدري لماذا، فابن عمي حينما حصل على "أم بي آي" قال إنني لا يهمني قصر بكنغهام ومصافحة الملكة مع احترامي الشديد لها، لكن ما يهمني هو ما قمت به وأنجزته مع الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة، فهو يعمل مع الأطفال الذين لديهم صعوبة في التعلّم. ويبدو أن هذا الأمر يسري على عائلة بورتر كلها، فوالدي يكره الطبقة الأرستقراطية، ويعتبرها طبقة نفعية تعيش على الغير ولا يحبها لهذا السبب. يحاول غالبية آل بورتر أن يصنعوا، وينتجوا، ويتعلموا، ويقدموا خدماتهم للآخرين. بالمناسبة اكتشفت أن جزءاً من عائلة بورتر فرنسي، وقد هجِّروا من فرنسا وأضطهدوا لأنهم كانوا بروتستانت، وليسوا كاثوليك. القصد إن الإنسان حينما يعيش في مكان ما يجب أن يخلص له، ويجب أن يفيد ويستفيد منه أيضاً. كان العراق في تلك الحقبة أشبه بالعلبة الفارغة التي كان سيرل يشاهدها وهي تمتلئ أمامه، وكان والدي يتمتع بمشاهدة هذا البلد وهي ينبني أمامه على الرغم من أنه كان يشعر بخيبة أمل في الفترة الأخيرة إلاّ أنه كان يتمتع بعملية البناء والتشييد، وخاصة في الجوانب الهندسية لأن العراق كان خالياً من الهندسة تقريباً. لقد أحبّ والدي العراق، ودُفن فيه لأنه مقتنع تماماً بأنّ الإنسان حينما يموت في أية أرض يجب أن يُدفن هناك، فالأرض هي الأرض حيثما ذهبت.

سعدي عبد اللطيف: لدي سؤال محرج بعض الشيئ، ولا أدري إذا كنت تستطيعن الإجابة عليه أم لا. ما هي معلوماتكِ عن لورنس العرب؟

أمل: أنا ليست لديّ معلومات عن لورنس العرب، ولكن لدي معلومات استقيتها من رسائل والدي الذي كان يحتقره جداً، وكان يقول عنه أنه من المتآمرين. أما وجهة نظر والدي عن المستشرقين فكان يعتقد أن لديهم "أجندات" خاصة، ويقول بأنّ هؤلاء لا يعرفون الهندسة ولا معنى التطور. كما كان يكره المس بيل ويعتبرها، من وجهة نظره، سبباً في عدم تطور العراق آنذاك.

أحمد هاشم: أريد أن أعرف أين دُفن الوالد يرحمه الله؟

أمل: دُفن في بغداد، وتحديداً في مقبرة في الباب الشرقي.

حيدر فاضل: ليس لدي سؤال، ولكن أريد أن أعقّب على ملاحظة الرعاة والقطعان التي أوردها الأستاذ عدنان بأنّ القطيع في العراق يمشي وراء الراعي بعكس القطيع في إنكلترا الذي يمشي أمام الراعي. أنا أقول أن السبب ليس في الراعي دائماً، بل في القطيع الذي يمشي وراء الراعي أيضاً!

عدنان: انتهت الرسائل بجابمن، الشخص الغريب والمثير والغامض، بينما كانت لورا، شقيقة سيرل في بنكلور الهندية، لكنها اكتشفت أنّ هذا الرجل على صلة بجهات مخابراتية وأمنية بريطانية، كيف توصلتْ دورا إلى هذه النتيجة اللافتة للانتباه؟

أمل: كانت الصحف البريطانية تصل إلى بنكلور، وكانت دورا تتابعها بانتظام وتجمع المعلومات. وحينما قمت بالبحث وجدت أنّ الغارديان كانت تكتب بحدة أكثر مما هي عليه الآن. كنت، أنا شخصياً، أقرأ الغارديان باستمرار، ولكنني قاطعتها منذ شهر أو شهرين، وقد كتبت رسالة لهم أخبرتهم فيها بأنني أشتري الغارديان يوم السبت، ولكن قطتي تنام عليها ولا تدعني أقرأها، كما أنني أشعر بأنّ الغارديان لم تعد لها تلك المصداقية التي كانت تتمتع بها منذ سنين طويلة خلت. قطتي منحازة للغارديان، أما أنا فلا أشعر بأنها تمتلك ذلك التوازن، وهذا طبعاً رأي شخصي، فربما أكون أنا التي تغيرت، وليس الغارديان لا أدري! على الرغم من أنّ ابني يأتي بها كل سبت، ولكنني أتفادى الدخول معه في نقاشات عن هذه الصحيفة، وقد كتبت لهم اعتراضاتي المتعددة، لكنهم يتجاهلونني دائماً. بالمناسبة ابن أختي مراسل الغارديان الحربي وقد أصيب في الفلوجة. ومع أنّ الغارديان ليست موضوعنا لهذا اليوم، إلاّ أنني أقول بأنها كانت تكتب بحدة وبمواجهة أكبر. أما بصدد دورا فقد اعتمدت على ما تنشره الصحف البريطانية ثم تقوم بتجميع المعلومات وتحليلها، وقد توصلت من خلال هذه الخيوط المبثوثة في هذه الصحيفة أو تلك إلى هذه النتيجة التي قرأناها في الرسالة الأخيرة. أنا شخصياً بحثت، ولكنني لم أذكر هذا البحث في الكتاب لأنه لا علاقة له برسائل سيرل، ولكن أتذكر جيداً أنني بحثت عن شهادة وفاة مستر جابمن، ولكنني لم أجدها. وأتذكر جيداً عندما توفي مستر جابمن، لأنني كنت قد رأيته من قبل، وزرت بيته عدة مرات، وتناولت الطعام في بيته حينما كنت طفلة، وصورته لا تزال مرسومة في ذهني. بحثت عن شهادته، لكنني لم أجدها، في حينه كانت شهادات الوفاة مقسمة إلى قسمين، داخل إنكلترا وخارجها، حتى صفحة سجل التعداد في كركوك لم تذكر وفاة جابمن، وفي حينه قيل إنه توفي بالزائدة الدودية، وكانت وصيته أن تُحرق جثته وتُنثر على جبال كردستان، وهذا يقودني إلى أن ما تقوله دورا صحيح بأنه كان مثلياً، وأنّ أول حب في حياته كان لشخص كردي. طبعاً لا أتوفر على كل الأجوبة، وأتمنى على أي شخص آخر أن يأخذ هذه الخيوط ويحاول أن يصل إلى "رأس الشليلة" كما يقال ليعرف ما هي قصة جابمن، لأنني بحثت في غالبية السجلات ولم أعثر عليه، ولو توفي في لندن أو إنكلترا لكنت وجدت شهادة وفاته، كما بحثت عن شهادة ميلاده ولم أجدها أيضاً، فلابد أن يكون له اسم آخر. وعند بحثي المضني وجدت اسم لورنس، لكن اسم عائلته جابمن أيضاً، وهنا زادت الأمور تعقيداً، فتوقفت عن البحث لأن الصدمة كانت كبيرة، وأن العمل كبير جداً، ولا أستطيع أن أقوم به لوحدي، ولهذا أتمنى فعلاً أن يقوم به شخص آخر. 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2264 السبت 03 / 11 / 2012)

في المثقف اليوم