شهادات ومذكرات

مصدق الحبيب: منظرو الاقتصاد (39): روبرت لوكـَسْ

(1937 – 2023) Robert Lucas

يعتبر روبرت لوكـَسْ رائد النظرية الكلاسيكية الجديدة في الاقتصاد الكلي، والاقتصادي الذي طور نظرية التوقعات العقلانية Rational Expectations Theory، التي حاز بموجبها على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1995. وبهذا اصبح الاقتصادي الاهم في تطور جانب النظرية الكلية خلال الربع الاخير من القرن العشرين.

ولد روبرت لوكـَسْ عام 1937 في مدينة ياكيما في ولاية واشنطن في اقصى الغرب الامريكي، وكان الابن الاكبر من بين أربعة اطفال. كان والداه يديران محلا للمرطبات والآيسكريم. ولكن بعد ان ضرب الكساد العظيم الاقتصاد الامريكي ضربات موجعة في مطلع الثلاثينات من القرن الماضي، اصبحت سلعة المرطبات من قبيل السلع الكمالية الباذخة بالنسبة لغالبية عملاء المحل، مما قلل من مبيعاته للحد الذي لم يعد ممكنا المضي في تحمل كلفة التشغيل، فاضطر الوالدان لغلق مورد عيشهما الوحيد والرحيل الى مدينة سياتل سعيا وراء ايجاد عمل مناسب في تلك المدينة الكبيرة.  في سياتل اشتغل الوالد عاملا في احد مصانع السفن. ومع تطور خبرته، ترقى ليعمل في القسم الميكانيكي لاحد مصانع الثلاجات واجهزة التبريد.  يقول روبرت ان مهارة والده في ميكانيك التبريد تطورت سراعا حيث أهلته ان يصعد السلم الوظيفي بسرعة ويقوم مقام المهندس رغم انه لم يدرس الهندسة. وبمرور السنين في مصنع الثلاجات اصبح الوالد مديرا للمبيعات مدة من الزمن ثم ترقى الى المدير العام للشركة، وهو العامل المسلكي الذي التصق بالشركة سنينا طوال وفي ظروف ازدهارها وانكماشها على السواء. أما والدة روبرت ففد اشتغلت في تصميم وخياطة الملابس النسائية.

دخل روبرت مدارس سياتل العامة وتخرج عام 1955 من نفس المدرسة الثانوية التي تخرج فيها والداه عام 1927، أي عشر سنوات قبل ميلاده. كانت امنية الوالدين لابنهما البكر ان يدخل كلية الهندسة في جامعة واشنطن في سياتل، لكنه وكأي شاب في ذلك العمر أراد ان يخرج من بيت عائلته ويسعى للدراسة في ولاية اخرى ليشعر بالاستقلال والحرية. لكن ذلك يعني ان عليه ان يتدبر امر التكاليف الدراسية خارج ولايته. والامل الوحيد لذلك هو ان يحصل على منحة دراسية من جامعة ما في ولاية اخرى. وهكذا استطاع الحصول على منحة دراسية من جامعة شيكاغو. ولان دراسة الهندسة غير متوفرة في جامعة شيكاغو آنذاك، كان عليه ان يستغل فرصة المنحة الدراسية ويفكر باختيار حقل دراسي آخر.            يقول انه ترك التأمل في هذا الامر لحين ان يستقل القطار الذاهب شرقا من سياتل الى شيكاغو حيث تستغرق الرحلة 44 ساعة. وفعلا فقد حسم الامر مع نفسه خلال تلك الرحلة الطويلة باختيار دراسة التاريخ. عند تخرجه من فرع التاريخ بقي يتساءل: مالذي سيفعله المتخصص في التاريخ في الحياة العملية؟ وماذا سيكون متوفرا لديه في عالم الوظائف العامة والخاصة؟ وهذا ما دفعه للاستمرار في الدراسة والتقديم الى الدراسات العليا. ومرة اخرى فقد اصطدم بعدم امكانية عائلته تمويل دراسته العليا الا اذا وجد الجامعة التي توفر له منحة دراسية. وهكذا فقد حصل على زمالة "وودرو ولسن" من جامعة كالفورنيا – بيركلي، التي بدأ فيها بالتسجيل في كورسات التاريخ الاقتصادي. يقول ان دراسة التاريخ الاقتصادي نبهته الى فرع الاقتصاد الذي وجد نفسه شغوفا به فقرر ان ينتقل الى دراسة الاقتصاد، اذا وافق قسم الاقتصاد ان يمنحه زمالة دراسية مماثلة لتلك التي منحها له قسم التاريخ. وحين لم يحصل هذا، فقد وجد نفسه عائدا الى شيكاغو ليبدأ دراسته العليا في قسم الاقتصاد هناك عام 1960، ويحصل على الدكتوراه عام 1964. كانت اطروحته بعنوان " التعويض بين العمل ورأس المال في الصناعة الامريكية بين 1929 و 1958" التي كتبها مع ميل واضح الى التحليل الماركسي لكونه درس التاريخ والتاريخ الاقتصادي وآمن ان الاقتصاد هو المحرك الاساسي لحركة التاريخ. أشرف على اطروحته آرنلد هاربرگر وگرَگ لوِس.

يثني لوكـَسْ على الحالة التي نشأ وتعلم فيها، في العائلة وخلال المراحل الدراسية المختلفة بضمنها سنوات دراسته في جامعة شيكاغو. ويذكر بشكل خاص التربية الليبرالية المنفتحة داخل العائلة التي علمته على احترام الحرية وتقدير الاختلافات والاعتماد على النفس والاستقلال والثبات في اتخاذ القرارات. يقول ان والديه كانا يميلان الى سياسات ومواقف الحزب الديمقراطي ويؤيدان بحماس الرئيس روزفلت وعقده الاجتماعي The New Deal، في حين كان جداه وبقية العائلة يميلون الى سياسة المحافظين ويؤيدون الحزب الجمهوري، مما علمه ان التعايش مع الاختلافات في الآراء والمواقف ضرورة لايمكن اساءة تقديرها.

بعد اكمال الدكتوراه، واصل العمل في التدريس في معهد كارنيگي التكنولوجي الذي التحق به عام 1963 وهو لم يزل منشغلا في كتابة اطروحته. فبقي يمارس التدريس والبحث هناك لغاية 1975، حيث عاد الى شيكاغو. في عام 1980 اصبح استاذا يحمل العنوان التشريفي باسم الفيلسوف جون ديوي. وفي نفس العام انتخب عضوا في اكاديمية العلوم والفنون الامريكية.  وفي العام التالي، عام 1981 انتخب عضوا في الاكاديمية الوطنية للعلوم، وفي 1997 اصبح عضوا في جمعية الفلسفة الامريكية.

فيما يلي اهم مساهمات لوكـَسْ في تطور دراسة الاقتصاد الكلي:

-  نظرية التوقعات العقلانية Rational Expectation

تقف نظرية التوقعات العقلانية في صدارة مساهمات لوكـَسْ في تطور النظرية الاقتصادية، وبالاخص جانب النظرية الاقتصادية الكلية Macroeconomic Theory وهي التي مثلت الجزء الاهم من بين دراساته العديدة والمتنوعة التي آلت الى حصوله على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 1995. يعتقد اغلب محللي الاقتصاد بأن تطوير لوكـَسْ لفرضية التوقعات العقلانية وتطبيقه لها في عدة حقول اقتصادية نقل تحليل الاقتصاد الكلي نقلة نوعية، وعمق الفهم العام للسياسة الاقتصادية وتأثيرها على سير الاقتصاد. وقد اعتبره بعض مؤرخي النظرية بأنه الاقتصادي الابلغ تأثيرا في الاقتصاد الكلي خلال ثلاثة عقود، بين 1970 و 2000، والذي ألهم اجيالا جديدة من الاقتصاديين، وكذلك اسهم بتطوير ادراك وعمل الكثير من صناع القرار السياسي-الاقتصادي. كما وقد اعتبرت هذه النظرية تحديا وعبورا على فرضية الاقتصاد التقليدية في كون الخيار الاقتصادي يقوم على المعلومات التامة Perfect Information Assumption. بدأ لوكـَسْ دراساته في هذا المجال ببحثه الموسوم " التوقعات وحيادية النقود" المنشور في مجلة النظرية الاقتصادية عام 1972.

تقوم هذه النظرية على فكرة ان الناس عموما، الافراد والمؤسسات، يؤسسون قراراتهم بموجب ثلاثة عوامل:

1. العقلانية الانسانية الطبيعية المتجذرة بالفطرة والسليقة والمنطق.

2. افضل ما يمكن توفره من معلومات ذات العلاقة في ذلك الظرف المكاني والزماني

3. خزين المحاولات والتجارب السابقة، الناجحة والفاشلة على حد سواء.

وعلى هذ الاساس سيترتب ان يكون للماضي والحاضر دورا في المستقبل وسيكون هذا المستقبل ماضيا في زمن ما ليتراكم مع سجل الماضي السابق، وهكذا! أي ان الناس، حتى ولو بشكل عفوي وغير محسوب يميلون الى التنبؤ بما سيكون المستقبل لقضية ما. وبالطبع لايعني ذلك ان التنبؤ سيكون خاليا من الاخطاء او انه لايتحقق بالمرة، لكن تلك الاخطاء أو ذلك الفشل سيكوّن درسا يستفيدون منه في صياغة التنبؤ الافضل، والذي سيقترب بمرور الزمن اكثر واكثر من نقطة الهدف. قد يحدث ذلك مثلا حول شحة الانتاج الزراعي وارتفاع اسعار المنتجات الزراعية في المستقبل القريب بموجب توقعاتنا العقلانية المبنية على ظروف الطقس التي نشهدها أو الاضطرابات السياسية و ما شاكل! وقد يترتب على ذلك ارتفاع معدلات التضخم وتحرك الحكومة نحو رفع معدلات اسعار الفائدة لكبح جماح التضخم، وما يعقب ذلك من زيادة في كلف الاستثمار وتقليص الانتاج وتسريح العمال وارتفاع معدلات البطالة. أي نقص كبير في حجم الدخول وحجم الانفاق والسير بالاقتصاد نحو الانكماش والكساد.

وبناء على ماتقدم، فان هذه النظرية تزعم ان متغيرات الاقتصاد الكلي الكبرى ونتائجها وعواقبها الاقتصادية والاجتماعية يمكن ان تُستنتج من خلال التوقعات، سواء كانت توقعات العامة ام توقعات الحكومة. فمثلا اذا كان المستهلكون عموما قد توقعوا بأن الكساد الاقتصادي قادم، فانهم سيميلون طبيعيا الى زيادة الادخارات عن طريق تقليل الاستهلاك والاستثمار! هذا التقليل، اذا استمر لمدة معينة، سيكون سببا حقيقيا ملموسا لحلول حالة الكساد. وبعد ذلك سنقول ان الناس حصلوا على ما توقعوا ان يحدث. أي ان نبوئتهم قد تحققت.

في بحثه المذكور اعلاه، أكد لوكـَسْ ان التوقعات تقوم بتحييد الدور الذي يلعبه عرض النقود اذا ما شاءت سياسة البنك الاحتياطي تغييرعرض النقود لاهداف اقتصادية، حيث سيقوم الناس بتكييف توقعاتهم من اجل ان تلائم مدى التغيير في عرض النقود، مما يبطل دوره المرجو! وبذلك سوف لن تترك السياسة النقدية أي اثر على حجم الانتاج وحالة الاجور والاسعار والعمالة. ومن هنا ينبغي لصاغة السياسة النقدية وصناع القرار ان يأخذوا بنظر الاعتبار ما يضمره المستهلكون من توقعات عقلانية من أجل ان تكون السياسة النقدية اكثر مصداقية والاقتصاد اكثر توازنا واستقرارا.

ان فكرة التوقعات العقلانية ليست جديدة. فقد تعود الى عهد الاقتصاديين الرواد مثل پيگو وكـَينز وهِكس الذين تضمنت بعض دراساتهم اشارات لتأثير توقعات الافراد والمؤسسات على حالات الدورة الاقتصادية وبالتالي على مستقبل الاقتصاد. فقد اطلق كـَينز على مثل هذه التوقعات اسم "موجات التفاؤل والتشاؤم" التي تلم بالمستهلكين احيانا وتؤثر على مسيرة الاقتصاد. وحديثا فقد سبق جون مووث John Muth لوكـَسْ بعشر سنين أو أكثر. حيث ناقش التوقعات العقلانية، بهذا الاسم، في دراسته الموسومة "التوقعات العقلانية و نظرية حركة الاسعار" المنشورة في مجلة ايكونوميتركا Econometrica عام 1961. ولكن كان على هذا المفهوم ان ينتظر لما جاء به روبرت لوكـَسْ من توسيع وتطوير ودفع للمفهوم الجديد عبر القنوات الاكاديمية والاعلانية.

تذكر بعض الادبيات الاقتصادية تحليلا مفاده ان ما قاله الرئيس الامريكي ابراهام لنكن حول "انك تستطيع ان تخدع بعض الناس طيلة الوقت، وكل الناس لبعض الوقت، لكنك لا تستطيع ان تخدع كل الناس لكل الوقت" ينطوي على تطبيق جميل غير مباشر لفكرة التوقعات العقلانية التي تشير الى ان الخادع والمخدوع قد يخطئون في تقديراتهم احيانا لكنهم سوف لن يقعوا في نفس الاخطاء مرارا وتكرارا ذلك ان اي شخص قادر على ان يتوقع عقلانيا يستطيع ان يتجنب الاخطاء السابقة ويتمكن من عبور الحواجز التي اعاقته في الماضي ويمضي الى نتائج افضل من السابق. وهذا هو الدرس الانساني الاساسي في التعلم من اخطاء الماضي.

- متناقضة أو لغز لوكـَسْ Lucas Paradox or Lucas Puzzle

من المعروف ان البلدان الفقيرة والنامية تتميز بندرة رأس المال الاقتصادي قياسا بتوفر العمل المأجور، الامر الذي يعني انخفاض معدل رأس المال للعامل الواحد Capital per worker. وهذا ما يتيح المجال لأن يكون عائد الاستثمار في رأس المال اكبر مما هو عليه في البلدان المتقدمة التي لا تعاني من شحة في رأس المال. وبهذا سيكون من المفترض ان يرحب المستثمرون في البلدان المتقدمة بمثل هذه الفرصة ويكونوا مستعدين ان يستثمروا رؤوس اموالهم في البلدان الفقيرة والنامية التي ستدر عليهم عوائدا عالية، وفي نفس الوقت تسد حاجات اساسية كثيرة في تلك البلدان وتسهم في تطوير اقتصاداتها. لكن هذا لم يحدث في الغالب، وهذا ما لاحظه لوكـَسْ في بحثه الموسوم "لماذا لا يتدفق رأس المال من البلدان الغنية الى البلدان الفقيرة" المنشور في American Economic Review عام 1990، مما قاد الى تسمية هذه الظاهرة العامة بمتناقضة أو لغز لوكـَسْ.

على ان التبريرات التقليدية لهذه الظاهرة الشائعة في الادب الاقتصادي يدور حول اسباب معروفة من قبيل قلق وعدم ثقة رأس المال الاجنبي في البلدان الفقيرة والنامية التي غالبا ما تتصف بعدم استقرار انظمتها السياسية، وشيوع الاضطرابات، وتعرض الحكومات الى الانقلابات العسكرية، واخضاع الاقتصاد الى اجراءات التأمين والحجز، ووضع العراقيل القانونية بوجه المستثمرين الاجانب واحيانا تعرضهم الى اخطار الاختطاف والابتزاز. وقد تكون هناك اسباب اخرى حقيقية كتخلف التكنولوجيا، وندرة بعض عناصر الانتاج كمهارة العمال والكادر الوسطي، وصعوبات هيكلية في الانتاج والادارة وعدم كفاءة البنى التحتية، مما يثقل من كاهل المستثمرين ويزيد من كلف الانتاج ويعقد الاجراءات ويجعل بالتالي تحصيل العوائد المرجوة مستبعدا.

- نقد لوكـَسْ Lucas Critique

في 1976 قدم لوكـَسْ بحثا بعنوان "نقد التقديرات القياسية للسياسة الاقتصادية" الى المؤتمر الذي انعقد في معهد كارنيگي ونشر في الجزء الاول من كتاب وقائع المؤتمر، ص 19-46.

كان لهذا البحث صدىً واسعا في اوساط الاقتصاد والسياسة الاقتصادية لانه اثار مسألة مهمة تتعلق بصحة التقديرات القياسية التي احتسبت علاقات المتغيرات الاقتصادية الاساسية. فقد بيّن لوكـَسْ ان التقديرات لم تكن متحصنة ضد التغير الذي غالبا ما يطرأ على السياسة وتوجهاتها، وخاصة السياسة النقدية والمالية التي تتغير بتغير الحكومات والهيئات الرسمية لصنع القرار. وهذا مايجعل تلك التقديرات غير ذات معنى وغير عملية اذا ما اردنا استخدامها في التنبؤ الاقتصادي وهو احد اغراضها الرئيسية. فعلى سبيل المثال، لو كان النموذج القياسي المحسوب في الاقتصاد الكلي يشير الى ان كل ارتفاع في معدلات التضخم بنسبة 1% سيؤدي الى انخفاض في معدلات البطالة قدره 2%، بموجب منحنى فيلبس، فاننا لانستطيع ان نستعمل مثل هذه العلاقة بين المتغيرين في التنبؤ للفترات القادمة، ذلك ان الافراد والشركات والسياسة والتوجهات ستتغير ولن تبقى على ما كانت عليه في االمعادلات التطبيقية اثناء وضع النموذج القياسي واكمال تحليله وتفسيره.

من الجدير بالذكر هنا هو ان هذه الفكرة ليست جديدة تماما في وقت اشتغال لوكـَسْ عليها. فقد كانت قد ذُكرت لاول مرة حوالي اربعين عاما قبل لوكـَسْ من قبل Frisch عام 1938، وكذلك اعيد ذكرها من قبل Haavelmo عام 1944. كما وردت باسماء مختلفة مثل قانون كامپل Campbell’s Law وقانون گودهارت .Goodhart’s Law .  إلا ان لوكـَسْ، وكما فعل في دراساته الاخرى، أخذ الفكرة الاساسية ووسعها وطورها واوضح نتائجها فاصبحت بإسمه.

- إجراء لوكـَسْ Lucas Wedge

كان لوكـَسْ قد قدم إجراءً لحساب الخسارة او الضياع المحتمل في الناتج المحلي الاجمالي GDP الناشئ عن اتباع سياسة اقتصادية غير فعالة والتي قد تسبب تباطؤ في معدلات النمو الاقتصادي، والتي لولا عدم كفاءة صناع القرار لكان بالامكان توفير مبالغ طائلة لتمويل مشاريع وطنية عادة مايكون البلد في امس الحاجة لها. قد يتصدر هذه المشاريع الاستثمار في تطوير التكنولوجيا وتحديث التعليم والصحة ومعالجة المشاكل البيئية وحل الاختناقات في البنى التحتية وما شاكل.

- نموذج لوكـَسْ - أوزاوا Lucas- Uzawa Model

وهو نموذج رياضي خاص بالنمو الاقتصادي على المدى البعيد كنتيجة لاستثمار التراكم في رأس المال البشري. وقد طوره لوكـَسْ بالاعتماد على الصياغة الاولية له من قبل احد اساتذته في جامعة شيكاغو وهو البروفسور هيروفومي أوزاوا. وقد وسع لوكـَسْ النموذج النظري والتطبيقي ليشمل تراكم رأس المال البشري مع رأس المال المادي. وقد احتسب التراكم العام مساويا لنسبة رأس المال المادي الى رأس المال البشري، وليس حاصل جمع الاثنين.

في مساهمات نظرية اخرى متفرقة، قام لوكـَسْ بما يلي:

- حقق وطور وصاغ براهين رياضية لنظرية فريدمن وفيلبس ومنحنى فيلبس، ووضح وفسر عامل الارتباط الذي افرزته الموديلات التطبيقية بين الناتج والتضخم. ومنحنى فيلبس Phillips Curve يفترض العلاقة العكسية بين التضخم والبطالة. حيث ان النمو والازدهار في النشاط الاقتصادي سترافقه زيادة في الاسعار، وكذلك زيادة في الاجور باعتبارها احد الاسعار، اي بمعنى آخر ارتفاع في معدلات التضخم، التي تعني فتح الابواب امام الوظائف والتوزيع الاكثر للدخول مما يعني تقليص حجم البطالة. فاذا ارتفعت الاسعار والاجور نتيجة لزيادة عرض النقود الذي تقرره السياسة النقدية سيتوهم العمال بأن اجورهم قد زادت فعليا فيسارعوا الى قبول اغلب الوظائف المتوفرة مما يعطي انطباعا خادعا بأن البطالة قد تقلصت او انتهت. يقول لوكـَسْ لو استعرنا فرضية المستهلك العقلاني من الاقتصاد الجزئي وطبقناها في الاقتصاد الكلي على عموم المستهلكين وفرضنا انهم وبحكم عقلانيتهم الجمعية سيتوقعون حصول التكنيك الخادع الذي قد ينتهجه صناع القرار فيدركون ان النتيجة الاكيدة لسياسة رفع عرض النقود هي ارتفاع معدلات التضخم، وليس بالضرورة تقليص البطالة.

لكن العلاقة العكسية بين التضخم والبطالة لم تتحقق عمليا خلال السبعينات من القرن الماضي كما صاغها فيليبس! وذلك بسبب شيوع الظاهرة الغريبة التي سميت الانكماش التضخمي Stagflation التي اظهرت زيادة في معدلات التضخم جنبا الى جنب مع ارتفاع في معدلات البطالة.

- انتقد نموذج الاقتصاد الكلي الكينزي وكشف ان له وجهان:

1. الوجه الاول هو الذي يعتبر الاقتصاد الكلي مجرد امتداد وتوسع في الحجم والقياس للاقتصاد الجزئي، ولكن في هذه الحالة يكون الهيكل النظري للاقتصاد الكلي غير قادر على التنبؤ الاقتصادي.

2. الوجه الثاني هو ما سمي بالاقتصاد الكلي القياسي Macroeconometrics القادر على تقدير عوامل المتغيرات الاقتصادية وصياغة المعادلات التطبيقية التي تستخدم في التنبؤ الاقتصادي. لكن هذا الوجه ليس له علاقة وثيقة بالنظرية الاقتصادية الجزئية، ويكاد ان يكون منفصلا عنها رغم انها مركز ثقل النظرية الاقتصادية عموما. ولهذا اقترح لوكـَسْ ان يكون الاقتصاد الكلي متكونا من الارتباط الجمعي لنماذج الاقتصاد الجزئي المتعددة في النظام الاقتصادي الواحد. وهذه الافكار اصبحت جزءً من التبريرات التي مهدت لظهور ما سمي بالنظرية الكلاسيكية الجديدة.

- اشترك مع زميله الاقتصادي پول رومر Paul Romer  في تطوير نظرية النمو الاقتصادي الداخلي Endogenous Growth Theory التي تزعم ان النمو الاقتصادي يحدث بتأثير عوامل من داخل النظام الاقتصادي وليس من خارجه كما كان يُعتقد. وتتمثل هذه العوامل الداخلية بتراكم رأس المال البشري المتجسد بزيادة خزين المعارف والمهارات والتطوير في مستويات التعليم والتدريب واتباع الطرق التكنولوجية في الانتاج والاستخدام والتوزيع واستغلال المصادر المحلية والاستفادة من فوائض الاقتصاد الجانبية Externalities and Spillovers

- كسر الحد الفاصل القائم بين نظرية التنمية الاقتصادية المرتبطة بالبلدان المتقدمة وتلك المرتبطة بالبلدان الفقيرة والنامية. وأكد في بحثه المعنون " حول ميكانيكية نظرية التنمية الاقتصادية" المنشور في مجلة الاقتصاد النقدي عام 1988، ينبغي ان لايكون هناك اي حد فاصل بين المنهجين طالما ان المبادئ النظرية هي نفسها في الحالتين.

- دعا الى تطوير البحوث التطبيقية الجادة لتوثيق نتائج وآثار النظريات الاقتصادية. أي ليس فقط الاكتفاء بحساب العوامل والمؤشرات، انما بالتحقيق والمراجعة والاختبار والتعديل. وكذلك الاهتمام بالتأثير المتبادل بين السياسات الاقتصادية ونتائجها وآثارها العملية على ارض الواقع، مما قد يحتم ليس فقط تطوير السياسات ووضعها على الطريق القويم، انما ايضا تعديل النظرية وجعل تطبيقاتها اكثر قربا الى الواقع العملي.

- دعا الى الغاء الضريبة المفروضة على كل انواع الدخل المتعلق بالاستثمار في رأس المال. أي كل الفوائد والعوائد المتأتية جراء نمو وبيع وشراء الموجودات. يعتقد ان مثل هذا الالغاء سيسارع من تنمية رأس المال، وفي حساباته العملية وجد ان الغاء هذه الضرائب في الاقتصاد الامريكي سيزيد من موجودات رأس المال US Capital Stock بنسبة 35%.

واخيرا، نذكر القصة الطريفة التي ربطت بين طلاق لوكـَسْ لزوجته ونظرية التوقعات العقلانية:

تزوج روبرت زميلته ريتا كَوِن في ايام الدراسة في شيكاغو، وانفصل عنها عام 1981 ثم طلقها عام 1989. كانت زوجته قد كلفت محاميها ان يضيف شرطا لتوقيع اوراق الطلاق النهائية، وهو ان على روبرت ان يناصفها مبلغ جائزة نوبل، اذا فاز بها خلال فترة ست سنوات من توقيع الاوراق، تنتهي في 31 اكتوبر 1995! وتشاء الاقدار ان يفوز بالجائزة فعلا في 10 اكتوبر 1995، اي ثلاثة اسابيع فقط قبل بطلان الشرط. وهكذا استلمت طليقته نصف الجائزة البالغة مليون دولار. وقد علق اكثر زملائه حول زوجته التي اجادت في توقعاتها العقلانية افضل مما فعل هو.

توفي روبرت لوكـَسْ في 15 مايس 2023 عن 86 عاما.

***

ا. د. مصدق الحبيب

 

في المثقف اليوم