شهادات ومذكرات

تراثيات: بغداد العباسية (5 و6): طعامهم وشرابهم ورواتبهم

كان الصناع العاملين في بناء بغداد يتقاضون يوميا من قيراط إلى خمس حبات (القيراط 12/1 من الدرهم ويساوي 4 حبات من الفضة) وطلب رئيس بنائين من الخليفة المنصور أجرا يوميا هو خمسة دراهم، ولكن المنصور ساومه وأعطاه أربعة دراهم فقط (كان المنصور شديد البخل فسماه البغداديون "أبو جعفر الدوانيقي" أي الفليساتي ! ع ل). فيما كان عامل الوشي (وشي المنسوجات) يتقاضى في عهد المهدي 400 درهم شهريا. والزّجّاج يتقاضى درهما ودانقين (الدرهم يساوي ستة دوانيق)، ومعلم النحو والحداد درهما، وكاتب الحسابات لدى البقال نصف درهم وطعاما وكسوة. وكان النساخ يشتري الكاغد "ورق سميك قليلا" بخمسة دراهم وبعد نسخه من كتاب يبيعه بمائتي درهم، وتقاضى الشيخ الكسائي سبعين دينارا عن تدريس كتاب سيبويه في النحو كاملا لأحدهم، أما أبو بكر العسكري فكان يطلب مائة دينار لقاء ذلك. وكان الملاح يتقاضى درهمين أجرة تعبير الراكب لنهر دجلة. ودفع تاجر يهودي لأحد الفقهاء أجره اليومي عن عمله في دكانه ثلاثة أرطال خبزا ودانقي فضة . أما رواتب الموظفين الصغار فكانت ضئيلة جدا مقارنة برواتب كبار الموظفين ففي حين كان راتب موظف صغير خمسين دينارا سنويا، كان راتب ابن مقلة - وهو كاتب لأحد الوزراء - خمسمائة دينارا شهريا! أما راتب رئيس المنجمين (فتاح فال، يعني؟ ع. ل) في قصر الخليفة المعتز مائة دينار ولم يوضح صاحب " نشوار المحاضرة" إن كان هذا الراتب شهريا أو سنويا وأرجح انه شهري ! وحين تولى علي بن عيسى الوزارة سنة 315 هـ حاول معالجة الأزمة الاقتصادية التي ضربت البلاد في عهده، فأنقص عدد الرواتب في السنة من 12 راتبا إلى عشرة للعمال وثمانية أشهر فقط لأصحاب البريد والمنفقين "؟". أما رئيس الطائفة اليهودية وتدعى وظيفته " رأس الجالوت " فكان يتقاضى راتباً سنوياً هو 700 دينار ذهبي، ولكن ليس من أموال الدولة بل من الجزية التي يدفعها اليهود أنفسهم آنذاك وكانت بمثابة ضريبة حمائية شخصية . وكان محتسب بغداد " بمثابة أمين العاصمة في عصرنا" يتقاضى مائة دينار شهريا. وحين تولى القاضي محمد بن صالح الهاشمي قضاء بغداد اشترط ألا يتقاضى أجرا لنفسه، ولكنه نظم رواتب لموظفيه فقط. وكان الأطباء من المدللين والأثرياء فكان راتب الطبيب ماسويه 600 درهم وعلوفة دابتين ونزل للسكن وخمسة غلمان لخدمته، وحين أصبح الطبيب الخاص للرشيد ارتفع راتبه الى ألفي درهم إضافة الى معونة سنوية بلغت عشرين ألف درهم. وفي عهد المعتضد ارتفعت رواتب الأطباء كثيرا وصل راتب الطبيب والكحال " طبيب العيون ع ل" إلى 670 دينارا شهريا وليس سنويا، أما أطباء الفقراء فكانوا موجودين أيضا ويتقاضون أجور رمزية وقد لا يتقاضون شيئا من مرضاهم الفقراء، فهذا الحكيم ابن أبرونا يتقاضى على الفصاد " فصد الدم من المريض" دانقا ونصف! أما مرتب الجندي فكان يترواح بين عشرين وأربعين للراجلين " المشاة" أو الفرسان الخيالة. وفي عهد الأمين بلغ معدل الرواتب للجنود 80 درهما كانت تزاد في أوقات الحروب والاضطرابات أضعافا. وفي العهد البويهي (سلالة من الديلم حسب البعض ومن الساسانيين حسب آخرين ، ذات ميول مذهبية شيعية لم تحاول فرضها على المجتمع أو على الدولة، رغم كونهم الحكام الفعليين للدولة العباسية وفشلوا في كسب ثقة الأمراء الشيعة العراقيين مثل عمران بن شاهين وبنو مزيد من بني أسد وإمارتهم في الفرت الاوسط بين بغداد والكوفة وبنو حمدان في الموصل وحلب وانتهت تجربة البويهيين بتقسيم الدولة الى فرعين واحد في العراق وآخر في كرمان وقد أنهى السلاجقة الترك حكمهم سنة 1062 م بعد أن دام 113 سنة في عهود الخلفاء المستكفي (333ـ334هـ)، ثم المطيع (334ـ363هـ) فالطائع (363ـ381هـ) فالقادر (381ـ422هـ)، أخيراً القائم (422ـ467هـ). ع ل) . في عهد الحكام البويهيين تحولت الرواتب إلى إقطاعات ففي سنة 387 هـ أعطي 500 ديلمي صغير و300 فتى كردي إقطاعا بمبلغ مائة ألف دينار. أما القادة الكبار فقد أقطعهم الحاكم فخر الدولة إقطاعات تتراوح بين 20 و30 ألف درهم !

.نختم بهذه الطرفة الطبية التي تبرز أحد إنجازات الطب النفسي في القرن الرابع الهجري: روي أن مريضا كان يعتقد بأنه بقرة، وكان يطلب من ذويه بإلحاح أن يذبحوه، فانقطع عن الأكل لأنهم رفضوا أن يفعلوا ذلك، فضعف كثيرا وأقلق الأهل والجيران بصراخه، وطلب أهله أن يتولى ابن سينا أمره وعلاجه.فأرسل ابن سينا إلى المريض من يخبره بأنه قادم ليذبحه استجابة لطلبه، ولما حضر الطبيب وفي يده السكين، أمر بربط يدي المريض ورجليه، وطرحه على الأرض ليذبحه. ولما همّ ابن سينا بالذبح، جس عضلات المريض جسا دقيقا، ثم التفت إلى أهله وقال لهم بصوت جهوري: إن هذه البقرة ضعيفة جدا، ويجب تسمينها قبل ذبحها! وعندها أخذ المريض من تلك الساعة يأكل بشهية زائدة ليسمن، فقوي جسمه وترك وهمه وشفي من مرضه شفاء تاما.

 

بغداد_العباسية 6 : "الشبكة الاجتماعية" 4 دراهم شهريا للفقراء: وجد الفقر في بغداد منذ بنائها فقد شوهد الشحاذون المكادي والمعاقون يطلبون الصدقة على الجسر في عهد مؤسسها أبي جعفر، الذي كان يمر عليهم بنفسه ويفرق عليهم بعض المال ثم خصص واليا على " الأضراء" ولكن الوالي قطع عنهم الأرزاق - كما فعل قبل أيام وزير العمل والشؤون الاجتماعية في حكم المحاصصة الطائفية في عراق اليوم حين شطبوا الفقراء والمعوقين وذوي الحاجات الخاصة من شبكة الرعاية الاجتماعية. ع ل- فتوسط لهم أبو جعفر الرازي وشكاه الى الخليفة فعزله وأوكل لهم – للفقراء والأضراء – ان يختاروا ممن يحبون واليا. أمسى الفقر ظاهرة اجتماعية مستمرة في المجتمع البغدادي عالجها الأدباء فقال شاعر منهم هو الحمدوني :

مَنْ كانَ في الدنيا لهُ شارةٌ .... وَنحنُ مِنْ نظارةِ الدُّنيا

نرمقُها مِنْ كَثَبٍ حَسْرَةً     .... كأننا لفظٌ بلا مَعنى.

وترك لنا أبو حيان التوحيدي نثرا كثيرا عن الفقر والفقراء وهو نفسه كان فقيرا معدما كتب ذات مرة أنه اضطر إلى العيش على أكل الخضر والأعشاب في البيداء، وكان أبو سليمان المنطقي (الفيلسوف والأديب والشاعر والموسوعي في الطب) فقيرا عاجزا عن تدبير أجرة سكنه ووجبة طعامه. أما الفيلسوف أبو بكر القومسي فقد عانى من الضرِّ والفاقة وكابد الشدة حتى لبس الأطمار البالية كما يخبرنا صاحب " معجم البلدان"، ومثله كان المؤرخ والجغرافي العظيم وصاحب نظرية  " الانحراف الوراثي في الحمضيات" أبو الحسن المسعودي الذي لقب بهيرودتس العرب،  وهو صاحب الكتاب الجغرافي الشهير "مروج الذهب ومعادن الجوهر" متواضع الحال كثير الترحال - أمضى ربع قرن من حياته في الرحلات العلمية خارج العراق وكان كثير الحنين إلى بلده وهو من موليد بابل وقيل من بغداد أيضا - وقد  وصف لنا بيت زميله الأصمعي الفقير هو الآخر بالقول (كان فيه خب مكسور – أرجح أن يكون المقصود " حِبّ" بكسر الحاء ، وهو الوعاء الفخاري الكبير لتبريد وحفظ ماء الشرب وربما وقع تصحيف في الكلمة. ع ل) ومقعد وسخ وكان كل شيء في بيته رثا)  غير أن هذا لا يعني أن جميع العلماء والأدباء كانوا فقراء معدمين بل كان منهم الأغنياء وأصحاب الإقطاعيات والعقارات وكان بعضهم من خاصة ومدللي الدولة وندماء الخليفة والوزراء. وكان المُكدون (كلمة مُكدي وكُدية فصحى " كدية : استعطاء، حرفة الشحاذ ." وماتزال تلفظ بالجيم أو الجيم القاهرية في العراق وتعني الشحاذ والسائل وأرجح أن جذرها هو "ك د د"  ع ل) وهم يتخذون هيئة  وزيا خاصين للكدية تسمى " الهيئة الخراسانية". وكانت جراية الفقير (مخصصات إعانة) من الدولة في عهد الوزير ابن الفرات خمسة دراهم في الشهر. وكان طعام الفقراء يتألف من خبز الشعير وربيثة " أدام من صغار السمك المملح يشبه السمك الفسيخ في مصر ع ل" وبقل وكراث وخبز وقطعة من الجبن أو الباذنجان أو من الخس والكرفس والقنبيط " القرنابيط". وكان لحم البقر أسمى ما يطمح إليه الفقراء وكانوا يأكلون بطون البقر القاسية ويستهلكون الكثير من الحبوب من أرز وماش وعدس ولوبياء. ولم يكن الفقراء يعرفون الحلوى (عهد ذاك كان تقديم التحلية بعد الطعام يعد جزءا من وجبة الغذاء لدى الأغنياء، وذات مرة قدم الطعام لأحد الخلفاء وكان مسافرا على سفينة في دجلة ولم يقدموا له الحلوى بعد الطعام فتعجب وقال : هذه أول مرة أعلم فيها ان هناك من الناس من يتغدى دون تحلية !)  بل كانت حلوى الفقراء من عصيدة التمر وفاكهتهم من مشمش مقدد " قمر الدين" وزبيب أسود وسمسم مقلو وباقلاء منفوخة وقد جابه الفقراء واقعهم البائس باللجوء إلى اللصوصية والكدية والتطفيل والاحتيال والنصب ...الخ، كما كان من وسائلهم اللجوء الى التحرك الشعبي / ص  310 / العامة في بغداد.  

الصورة: وعاء عمودي "سفرطاس" من ثلاث طبقات مغلقة لحفظ الطعام ساخنا لفترة طويلة، وهو  من العهد الفاطمي أو المملوكي على الأرجح/ المتحف الإسلامي – القاهرة.

 

علاء اللامي - كاتب عراقي

 

 

في المثقف اليوم