شهادات ومذكرات

هل كان ايفان الرهيب رهيبا؟

ايفان الرابع هو اول قيصر روسي في تاريخ روسيا، والذي اصبح أمير موسكو العظيم عندما كان عمره ثلاث سنوات فقط، ثم قيصرموسكو وعموم روسيا عندما بلغ ست عشرة سنة من عمره، واستمر يحكم روسيا الى نهاية حياته وهو يقاتل ويناضل بعناد من اجل توسيع حدودها، والقضاء على الاعداء الذين كانوا يتربصون بها، ولا يريدون لها ان تتحول الى دولة واسعة وكبرى ذات تأثير مهم وكبير في مسيرة الاحداث التاريخية، وهو الذي ضمٌ سيبيريا الى روسيا، وهو الذي انتصر على التتار في عقر دارهم، وهو الذي وضع القوانين والتعليمات والاصلاحات لدولته، وهو الذي جعل من موسكو عاصمة لامبراطورية جديدة ...الخ من الاعمال الجليلة الاخرى . كل ذلك جرى في القرن السادس عشر، مابين عام 1530 (سنة ميلاده) وعام 1584 (سنة وفاته)، اي انه كان على رأس السلطة الروسية – بشكل أو بآخر - حوالي نصف قرن تقريبا في ذلك الزمن المعقد والصعب والمتشابك والمكفهر، عندما كانت الاحداث تتبلور وتتفاعل وتتصارع وتتطلب – في كل مكان من عالمنا - موقفا حازما وصارما وحاسما، وعندما بدأت الامبراطورية الروسية خطواتها الاولى في مسيرتها اللاحقة الطويلة .

لا تهدف هذه المقالة الى الحديث عن اعمال هذا القيصر وانجازاته الكبيرة في تاريخ الدولة الروسية ووضع اسسها ودوره الهائل بتثبيت أركانها، وانما نريد ان نتناول هنا مسألة اخرى تماما وهي الكنية التي ارتبطت باسم هذا القيصر وهي – (الرهيب)، وهل هي ترجمة صحيحة فعلا لكنيته باللغة الروسية، ولهذا وضعنا لها هذا العنوان وهو– (هل كان القيصر الروسي ايفان الرهيب رهيبا فعلا وحقا ؟)، والموضوع هذا – من وجهة نظرنا – يدور قبل كل شئ حول الترجمة (فنا وعلما) عن اللغة الروسية الى اللغات الاخرى، وكيف يمكن للترجمة - بعض الاحيان- ان تؤدي ادوارا غير دقيقة، بل وحتى تكاد ان تكون غير صحيحة في مسيرة الاحداث وتسجيلها عبر التاريخ الانساني .

الكلمة الروسية لكنية هذا القيصر الروسي هي - (ايفان غروزني) او (جروزني حسب اللفظ المصري لحرف الجيم)، وتمتلك هذه الكلمة الروسية العديد من المعاني المختلفة عند ترجمتها الى اللغات الاخرى . اساس الكلمة هو مفردة (غروزا) او (جروزا) ومعناها الاولي والمباشر هو - الزوبعة الرعدية، اي التي ترافقها الرعود والبرق والامطار، ومنها انبثقت المعاني الاخرى من هول وخوف وهلع ...الخ، والصفة من هذه الكلمة هي – (غروزني) او (جروزني) التي اطلقها الروس على هذا القيصر، ومعناها بالعربية هو كما يأتي – الشديد / او الصارم / او المرعد / او الحازم بقوة / او شديد البأس / او الهصور (كما الاسد) / او القوي المخيف / او الخطير / او المتجهم / او الرهيب (بمعنى الشدة والحزم) / او كما يقول المثل الشهير باللهجة العراقية – (كلمته متصير اثنين) ...الخ هذه المعاني المتنوعة والقريبة من بعض من حيث المعنى العام، ولكن – مع ذلك - فان كل صفة من تلك الصفات تمتلك ظلالها الخاصة بها طبعا، ولو أراد الروس ان يطلقوا على هذا القيصر لقب (الرهيب) كما نقول ونعلن نحن الان، لما سموه (غروزني)، اذ توجد عندهم كلمة اخرى هي (الرهيب) وبشكل مباشر ودقيق طبعا كما في اللغات الاخرى، وأذكر مرة ان أحد الطلبة العرب ترجم من اللغة العربية الى اللغة الروسية اسم هذا القيصر حسب الترجمة الحرفية للكلمة، فضحك الروس الذين كانوا يستمعون لنا وقهقهوا وقاموا بتصليح الترجمة الحرفية تلك، وقالوا له ان هذا القيصر ليس (رهيبا)، وانما هو (غروزني) اي (صارما او حازما او شديد البأس ...) كما مر ذكره أعلاه .  

لا نستطيع ان نحدد في الوقت الحاضر من هو المترجم الاجنبي الذي اطلق على هذا القيصر صفة (الرهيب) لاول مرة وباي لغة، ولكن على الارجح هو واحد من المترجمين الاوربيين الذين كانوا قريبين من مسيرة روسيا وتاريخها آنذاك من فرنسا مثلا او انكلترا او المانيا او السويد ...الخ، ومن المؤكد ان هذه التسمية وصلت الى اللغة العربية عن طريق واحدة من تلك اللغات الثانية ليس الا، او ربما – والله أعلم - عن طريق لغة ثالثة اخرى، اذ ان العرب كانوا بعيدين جدا عن روسيا وما يجري فيها من احداث في تلك القرون .

من الطريف ان نشير هنا، الى ان هذه التسمية ارتبطت ايضا مع حادثة معروفة في تاريخ روسيا والعالم ايضا (ولازالت تروى لحد الان) وهي ان القيصر ايفان الرابع هذا قد قتل ابنه بيده، وبالتالي فان هذه الحادثة تؤكد انه كان (رهيبا) فعلا، وقد كتب عن هذه الحادثة حتى المؤرخ والكاتب الروسي كارامزين في كتابه (الذي يقع في 12 مجلدا) بعنوان – تاريخ الدولة الروسية، والذي صدر في بداية القرن التاسع عشر، بل ان هناك رسام روسي شهير اسمه ريبين قد رسم لوحة زيتية كبيرة في القرن التاسع عشر تبين كيف ان ايفان الرابع هذا قتل ابنه بيده، ثم احتضنه والدم يتدفق منه، وهو (اي القيصر نفسه) مرتعب من فعلته هذه وعيناه جاحظتان، ولازالت هذه اللوحة موجودة في المتحف الروسي، وكيف ان أحد المشاهدين قد طعنها مرة بسكين عندما شاهدها وتأٌثر بها لدرجة انه أراد ان ينتقم من ايفان غروزني فطعنه بسكين (شاهدت هذه اللوحة شخصيا عام 1960 واستمعت الى حكاية طعن احد المشاهدين لايفان الرابع بالسكين تأثرا وانتقاما) . لقد تبين الان - وعن طريق المناقشات الواسعة في اوساط المؤرخين الروس - ان ايفان غروزني لم يقتل ابنه كما تروي الحكاية هذه، وان كل هذه الحكاية غير دقيقة ولا توجد حولها وثائق محددة رغم محاولات المختصين البحث عنها، ولهذا يرى البعض انها يمكن ان تكون ملفقة من قبل اعداء هذا القيصر، وما أكثرهم عندها في روسيا، هؤلاء الذين وقف ايفان غروزني – وبقوة - ضد مصالحهم الطبقية وأوقف - بل وألغى - حدود سلطتهم المطلقة على رقاب الناس البسطاء، وانعكس هذا التلفيق فيما بعد حتى على القياصرة الذين أتوا بعده، وهم من سلالة اخرى غير سلالته (لقبها- رومانوف)، وان هؤلاء القياصرة من آل رومانوف – كما يقال - شجعوا بعض المؤرخين الروس والرساميين كي يكتبوا تلك الحكاية ويبرزوها في الفن التشكيلي ويوسعوا انتشارها لمصلحة سلالتهم ليس الا ومناصرتهم في صراعهم ضد سلالة آل ريوريك من اجل الاحتفاظ بالسلطة، ولهذا فاننا لا نجد هذه الحكاية عند مؤرخين روس آخرين أكثر موضوعية وأعمق علما .

هذا موضوع جديد كليا - وبكل معنى الكلمة- في التاريخ الروسي وشعابه، ولم ينته بعد، ويتطلب الغوص في اعماق هذا التاريخ ودهاليزه (ان صح التعبير)، والتحليل العلمي والموضوعي الدقيق لمسيرته واحداثه، وكذلك يقتضي دراسة موقف الاتحاد السوفيتي لاحقا بشأنه، وهو موضوع يستحق التأمل والتفكيرمن قبلنا – نحن العرب - بلا شك، اذ ان موقفنا تجاهه ومعرفتنا بتفاصيله يعني اننا نتابع – وبدقة – تاريخ دولة كبيرة ومهمة نتعامل معها منذ عشرات السنين، ونعرف اخبارها واسرارها، وبالتالي نستحق ان ننال احترامها واستجابتها لنا في علاقاتنا المتشعبة والكبيرة معها، والتي نحتاجها من اجل توازن مصالحنا في هذا العصر (الرهيب !)، الذي تمرٌ به شعوبنا العربية كلها .

لنفكر معا من اجل تحديد الكنية الصحيحة لهذا القيصرالروسي، ولنخطط معا من اجل دراسة دقيقة وموضوعية لتاريخ روسيا وبلدان العالم كافة .

 

أ.د. ضياء نافع

 

في المثقف اليوم