تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

شهادات ومذكرات

محمد اقبال خلود الذكرى وذكرى الخلود

raed jabarkhadomفي مثل هذا اليوم 21/ 4/ 1938 رحل عن عالمنا، الفيلسوف والشاعر والمفكر الهنديـ الباكستاني المسلم محمد اقبال، المفكر المجدد والمصلح الفذ الذي شغل عالم الفكر والادب والفلسفة، في شرق العالم وغربه، لما له من اثر كبير في فلسفته وفكره وشعره، ذو النزعة الاصلاحية والتنموية والنهضوية، وفلسفته الذاتية ذات الاثر التربوي والاخلاقي الكبير على الساحة الاسلامية والعربية، وقد اقر وبين فضل اقبال ودوره الفكري والادبي والثقافي، وشموخ فكره وعظمته مجموعة كبيرة من رواد الفكر والثقافة والادب العربي والاسلامي والعالمي، امثال طه حسين ويعقوب صروف وعباس محمود العقاد وعثمان امين وعبد الوهاب عزام وتوفيق الحكيم وحسين علي محفوظ وكامل مصطفى الشيبي والعشرات غيرهم من العرب والمسلمين، وهاملتون جب وهيرمان هسه وآنا ماري شيمل وجون آرثر آربري، وغيرهم من الغرب والمستشرقين، بل تطول قائمة رواد الفكر والثقافة التي بينت اثر فكر اقبال وادبه على الفكر والادب الاسلامي والهندي والباكستاني المعاصر.

محمد اقبال شخصية فكرية وادبية كبيرة، ظهر في فترة تاريخية وسياسية عصيبة وقلقة مهمة من تاريخ العالم، حيث كانت حقبة نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين تموج بالصراعات السياسية ليس في الهند فحسب وانما في العالم اجمع. وعاصر اقبال والتقى الكثير من المفكرين والفلاسفة والادباء والسياسيين والمصلحين في تلك المدة، امثال برجسون ونيكلسون وماسنيون وبراون ومكتجارت وغيرهم.

كان لدراسة اقبال في اوربا الاثر الكبير في تنمية فكره وتطوره المعرفي والادبي، فقد درس في بريطانيا والمانيا الفلسفة والقانون والسياسة، وكانت له علاقات طيبة ومتميزة مع مجموعة من الاساتذة والعلماء والادباء الذين تركوا اثرهم عليه.

تأثر اقبال في بناء فكره وادبه وفلسفته بمجموعة كبيرة من فلاسفة ومتصوفة وادباء الشرق والغرب، امثال الحلاج والجيلي وابن عربي والرومي وجيته وفخته ونيتشه وغيرهم، ولا ننسى الدور الكبير والعميق للقرآن الكريم والسنة النبوية، فقد كان للنبي الاكرم محمد واهل بيته واصحابه والاولياء والصالحين،الاثر الكبير في بناء شخصية وفكر ووجدان اقبال، وقد كانت فلسفته مزيجاً من افكار وفلسفات واديان الشرق والغرب، وفلسفته فلسفة مثالية وروحية وحيوية بأمتياز، وهذا ما جعل الكثيرين ينجذبون لفلسفته الذاتية في بعدها التربوي والاخلاقي والنفسي والاجتماعي، فكانت بحق فلسفة متميزة احتذى بها ادباء ومفكرون من العرب والمسلمين.

التجديد سمة مميزة في فكر اقبال، وقد القى محاضراته عام 1908 في الهند عن تجديد التفكير الديني، وقد كانت دعوة للتجديد تضم صوتها الى دعوات جمال الدين الافغاني ومحمد عبده ورواد الاصلاح الديني الاسلامي، وقد كان هدفه بناء فلسفة اسلامية معاصرة تنسجم ومتطلبات العصر، ولكن بثوب ديني اسلامي لا بثوب اصلاحي تجديدي علماني، فهو مجدد من نمط توفيقي، ولكنه يعطي قيمة للعقل في بناء الذات والمجتمع وحركة التاريخ.

لقد ادرك اقبال الاوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية السيئة للهند والعالم الاسلامي، وادرك معاناة الناس ومظلوميتهم، وضغط الحكام وظلمهم لشعوبهم، والسياسات الاستعمارية الغربية التوسعية التي ابادت الشعوب واستعبدتها ونهبت ثرواتها وطاقاتها، ادرك اقبال كل ذلك ولهذا راح يدعو الناس للنهوض واليقضة والبناء والاصلاح الذاتي والاجتماعي، من خلال فلسفته (فلسفة الذات) التي بثها في اشعاره وادبه الصوفي الملهب للجماهير، فهو صوفي ثائر، ليس على الذات فحسب وانما على المجتمع والعادات والتقاليد البالية ايضاً، فقد ثار اقبال على الافكار التقليدية والدعوات ذات الحس الصوفي المريض التي انتشرت بين الناس، والتي روج لها الكثير من المستفيدين من جهل الناس وتخلفهم التربوي والتعليمي والاجتماعي، لقد عمل البعض منهم على الترويج للافكار الصوفية التكاسلية والزهدية التي عطلت عقول الناس ودفنت ذواتهم في افكار غريبة لا تمت للدين الاسلامي الصحيح بصلة.

لقد كانت ثورة اقبال على الذات اولاً وقبل كل شيء، لانه ادرك ان بناء الذات واصلاحها وتقويمها من الداخل يحقق البناء الخارجي والاجتماعي، ولذلك وضع مشروعاً فكرياً وفلسفياً للذات الانسانية يعتمد الامور الآتية:

1ـ تأويل الكون تأويلاً روحياً.

2ـ تحرير روح الفرد.

3ـ وضع مبادىء اساسية ذات اهمية عالية توجه تطور المجتمع الانساني على اساس روحي.

وهو يرى ان ذلك لن يكون ولن يتحقق بفضل الافكار والفلسفات العقلية المجردة، حيث يقول في كتابه (تجديد التفكير الديني في الاسلام) " ان التفكير المجرد لم يؤثر في الناس الا قليلاً، في حين ان الدين استطاع دائماً ان ينهض بالافراد ويبدل الجماعات بقضها وقضيضها وينقلهم من حال الى حال" ص 207.

فاقبال مؤمن جداً بقيمة الدين الحقيقي وبرسالته القيمة وهدفه الثوري التغييري الذي يسعى اليه، فهو العلاج الناجع لتحقيق امن الفرد والمجتمع وامله، " والدين الذي هو في اسمى مظاهره ليس عقيدة فحسب او كهنوتاً او شعيرة من الشعائر، هو وحده القادر على اعداد الانسان العصري اعداداً خلقياً يؤهله لتحمل التبعة العظمى التي لابد من ان يتمخض عنها تقدم العلم الحديث، وان يرد اليه تلك النزعة من الايمان التي تجعله قادراً على الفوز بشخصيته في الحياة الدنيا والاحتفاظ بها في دار البقاء" تجديد التفكير الديني. ص 217.

فاقبال يرفض الحلول والافكار الوضعية المتغيرة والغريبة عن البيئة الاسلامية، ويجد فيها انها افكار " تنزع الى اضعاف روح الانسان وانضاب ينابيع قوته الروحانية الخفية. فلا الاسلوب الصوفي في العصور الوسطى، ولا القومية ولا الاشتراكية الالحادية بقادرة على ان تشفي علل الانسانية اليائسة" تجديد التفكير الديني. ص 217.      

انني اؤمن كل الايمان بأن اقبال والكثير من المفكرين والمصلحين لو كانوا بيننا اليوم لرفضوا تلك الافكار المنحرفة والمشوهة التي تغذي فكر الافراد والمجتمعات الاسلامية اليوم، والتي تؤدي الى العنف والكراهية والصراع، وهي شبيهة بافكار منحرفة حدثت زمن اقبال والافغاني وعبده والكواكبي وغيرهم، ونقدوها في زمنهم، لما تحمل من بذور استبدادية وعنفية مشوهة، تجعل الكثيرين يعتقدون ان افكارهم من صميم الدين وما هي من الدين بشيء. وتجعل الناس ينفرون من الدين والاسلام، لما يقومون به من اعمال وافكار خالية من الرحمة والعدل والاحسان. ان هذه الافكار والممارسات الخاطئة يتبرأ منها كل ذي عقل سليم ودين قيمي نبيل، فالتسامح والغفران والعفو والرضوان، والمحبة والاحسان، عناصر مهمة في طريق نجاح اي دين وفكر وفلسفة، وما لم تكن هذه العناصر وقود للحركة وطاقة للمسير لا يتحقق اي نجاح وسلامة وامن اي فرد ومجتمع على وجه هذه الارض.  

لقد رأينا كيف ان اقبال مؤمن كل الايمان برسالة الدين العميقة وبدوره الثوري في بناء الانسان والمجتمعات، لان الدين بنظر اقبال لا يمثل عائقاً وسداً مانعاً للبناء والنجاح والتواصل، بل يعد عاملاً مهماً في طريق النجاح والبناء والتواصل، وطهارة الروح عامل مهم في عملية التربية والاخلاق وبتربية الروح والوجدان وتعزيز قوة الدين والايمان يحقق الانسان نجاحه وتقدمه في الدارين. فإقبال مؤمن كل الايمان بأن هدف الانسان العمل والسعي والنجاح وفق اسس دينية الهية نبيلة لـ (إن الهدف الرئيس للقرآن هو أن يوقظ في نفس الإنسان شعوراً أسمى بما بينه وبين الخالق وبين الكون من علاقات متعددة). تجديد التفكير الديني. ص 15.

هكذا علينا ان نكون، نعمل بجد ونشاط وحيوية، وان نتفاعل مع الحياة ونسعى السعي الحثيث والشريف لتحقيق افضل النتائج وتقديم اجمل الصور عن الاسلام الحقيقي الذي صنع الانسان والمجتمع الصحيح، والذي لا يعد الفكر التكفيري اليوم مصداقاً له ولا مثالاً يمت له بصلة، فالاسلام الحقيقي نظيف في شكله ومضمونه، وانما هذا الفكر المنحرف هو صورة من صور الافكار الجاهلية التي حاربها الاسلام وثار عليها، لانها صورة قبيحة من صور الاجرام والانتقام والكراهية والعنف تجاه الناس، والذي ينبذه الدين والعقل والقانون.  

رحل اقبال عنا تاركاً ارثاً فكرياً وادبياً وفلسفياً خالداً، اعظمه وخلده الكثير من اهل الفكر والثقافة والادب والسياسة، في مشرق الارض ومغربها، ورددت اشعاره حناجر، وتغنت بها، وتربت على فكره عقول، وعلى فلسفته فلسفات، فهو قامة فكرية اسلامية شامخة انارت دروب الكثير من العقول، وسطعت في القلوب، فتحية للخلود في ذكراه، وتحية لذكراه وهو خالد.    

في المثقف اليوم