شهادات ومذكرات

علاء اللامي: شخصيات بغدادية قديمة (2-3)

alaa allami- شفتالو ودعبول البلام: دعبول هو أشهر بلام (صاحب بلم أي زورق صغير لتعبير الناس نهر دجلة الذي يشطر بغداد) حين ينزل الناس إلى شاطئ الكاورية ترفيها عن النفس وأكل السمك المسكوف (المشوي على الطريقة البغدادية) وهو قارئ جيد للمقام العراقي وفكه ظريف وقد كفانا الأستاذ – الفنان الراحل – يوسف العاني مشقة الكتابة عنه تفصيلا فقد جاء ذلك في تمثيليته المشهورة "دعبول".

- شفتالو: هو قزم إيراني يتظاهر بالبله ويشتغل في مقهى حسن عجمي. وكان يعرف جميع روادها معرفة تامة فهو يتساءل دائما وبطريقة خبيثة عن أسمائهم وحسبهم ونسبهم ونقائهم وفضائلهم . وكان له صديق حميم وعدو مبين . أما صديقه الحميم فهو القزم المعروف "خليلو" المشوه الخلق، العارف جيدا بالمقامات العراقية والأغاني العراقية وغير العراقية وقد ظهر على شاشة التلفزيون العراقي مقلدا مختلف الأغاني كشخصية بغدادية غريبة . أما عدو شفتالو فهو المرحوم حسن حراسة،  وكان يخافه خوفا شديدا ويرتجف لمجرد ذكر اسمه ويهرب من المقهى إذا رآه قادما  والسبب في ذلك هو ان حسن حراسة قد اشتهر بالمراجل والشقاوة " الفتونة" وقد التصقت به تهم قتل سياسية كمقتل وزير الداخلية توفيق الخالدي والقوميسير اليهودي سليمان افندي رغم كونه ملتزما للحراسة. ولكن التحقيق الذي أجري معه لم يثبت أنه قام بعمل من هذه الأعمال.

- الحاج خليل إبراهيم الكهوجي: كان في صباه قهوجيا في حي قنبر علي مع أبيه، وأول ما بدأ عمله مستقلا كان في المدرسة الثانوية المركزية في العشرينات. ثم انتقل إلى دار المعلمين واستأجر المقهى من الأوقاف في محلة الخشالات على شارع الرشيد. كان مثالا للكرم وحسن السلوك واللطف في المعاملة. واستمرت صداقته مع جميع الذين عرفوه من طلاب الثانوية ودار المعلمين وصارت قهوته مركزا للاستعلامات ومحطة للبريد والحوالات  والأمانات ما بين بغداد والمحافظات. فقد كانت أكثر عناوين الرسائل والحوالات المالية ترد وتصدر بواسطة قهوة خليل. وقد اعتاد  رواد القهوة كما اعتاد هو أن يترك التخت مع صينية الواردات – النقدية- مباحة للعموم حتى أن اخاه سلمان – من أم يهودية تزوجها أبوه في منطقة قنبر علي، كان سلمان هذا يترك صينية النقود تحت رحمة كل من يجلس على التخت. وجاء ذات يوم أحد المزاحمين له في المزاد الذي يقام في مديرية الأوقاف لاستئجار المقهى وزاد على المبلغ الذي كان يدفعه الحجي خليل في الإيجار فاستنكر خليل ذلك وترك المقهى واستأجر مقهى آخر بجوار مقهاه الأول ولكنه لم يستأنس به وركبته الحسرة والكآبة وترك العمل نهائيا وتوفي إلى رحمة الله).

المس كنكستن وسيروب وماكوفسكي: كان في بغداد العشرينات  مستشفى المجيدية " الملكي" وهو مدينة الطب حاليا. وقد بني في الأساس لإقامة شاه إيران وحاشيته أثناء زياراته لبغداد والعتبات المقدسة، واهم جناح فيه هو " النرسينك هوم " أي دار التمريض الذي تديره المس كنكستن المتسلطة على المستشفى وأطبائه والتي لا يرد لها طلب والراقدون فيه يلقون العناية والخدمة والغداء الفاخر بأجرة قليلة ورمزية يساعدها في ذلك (" الماسيرات = الممرضات ومفردها ماسيرة وأصل الكلمة عبارة يا أختي (Ma sœur) بالفرنسية ع .ل). وفي مدخل المستشفى جناح الأمراض العصبية ويديره سعيد الملا رجب يعاونه الأرمني سيروب صاحب الشوارب المخيفة حيث يخافه الأطباء والمرضى ومدير المستشفى نفسه، فكان سيروب مثال الرعب في هذا الجناح. المستشفى الآخر هو مستشفى المير إلياس الذي تبرع بإنشائه الثري اليهودي مير إلياس ومحله في منطقة العيواضية ولم يزل قائما. وفي أواخر العشرينات كثر الأطباء في بغداد واشتهر منهم طبيب يسمى الألماني ماكس ماكوفسكي واتخذ عيادته في شارع الأكمكخانة "المتنبي حاليا" وتزاحم الناس عليه واشتهر ماكوفسكي كذلك بزوجته الحسناء، ثم انكشف أخيرا وظهر أنه دجال فترك العراق هاربا. أما في الطب العدلي والتشريح فكان المشهور الطبيب العراقي حنا خياط ثم جاء تلميذه الدكتور القيسي يعاونه رئيس عمال التشريح ومسؤول التكفين ودفن الموتى الشاعر الشعبي الشهير ملا عبود الكرخي).

- لهمود وهدابي: وضمن عرضه لمجموعة من المهن والحرف الشعبية التي انقرضت يعرفنا المؤلف عباس بغدادي على التالي منها:

- خياط الفيرفوري = مصلح أواني الخزف بخياطتها بأسلاك معدنية.

- الصبابيغ: وهم صباغو الملابس والأقمشة

- القواصيص: الذين يقطعون الطابوق الفرشي (آجر مربع مفخور).

حياكة الحيص والتكك: الذين يصنعون الأحزمة  والتكك للباس الداخلي من القطن أو الحرير او مزيج منهما..

- الطماسون ونزاحو البلاليع: الذين ينظفون  خزانات المراحيض المنزلية.

- الكندكارية ومبيضو القدور الذين يطرقون الحديد والنحاس لصنع الأواني والوعية.

- الحف والحجامة.

- اللمبجية: الذين يضيئون الفوانيس النفطية ليلا في شوارع وازقة بغداد.

- الصيارفة على الواقف: وكان يحتكرها اليهود العراقيون ويصرفون العملات الأجنبية أو العملة العراقية الورقية الى معدنية وبالعكس.

- النقابة والمجارية: وهم أصحاب الحمير الصغيرة " الشاوية" واطلق عليهم هذا الاسم لأنهم كانوا ينقبون في الأرض بحثا عن الأحجار الصغيرة والكبيرة لغرض استعمالها في البناء.

- القصخون: قارئ القصص القديمة وسوالف ألف ليلة وليلة.

- النقارون: وهم الذين يقومون بتنقير رحى المطاحن اليدوية البدائية لجعلها أكثر فاعلية.

- قصاصو الأثر: وهم الذين يتخصصون بمعرفة آثار الدابة أو لصوص الحيوانات إذ يقتفون أثرهم. وهؤلاء يستلمون أجورهم حسب الاتفاق سواء عثر على الدابة أو على سارقها فقط وعند العثور عليه يرجع الى الفاقد ويأخذ منه الحلاوة " المكافأة" وهو شيء متعارف عليه وواجب الدفع. وأشهر قصاص أثر في العراق كانا شخصين من اهالي الديوانية: هما لهمود، وهدابي. وقد نالا وسامين من ألمانيا في زمن هتلر لأنهما عثرا بطريق قص الأثر على قاتلي سائحين ألمانيين قتلا قرب الديوانية وظل القصاصان يتجولان في المنطقة حتى شاهدا، وعلى بعد خمسين كيلو مترا من الديوانية آثار أقدام، كانا قد شاهداها قرب جثة القتيلين، فألقي القبض عليهما ووجد بحوزتهما جوازات سفر السائحين وجوازات سفرهما وحكم على القاتلين بالإعدام وحضر القنصل الألماني إلى الديوانية وقلد لهمود وهدابي الوسام.

 

- الجدتان أمونة وهندوسة:  يبدو أن سمات أو ملامح  المجتمع الاستهلاكي كانت موجودة بأشكال بارزة في المجتمع البغدادي ومن الممكن ربطها بخلفية بغداد التاريخية كعاصمة إمبراطورية آفلة. فمن البضائع المستورة الكثيرة جدا في أسواق بغداد العشرينات يذكر المؤلف عباس بغداد (شاي سيلان وزيتون يوناني، وفرفوري سكسون "خزف يصنع في مقاطعة سكسونيا الألمانية وليس الهنغارية كما كتب المرحوم بغدادي " وجوخ إسكتلدني " قماش فاخر"، ومسقول"حلوى"  حجي بكر التركي، وسجاد إيراني، وحلاوة مسقط، وجبن قشقوان البلغاري، وحرير صيني، وفرو  من استرخان،  وسماورات روسية،  وفستق حلبي وشخاط " كبريت" سويدي،  وسكاكين راجز الألمانية، والعنبة الهندية، وبخور جاوي وحيوة "سفرجل" أصفهان، وتمن "رز" رشت، وفاصونة " فاصوليا؟ " إنكليزية، وقهوة ممباسة "مدينة كينية"  والحمص المراكشي، وتتن " تبغ" سمسون، وكانت تجارة القطن والقطنيات حكرا على البريطانيين وتخصص بها شخص بريطاني سيء السمعة يدعى إيستن إيستوود. أما المشروبات الكحولية كالويسكي وغيره فمن إنكلترة وفرنسا، والساعات من سويسرا، وأشهرها أوميغا وزينيت ولوجين وأم الطمغة وأم الأنكر، وبعض هذه البضائع تستورد مع أن بدائلها العراقية متوفرة ومتنوعة ومشهورة الجودة فمثلا كانت توجد في أسواق بغداد انواع الجبن العراقي ومنها جبن الأوشاري من أربيل وجبن الثوم الكلداني وجبن الثوم الأربيلي والسليماني، وكانت الأجبان ترد مكبوسة بجلود الماعز غير منزوع الشعر. أما السمن الحيواني الفاخر فكان يرد على بغداد من لواء الرمادي في الغربية ومن علي الغربي في لواء العمارة  الجنوبي وذلك لأن مناطق الرعي في الغربية والجنوب ينبت فيها عشب زكي الرائحة وتضفي على الدهن رائحة زكية، أما الدهن النباتي " علامة أبو الخروف الهولندي" فقد دخل بغداد في الأربعينات.

ومن الصناعات البغدادية الطريفة صناعة شربت "عصير" الرمان الذي يستعمل بعد تحميضه في مرق المثرودة التي يتناولها البغادَّة  في  صباحات الشتاء للفطور،  وصناعة الشريص " الشريط اللاصق" المصنوع من أقماع البامية المجففة والمطحونة طحنا ناعما. ومن الصناعات والمهن النسائية يذكر المؤلف برم الحرير وغزل الصوف  والمداويات بالحشائش والأعشاب واشتهرت منهن السيدة رختية ومهن الحف والحجامة وبيع أدوات الزينة وكانت الحجامة امرا لا بد منه وخصوصا للصغار لاعتقادهم أن بقية دم الطفل الوليد الذي كان في الرحم يجب أن ينزل لذلك نادرا ما ترى صبيا في جانب الكرخ ليس محجوما وعلامة الحجامة ظاهرة في قفا الرقبة. ومن النساء من يقرأن المواليد النبوية أو يعملن حفلات الأعراس وكانت هناك القابلات وكان في بغداد قابلتان "جدتان"  مشهورتان هما أمونة الشعر باف في منطقة العبخانة والحاجة هندوسة رحمهما الله وتسكن جانب الكرخ وكانت بدينة جدا لا تستطيع السير لذلك كان يأتي الرجال الأشداء من أهالي المنطقة  لحملها على محفة إلى بيت الحامل التي في المخاض. يتبع.

 

في المثقف اليوم