شهادات ومذكرات

بولغاكوف في جامعة بغداد

استلمت رسالة من احدى طالباتي سابقا في نهاية القرن العشرين (وهي الان دكتورة واستاذة مساعدة في قسم اللغة الروسية في كلية اللغات بجامعة بغداد) تطلب مني رأيا استشاريا محددا بشأن مسألة علمية حول كتابة اطروحة ماجستير في القسم المذكور باشرافها تتناول ترجمة المصطلحات باللغة الروسية الى اللغة العربية واختيار نص روسي من الادب الروسي الحديث مترجم الى العربية واعتماده كنموذج لهذه الدراسة، وكنت انا في تلك اللحظة اعيد قراءة رواية بولغاكوف (المعلم ومارغريتا) بترجمة المترجم السوري المبدع الاستاذ يوسف حلاق (زميلي في الدراسة بكلية الاداب في جامعة موسكو في الستينات) وبمراجعة صديقي العراقي المبدع والمقيم بشكل دائم في موسكو الاستاذ عبد الله حبة، والتي أصدرتها دار نشر رادوغا (قوس قزح) السوفيتية عام 1990، فرشحت لها رأسا هذه الترجمة للرواية المذكورة نموذجا لتحقيق تلك الاجابة عن الاسئلة المرتبطة بموضوع الاطروحة المذكورة ، ونسيت الموضوع بعدئذ برمٌته في زحمة مسيرة الحياة واحداثها الصاخبة والعاصفة . وفجأة، وبعد مرور فترة طويلة نسبيا، استلمت من الدكتورة رسالة تفصيلية تحتوي على عمل علمي متبلور ورائع قامت به طالبة ماجستير وباشرافها العلمي طبعا، وكم كنت سعيدا بهذه الاطروحة العلمية وعمقها، والتي أثبتت لي – قبل كل شئ - ان الوضع العلمي السائد في قسم اللغة الروسية الحبيب في جامعة بغداد لا زال بخير رغم الظروف الصعبة المعروفة للجميع حول المستوى العلمي العام للدراسة الجامعية في العراق واشكالاتها الهائلة. اود في هذه المقالة ان اتوقف عند هذه النقطة واتحدث قليلا عن هذه الاطروحة التي كتبتها طالبة الدراسات العليا وباشراف الدكتورة منى عارف جاسم – الاستاذة المساعدة في قسم اللغة الروسية بكلية اللغات في جامعة بغداد.

عنوان الاطروحة هو – العبارات الاصطلاحية ذات المغزى الثقافي الشعبي بين العربية والروسية / رواية بولغاكوف (المعلم ومرغريتا) انموذجا /، وقد كتبتها طالبة الدراسات العليا في قسم اللغة الروسية بكلية اللغات في جامعة بغداد - هبة حسين محمد باشراف الاستاذة المساعدة الدكتورة منى عارف جاسم . تقع الاطروحة ب (147) صفحة، وتتكون من مقدمة وفصلين وخاتمة وقائمة المصادر التي استخدمتها الباحثة (باللغة الروسية 41 مصدرا، والقواميس الروسية 14 قاموسا، و9 مصادربالانكيزية). لقد أدهشتني اللغة الروسية السليمة لهذه الاطروحة قبل كل شئ، وتذكرت معاناتنا – نحن اساتذة قسم اللغة الروسية في حينها – من جرٌاء ذلك، اذ ان طالب الدراسات العليا في العراق لا يستطيع ولا يمكن لتحصيله العلمي ان يصل الى هذا المستوى الذي يجعله يكتب اطروحته كما يجب باللغة الروسية، وبالتالي فان المشرف يضطر ان يجد محررا للاطروحة كي يكتبها باللغة الروسية، وكم تحدثنا عن هذا الموضوع في حينها ولكن دون جدوى، اذ ان تحرير الاطروحة يمتلك اهمية قصوى لا تقل عن اهمية البحث عن المصادر وترتيبها وعرض الافكار المرتبطة بها واستخلاص النتائج منها و..الخ متطلبات الدراسات العليا. وقد وجدت المشرفة حلٌا دقيقا وصحيحا جدا عندما ثبٌتت في تلك الاطروحة اسم استاذة روسيٌة باعتبارها مستشارة علمية لتنفيذ هذا العمل العلمي المهم، ويشعر قارئ هذه الاطروحة رأسا بالجهد الكبير الذي بذلته هذه المستشارة في التحرير المتقن للنص الروسي، والذي جعلته سلسلا فعلا وخاليا من الاخطاء في مجال القواعد والاسلوب وغيرها، والتي يقع فيها الاجنبي مهما كانت معرفته عميقة في مجال اللغة الروسية ، واتمنى ان تكون هذه المبادرة الشجاعة خطوة في تثبيت هذا التقليد العلمي السليم لاحقا (اي ان يكون هناك مستشارعلمي جامعي لكل اطروحة باللغات الاجنبية من بلد تلك اللغة)، اذ انه يجسٌد الحل العلمي الوسط بين كتابة الاطروحة باللغة القومية للبلد كما هو معمول به في معظم بلدان العالم بغض النظر عن موضوع الاطاريح واختصاصاتها وبين ما هو قائم في بلدنا حول ضرورة كتابة الاطروحة بلغة الاختصاص حصرا، لان الاطاريح هي عمل علمي جماعي يحتاج الى جهود مجموعة من الباحثين ابتداء من طالب الدراسات العليا وانتهاء بالمشرف العلمي للاطروحة، وهذا ما تحقق فعلا في هذه الاطروحة، اضافة الى ان الأخذ بهذا المبدأ السليم سيؤدي الى تعميق التعاون العلمي بين جامعاتنا من جهة وبين جامعات العالم، هذا التعاون الذي نحتاجه نحن بالذات قبل تلك الجامعات الاجنبية لما له من فائدة علمية اولا ولتعميق وتوسيع االعلاقات العلمية المتبادلة والحوار الفكري بيننا وبين العالم الخارجي المتقدم، واكرر باننا نحن الذين نحتاج اليهم قبل كل شئ وليس هم الذين يحتاجون الينا.

ختاما لهذه الملاحظات السريعة أود ان اتوقف عند بعض صفحات هذا العمل العلمي المهم . لا اريد هنا بالطبع ان أفرض نفسي عضوا في لجنة المناقشة لهذه الاطروحة، اذ يكفي ان ثلاثة من أفضل طلبتي سابقا قد ناقشوها (وهم الان دكاترة وتدريسيون لامعون في قسم اللغة الروسية) - د. عقيل يحيى ود. نهلة جواد و د.تحسين رزاق عزيز ، ولكني – مع ذلك – اود ان اسجل هنا بعض الآراء، منها - ان الفصل الاول في الاطروحة كان يتميٌز بالروح العلمية العميقة، وكان الجهد الذي بذلته الباحثة في اعداده هائلا، وكذلك كان واضحا جهد المشرفة العلمية في اعداده سواء في الشرح والتحليل او في المصادر الاصيلة والغنية والعديدة في هذا المجال اللغوي الحيوي (يقع الفصل الاول ب 78 صفحة من تلك الاطروحة، واظن انه كان يجب ان يختزل قليلا رغم اهميته النظرية) . اما الفصل الثاني (يقع ب46 صفحة، والذي أظن انه كان يجب ان يكون اوسع) والذي تناول رواية بولغاكوف والمصطلحات التي جاءت هناك ومقارنتها مع المصطلحات العربية، وأرى انه لم يكن شاملا لكل الرواية مقارنة بالفصل الاول المعمق، رغم رشاقة الاشارات الذكيٌة والملاحظات الدقيقة والصارمة وحيويتها بلا شك، ولا مجال هنا للاشارة الى كل تلك الامثلة والملاحظات الصحيحة والممتازة حول الترجمة والبدائل الجميلة فعلا التي قدمتها الباحثة هناك بشأن النص العربي الذي ترجمه يوسف حلاق، دون التقليل طبعا من جهوده المتميزة بلا شك، اذ ان تلك الملاحظات كانت تنطلق ايضا من الاجتهادات الذاتية و الشخصية ليس الا.

شكرا لقسم اللغة الروسية بجامعة بغداد على هذا العمل العلمي المتميز، والذي أظن انه تناول بولغاكوف لاول مرة في تاريخ القسم، وشكرا ليوسف حلاق الذي قدم لنا هذه الترجمة الجميلة، وشكرا لعبد الله حبه على مراجعته لها، وشكرا لكل من ساهم في هذا العمل العلمي الممتع من الباحثة هبة حسين محمد والمشرفة العلمية د.منى عارف جاسم والمستشارة العلمية من جامعة فارونش الروسية نتاليا مروتس وزملائي اعضاء لجنة المناقشة . ننتظر منكم جميعا انجازات ابداعية اخرى.

 

أ.د. ضياء نافع

 

في المثقف اليوم