تقارير وتحقيقات

علي حسين: متحف "رامتان" هنا استراح وكتب وقرأ طه حسين

قال لي طه حسين انتظرك غدا، نلتقي في فيلا رامتان، سيكون يوما ممتعا. كنت اقرأ في كتاب الناقد صبري حافظ " طه حسين ذكريات شخصيه معه "، اتأمل في الصورة التي يقدمها حافظ لفيلا طه حسين التي دخلها للمرة الاولى عام 1971. كان صبري حافظ في الثلاثين من عمره عندما كان يحضر جلسات لجنة تابعة للمجلس الأعلى للآداب والفنون، والتي يرأسها طه حسين، وذلك بوصفه موظفًا في المجلس مهمته تدوين وقائع الجلسات. كانت اللجنة تعقد اجتماعها في بيت طه حسين المعروف باسم "رامتان"؛ لأنّ حالته الصحية كانت تمنعه من الذهاب إلى مقرّ المجلس الأعلى للفنون والآداب. ولاحظ صبري حافظ أنّ لقاء طه حسين مع أعضاء اللجنة ومنهم سهير القلماوي وإبراهيم بيومي مدكور ومهدي علام وحسين مؤنس، يناقشون دور المثقف في المجتمع، يشعرون بالقلق على استقلال ويجدون ان هناك الجامعة اعتداءً على مكانة المثقف واستقلاله". اغلق الكتاب وانا تردد: من الذي يرفض دعوة طه حسين !.

في الصباح وانا احث الخطى إلى فيلا رامتان مع الصديق الروائي خضير فليح الزيدي، كنت أتخيل المكان الذي يحمل بين جدرانه ذكريات عميد الأدب العربي3371 متحف طه حسين

في كتابها "معك" تروي زوجة العميد قصة الانتقال لهذا البيت، مؤكدة أن طه حسين كان يحلم طوال حياته بأن يكون له منزل كبير، وقد استطاع ان يحقق حلمه بعد الانتهاء من بناء فيلته التي اسماها "  "رامتان"، وقد قال لزوجته ان مفردة "رامة" التي تعني الكثبان الرملية التي ترتاح فيها القوافل في البادية.

يتكون المنزل الذي يقع في شارع أطلق عليه اسم شارع طه حسين، من طابقين، يضم الطابق الأول غرفة القراءة، صالة استقبال،التي كنت انظر اليها بدهشه، فهنا جلس توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وعبد الرحمن بدوي ومحمود امين العالم وعبد الرحمن الشرقاوي وهنا جلس جان بول سارتر ينظر بإجلال وإعجاب إلى عميد الثقافة العربية، بعدها توجد صالون الطعام، فيما يضم الطابق الثاني غرفة طه حسين، وغرفة زوجته سوزان، غرفة ابنهما مؤنس، غرفة اخرى يستمع فيها طه حسين للموسيقى، وقد كان معجبا بالكلاسيكيات الموسيقية.

في الطابق الارضي تقع مكتبة طه حسين والتي تضم 6859 كتابا بلغات مختلفة،وتتنوع فيها المعارف. وهناك زاوية وضعت فيه الأوسمة التي حصل عليها خلال حياته. وفي مكان مقتنياته الشخصية ومنها نظارته المتميزة الشكل كتب نزار قباني يخاطب العميد:

ارمِ نظارتيكَ ما أنتَ أعمى

إنما نحن جوقةُ العميانِ

أيها الأزهريُّ يا سارقَ النارِ

ويا كاسراً حدودَ الثواني

عُدْ إلينا فإن عصرَك عصرٌ

ذهبيُّ ونحن عصرٌ ثاني3371 متحف طه حسين

في حوار نشرته مجلة صباح الخير عام 1992 مع محمد حسن الزيات، وزير خارجية مصر الأسبق، وزوج "أمينة" ابنة طه حسين، عن متحف طه حسين "رامتان". قال الزيات أن فكرة تحويل الفيلا إلى متحف جاءت بعد تشاور وزير الثقافة فاروق حسني مع عاطف صدقي، رئيس الوزراء، الذي رحب بالفكرة وتمت المقابلة بين مؤنس طه حسين وفاروق حسني، وصدر قرار تحويل الفيلا إلى متحف.

لم يكن صاحبنا الذي أتجول في اركان منزله مجرد اديب، او مؤرخ، بل كان ظاهرة انسانية وثقافية، تركت اعمق الأثر في مسيرة النهضة العربية . في كتابها " اوراق شخصية " تصف لنا الكاتبة لطفية الزيات جنازة طه حسين التي تحولت الى وداع شعبي :" شعرت أنى أشيع عصرا لا رجلاً، عصر العلمانيين الذين جرأوا على مساءلة كل شىء، عصر المفكرين الذين عاشوا ما يقولون وأملوا إرادة الإنسان حرة، على إرادة كل ألوان القهر".

أتفحص كل ركن من اركان البيت واسأل نفسي: كيف استطاع هذا الرجل الذي حرم من البصر ان يضيء حياتا ويمنحنا كل هذه الاعمال التي تعد اليوم جزء من حركة النهضة العربية المعاصرة ن إن لم تكن ابرزها واكثرها عمقا.في كل مرة نعود فيها لكتب طه حسين، نسأل انفسنا: كيف قرأنا اعمال هذا المفكر، وبأية احاسيس ومشاعر تعيش معنا، مثل3370 متحف طه حسين

طه حسين الذي أضاء حياتنا بوصفه مثقفا جمع بين الفكر والممارسة في وحدة متماسكة، قدم لنا المثل لما ينبغي ان يكون عليه المثقف والكاتب في بلدان يسيطر عليها التخلف والتبعية للماضي. وطوال حياته التي بلغت الـ " 84 " عاما – توفي في الثامن والعشرين من تشرين الاول عام 1973 – خاض معاركه قولاً وفعلاً، لم يتعب او يستكين، تنقل من معركة الى معركة، وكل معاركه هدفها اشاعة التعليم وتحرير العقول وتحديث المجتمع، مؤمنا بالدور الحاسم الذي يجب ان تلعبه النخب الثقافية التي عليها ان تتبنى مشروعا تنويرا يسعى الى توسيع قاعدة الناس القادرين على تغيير واقعهم.

كتب محمد مهدي الجواهري:

نهضت بنا جيلاً وأبقيت بعدنا

لأبنائنا ما يحمدون به المسعى

أبا الفكر تستوحي من العقل فذّه

وذا الأدب الغضّ استثرت به الطبعا

3372 متحف طه حسين

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

القاهرة

 

في المثقف اليوم