شهادات ومذكرات

محمد السعدي: أنا والأدب الروسي حكايات!

مر الأدب الروسي بعدة مراحل تاريخية، ممكن لنا تحديد مراحله على حقبات تاريخية متسلسلة، الفترة الروسية القديمة تبتدأ من القرن العاشر الى القرن السابع عشر، والفترة الروسية الحديثة تبتدأ من القرن الثامن عشر الى عام ١٩١٧ بواقع ثورة أكتوبر . والفترة الروسية ” السوفيتية تبتدأ من عام ١٩١٧ الى ١٩٩١ إنهيار التجربة الاشتراكية . وبعد هذا التاريخ تبتدأ مرحلة جديدة من عام ١٩٩١ الى وقتنا الحاضر .

في مطلع عقد الثمانينات، كنت طالباً في كلية الأداب جامعة بغداد في ذلك المبنى الأنيق والواسع والزاخر بالمعرفة والأدب والكتاب . يعزل بموقعه حي الوزيرية عن ساحة الميدان وباب المعظم . كانت بوابة مدخله تؤدي الى كلية التربية ومن ثم كلية الصيدلة وينتهي به الطريق الى بناية قديمة وعريقه بعدة طوابق سكناً داخلياً لطالبات الكليات، طريق واسع وأنيق يتوسط الكليات الثلاث تشعر بهيبته منذ اللحظات الأولى التي تطأ قدماك به . في مبنى كلية الآداب تتلمذت على يد أساتذة كبار في الأدب والمعرفة الأستاذ ضياء نافع، محمد يونس الساعدي، حياة شرارة، جليل كمال الدين، ناشئة بهجت الكوتاني.

قراءاتي السابقة عن يوميات الأدب الروسي، ومن خلال دراستي للأدب الروسي في مطلع الثمانينيات في الآداب جامعة بغداد واطلاعي على حياة ومسيرة الكتاب الروس من شعراء وروائيين ونقاد وكتاب ورسامين. بدءاً من عصر القياصرة إلى فضاءات ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى بقيادة مفجرها لينين، وحقبة حكم ستالين بقبضته الحديدية.

كان يرهقني في الأدباء الروس مصيرهم المحتوم إلى الموت انتحاراً أو بظروف غامضة في كلا الحقبتين من تاريخ روسيا وهم بعزّ عطائهم الإنساني ومعترك حياتهم الإبداعية. وبقيت لسنوات أتساؤل مع نفسي من خلال القراءة والمعرفة في مسيرة هذا السجل عن مصيرهم المستعجل إلى الموت.

هل أن قسوة الانظمة في قمع إبداعاتهم كانت سبباً في موتهم سراً أو إنتحارهم طوعاً ؟. وهل أن إبداعهم الإنساني في لحظات التجلي والقمة دفعهم إلى هذا المصير المفجع ؟. وهل أن مفهوم الموت في النتاج الإنساني والاخلاقي بحتمية الحياة قادتهم إلى الموت الزؤام ؟. هل هذه العوامل كافية وكفيلة تدفع شاعراً أو روائياً لم يتجاوز عمره العقد الثالث وفي قمة تألقه أن ينتحر أو يُقتل غيلة مثلما وقع مع الشعراء ألكساندر بوشكين وميخائيل ليرمنتوف وفيدور دوستويفسكي إلى ماياكوفسكي وسيرغي يسينين.

الكساندر بوشكين. شاعر روسيا الأول وطنياً ووجدانياً ورمز من رموزها، نُفي مرتين من قبل قيصر روسيا نيكولاي الأول لنشاطه الثوري ضد أركان حكمه المتزمت من خلال نتاجاته الأدبية والإنسانية إلى أن رُتّبت له بدعة المبارزة السائدة آنذاك لينتهي ميتاً. ميخائيل ليرمنتوف نعاه بقصيدته ”موت شاعر ”هزت أركان روسيا من أقصاها إلى أقصاها، لينفيه القيصر إلى منطقة القوقاز. عُرف شاعراً وكاتباً مبدعاً في العديد من الروائع الأدبية التي جسد من خلالها إبداعات الإنسان ”بطل من هذا الزمان” كانت روايته الوحيدة، لكن ملحمته الشعرية التي رثى بها شاعر روسيا الأول ألكساندر بوشكين بعد موته، هي من أدخلته عالم النجومية والعالمية والشهرة، ومن ثم أدّت إلى قتله أيضاً.

كما نال الآخرون من الحيف والتهميش والنفي بدءاً من إيفان تورجينيف إلى الناقد الديمقراطي فيساريون بيلينيسكي ومروراً بليف تولستوي ونيقولاي غوغول وأنطون تشيخوف، أما فيودور دوستويفسكي فقد حُكم عليه بالإعدام لنشاطه الثوري ضد ممارسات وسياسة القيصر، وما زال سرّ موته المبكر لغزاً.

لم يكن حال الأدباء والشعراء والكتّاب الروس في ظل الوضع الجديد بقيام ثورة أكتوبر أحسن حالاً من الزمن الذي مضى، لقد مارس ستالين ونظامه سياسة الترهيب والترغيب بحقّ مبدعي روسيا وسلخهم من جلودهم الحقيقية وحولهم إلى مدّاحين وطبّالين لشخصه ونزقه، وإن من عارضه أو صمت تلقى حتفه الأبدي، ومن فضاءات ثورة أكتوبر ولدت منهجية تحزّب الفن الذي تلقفناه نحن أي بلدان الشرق وأحزابها الشيوعية. يقول أميل حبيبي :” نحن ربينا أجيالنا على مفاهيم ستالين. الشيوعيون جبلوا من طينه خاص”. وثمة من عاصر التجربة المرة واستنساخها على الوضع في العراق وسياسة البعث وصدام حول الابداع والمبدعين.

لقد ظل ستالين طيلة حقبة حكمه يعيش بهاجس الخوف من المبدعين الروس، فأغلب الذين ماتوا أو إنتحروا ظلت تدور حول قتلهم الشبهات . يقول سيرغي دوفلاتوف:” نلعن ستالين بلا إنتهاء نتيجة أعماله، ومع ذلك أريد أن أسأل من الذي كتب أكثر من أربعة ملايين تقرير ”.

الشاعرة المبدعة والكبيرة مارينا تسفيتايفا إنتحرت في ظروف غامضة بعد أن أعدم زوجها وإعتقلت أبنتها وأختها، ولم يعُر انتحارها اهتماماً في الاوساط الحكومية ولا حتى الأدبية وظلت قصائدها ممنوعة إلى أواسط الخمسينيات بما تمتاز به من ثقافة وتمرد ورفض في المعاني.

كان ستالين يتابع بنفسه جميع النتاجات الأدبية والفكرية، ويحضر شخصياً المسرحيات والأمسيات الأدبية ممن تنال إقبالاً جماهيرياً في الأوساط الشعبية، وقد حضر وشاهد مسرحية ”أيام تورين” من تأليف الروائي البارز ميخائيل بولغاكوف عدة مرات على المسرح الأوبري في موسكو، وخرج بنتيجة مفادها أن هذه المسرحية ”سخرية من النظام الشيوعي وأن بولغاكوف ليس منا ” وبسبب ما تعرّض له هذه الروائي العبقري من سطوة سياط ستالين ورفاقه، مات بعد تعاطيه جرعة كبيرة من المورفين.

وعندما قرأ ستالين مسرحية ” في المخزن” للروائي أوليغ بلاتونوف كتب عنه قائلاً : كاتب موهوب ولكنه وغد ” ووصف المسرحية بأنها حكاية عميل لأعدائنا.

في عام 1934 أنشأ ستالين ” أتحاد الكتاب السوفييت”. وأختزل بهذه الخطوة كل المنتديات الأدبية، وبدأ العمل ضمن مفهوم الواقعية الاشتراكية والالتزام ببنودها وأن من يخرج على طاعتها يتعرض إلى العزلة والقتل .

كان الروائي الكسندر فادييف ولسنوات طويلة على رأس الاتحاد ومؤمناً بالاشتراكية وشديد الإخلاص للحزب الشيوعي ولستالين شخصياً. ويبرر ويدافع عن كل خطوات ستالين المؤذية تجاه رفاقه ومبدعي شعبه.

بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي في عام 1956 ورفع السرية عن الوثائق المطمورة بما سمي حينها ذوبان الجليد وحين أتضحت الحقائق المروعة عن جرائم ستالين وسياسته الدموية حزن حزناً عميقاً، وشعر بالألم والندم، ولم يتحمل الضغط النفسي الشديد وبات دائم القلق معذب الضمير، ويتمنى الموت اليوم قبل الغد، فأطلق الرصاص على نفسه ليرتاح إلى الأبد من عذاب الضمير كما جاء في الرسالة الموجهة إلى اللجنة المركزية للحزب، والتي كتبها قبل الانتحار.

بعد ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917 هاجر عدد كبير من خيرة مثقفي روسيا من مفكرين وفلاسفة وكتاب وشعراء وفنانين خارج روسيا، أما من بقي منهم فقد تعرض إلى المضايقات والتهميش وتقيد إبداعهم بالترهيب والترغيب وتحزيب نتاجاتهم .

مات الشاعر الروسي الكبير الكساندر بلوك في عام 1920 بعد أن رفضوا بالسماح له بالسفر إلى الخارج لتلقي العلاج. ولقد كتب البروفيسور ضياء نافع في يومياته عن روسيا والسوفييت يروي قصة عيشه مع اللاجئين الروس في باريس في منتصف الستينيات، والذين غادروها بعد ثورة أكتوبر وتوقعاتهم بانهيار النظام الشيوعي في الوقت الذي تهاوى به الاتحاد السوفييتي.

أما فاجعة وسيناريو الشاعر سيرغي يسينين فهي جد مؤلمة، حيث شنق نفسه في فندق في لينينغراد عام 1925 وهو في الثلاثين من العمر في عز عطائه وشبابه، وهو الشاعر الأكثر شعبية من حيث تداول شعره في روسيا بما تتضمنه قصائده من غزل وشجن ووجدانيات، عربياً قد يكون قريباً جداً إلى شاعرنا الكبير نزار قباني من حيث دغدغة مشاعر الأنوثة والرومانسية النسوية. وقد ترك في الغرفة التي شنق فيها نفسه قصيدة مكتوبة بالدم، لأنه لم يجد حبراً، فجرح معصمه وكتب قصيدته التي يقول فيها «ليس جديداً في هذه الحياة أن نموت، وليس جديداً بالتأكيد أن نعيش».

ولشعبيته الكبيرة في روسيا بعد إنتحاره فقد أجتاحت روسيا موجه كبيرة من الإنتحارات وسط الشباب والمثقفين، مما أثار هلع السلطات للحد من هذه الظاهرة الخطيرة، وقد ترك بعد رحيله ثناء طيباً وكلاماً عميقاً من مبدعي روسيا. فقال عنه بوريس باسترناك: لم تلدُ الأرض الروسية من هو الأكثر وطنية وأفضل توقيتاً مما هو سيرغي يسينين.

أما مكسيم غوركي فقال عنه : «إن يسينين ما هو بالإنسان قدر ما هو كائن خُلق من أجل الشعر حصراً».

أما يفجيني يفتوشينكو فقال فيه : «إن يسينين لم ينظّم أشعاره، بل لفظها من أعماقه».

وقال الشاعر فلاديمير ماياكوفسكي : إن موته «مأساة أخرى في تاريخ روسيا مسّت الوجدان العالمي والإنساني»، حيث كتب قصيدته الشهيرة بعد انتحار يسينين يقول فيها : «في هذه الحياة ليس صعباً أن تموت، أن تصوغ الحياة لهو أصعب بما لا يقاس»، بعدها أطلق الرصاص على رأسه من المسدس المهدى إليه من مخابرات الكرملين.

وقال عنه الأديب الروسي فيكتور شكلوفسكي: «إن ذنب الشاعر ليس في أنه أطلق الرصاص على نفسه، بل أنه أطلقها في وقت غير مناسب».

مكسيم غوركي كاتب رائعة رواية الأم مات في ظروف غامضة، ويقال إنه قد جرى تسميمه وإن ستالين شخصياً كان ضالعاً في قتله، لأن مكسيم كان مستاء وغاضباً مما يرى حوله من بؤس وظلم . وهناك العديد من الشعراء والأدباء تعرضوا إلى السجن والموت وهم في بداية شهرتهم الأدبية، لكن مواقفهم الإنسانية والوطنية هي التي حتمّت موتهم السريع والمرعب. فالشاعر كلوييف مات تحت التعذيب، أما الكاتبان المعروفان بيلنياك وإسحاق بابل فقد حُكم عليهما بالإعدام ونُفّذ فيهما الحكم سريعاً.

أمام هذه التراجيدية السوداء في تاريخ روسيا القيصرية والاشتراكية في التعاطي مع الأدب والأدباء والشعر والشعراء والحرية والإبداع، نقف عند قول فولتير: «إذا كان لي ابن، لديه ميل إلى الأدب، فأن العطف الأبوي يدفعني إلى أن ألوي عنقه». لقد مارس ستالين الإرهاب الفكري بحقّ مبدعي روسيا وقمع حرية التعبير، بل وقام بالتشهير بالمبدعين من الشعراء والروائيين ممن كانوا يكتبون بحرّية وإبداع خارج ما يسمى في حينها بالثورة الثقافية.

عندما حصل الشاعر بوريس باسترناك على جائزة نوبل للآداب ١٩٥٨ عن روايته ”دكتور زيفاكو” منعه الرئيس السوفيتي خروتشوف عن قبولها. وقد تعرض إلى حملة تشهيرية واسعة فأصيب بسرطان الرئة ومات عام١٩٦٠.

أما الشاعر جوزيف برودسكي فقد اعتقل بتهمة نشر أعماله في الخارج وتم إحتجازه بمستشفى للمجانيين، وفي عام ١٩٧٢ طردته السلطات خارج البلد وانتزعت منه الجنسية السوفيتية، وهو شاعر مبدع يخط بقلم واضح نال جاهزة نوبل للاداب عام ١٩٨٧، وكان عمره٤٧ عاماً، أي أنه أصغر أديب حاصل على هذه الجاهزة الرفيعة.

في عام ١٩٦٨  حين نشر ألكساندر سولجينيتسن روايته  ”الدائرة الأولى” في الخارج، وصفته وسائل الإعلام السوفييتية بالخائن والعميل وعلى أثر حصوله على جائزة نوبل للآداب في عام١٩٧٠، طرد من اتحاد الكتّاب السوفييت، وفي عام١٩٧٤ نزعت عنه الجنسية السوفييتية وطُرد إلى خارج البلاد.

إن أغلب الأنظمة السياسية في العالم لم تعُد تستوعب فكرة إبداع ونتاج مبدع لا يتعاطى مع مشاريعها السياسية ومصالحها . إن مفردة الديمقراطية كذبة ومؤسساتها حيلة من الحيل ضد توجهات المبدعيين الإنسانية والسياسية. في فرنسا مُنعت كتب كانت وفولتير لأنها كانت ضدّ توجهات النظام السياسي القائم في البلاد. وبعد أن استلم ستالين مقاليد الحكم والدولة والحزب والمبادئ، إثر موت رفيقه لينين عام ١٩٢٤، كانت الخطوة الأولى في برنامجه تصفية كل قادة الحزب وأعضاء المكتب السياسي بذريعة تطهير الحزب من العناصر المخربة. وينقل إنه بعد أن فاحت رائحة جريمة قتل رفاقه، هم الرسام بيكاسو برسم صورة بشعة له، فتعرض أي بيكاسو على أثر ذلك إلى العقوبة والتوبيخ من قيادة الحزب الشيوعي الفرنسي.

أما في فضاءات الحضارة العربية والإسلامية وقتل علمائها ومبدعيها، فالحديث عنها مرعب ومخيف، بدءاً من الخوارزمي ومروراً ببشار بن برد، وأمرؤ القيس، وليس إنتهاء ببدر شاكر السياب الذي مات مهموماً ومعزولاً ومتروكاً، وعبد الأمير الحصيري الذي مات فقيراً رثاً في حانات بغداد.

بعد هذا العرض التراجيدي لمصير أدباء وشعراء روسيا وما لاقوه من قمع وإرهاب ومصادرة لإبداعهم الإنساني، قد يصفني بعض من المتفهمين على أنني معادٍ للفكر الماركسي. لكنني أعلن وبزهو تام عن إيماني الكامل بهذا الفكر الخلاق نهجاً وأخلاقاً وفكراً، وأن حبي له هو حافزي الأول والأخير في تعرية ونقد الأخطاء التي أدّت إلى تدمير هذه التجربة الخلاقة.

***

محمد السعدي

 

في المثقف اليوم