شهادات ومذكرات

في تأبين زهرة الزيراوي.. رحيل مبدعة استثنائية

ali alkhasimiلِمَن تركتِ فنونَ الشعرِ والأدبِ**ألم تخافي عليها من يدِ العطبِ؟؟ .. (عن الرصافي)

رحلتْ عنا إلى دار البقاء المبدعة الرائدة الاستثنائية الأستاذة زهرة الزيراوي: الشاعرة، القاصة، الروائية، كاتبة المقالة، الرسّامة، الناقدة الفنية؛ وقبل ذلك كلّه وفوق ذلك كلّه، المغربية. فهي مغربية بوطنيتها، وكرمها، ونخوتها، ومحبتها للآخرين، وشجاعتها الأدبية، وإبائها، وشممها، وما ورثته من أبيها المجاهد سيدي محمد الزيراوي وأعمامها الذين انخرطوا في المقاومة من أجل استقلال المغرب وكرامته، وجادوا بأرواحهم، " والجودُ بالنفسِ أسمى غايةِ الجودِ".

عندما سعدتُ وتشرفتُ بالإقامة في المغرب، أخذتْ تصلني دعواتٌ بين آونة وأخرى لحضور لقاءات أدبية وتناول العشاء في منزل زهرة الزيراوي بالدار البيضاء. وبسبب طبيعتي الانعزالية، لم أكُن ألبي تلك الدعوات. وذات يوم كنتُ أتحدَّث مع سيدة عراقية تقيم وأهلها في المغرب، فأخبرتني أن السيدة زهرة الزيراوي تساعد اللاجئين الفلسطينيين والعراقيين مادياً وأدبياً بانتظام. وكان معظم اللاجئين العراقيين آنذاك من الأدباء والفنانين الذين يفرّون من الأجواء الشمولية الخانقة في العراق ويلجئون إلى المغرب الذي لم يكُن آنذاك يستلزم تأشيرة دخول من المواطنين العرب. أثار الخبر إعجابي وامتناني، وعزمت على تلبية الدعوة في المرة القادمة.

اكتشفتُ أن الأستاذة زهرة الزيراوي تجمع في صالونها الأدبي مزيجاً من كبارِ الأدباء وعددٍ من شباب الأدباء والصحفيين والرسّامين والموسيقيين والمغنين والمنشدين الذين تنعتهم بـ " أولادها". فقد كان هدفها الأساسي من تلك اللقاءات تشجيع أولئك الشباب وتيسير مسيرتهم الإبداعية، وتكريم كبار المبدعين والاعتراف بعطاءاتهم، وتبادل الرأي في مختلف القضايا الأدبية والاجتماعية.  وهذا أسلوب تربوي فعّال في تنمية الثقافة؛ ولا عجب في ذلك، فقد عملت زهرة الزيراوي أستاذة في مركز تكوين المعلمين بالدار البيضاء. وكان صالونها حافلاً بلوحاتها الفنية البديعة، وطعامها مغربياً متنوعاً لذيذاً، إذ كانت زهرة وجميع أولادها يعدّون معظم الأطباق ويخدمون الضيوف بأنفسهم، وفي مقدمتهم ابنها الطبيب محمد، وابنتها السيدة سميرة، وابنتها الطبيبة عطيات.

كان كرم الأستاذة زهرة حاتمياً مطبوعاً بلا تكلف. فعندما ينعقد المعرض الدولي للنشر والكتاب في الدار البيضاء كل عام، يتذوّق كثير من الناشرين العرب الأطباق المغربية اللذيذة ممزوجة بالكرمَ المغربي الأصيل، من خلال دعوات زهرة الزيراوي لهم جماعات جماعات، ليلتقوا بالأدباء المغاربة في صالونها، وهكذا تيسَّرَ نشر كثير من كتب المغاربة في مصر وسوريا ولبنان وغيرها من البلدان العربية المشرقية. ولا يخرج ضيف من الضيوف مودِّعاً إلا وتقدِّم له الأستاذة هديةً صغيرة. وقد فاز كثيرٌ من الضيوف  بلوحة من لوحاتها الفنية المتحفية الرائعة. أذكر عندما صدرت الطبعة الأولى من روايتي " مرافئُ الحبِّ السبعة"، قرأتْها الأستاذة زهرة، فألهمتها لوحة " المرافئ"، ثم عقدت لقاء أدبياً لتكريم أربعة من الكتاب، كنتُ أحدهم، لمناقشة كتبهم الأخيرة، وفي نهاية اللقاء قدّمت لكل واحد منهم لوحة رسمتها خصيصاً له. ولم تحتفظ زهرة بتلك اللوحات الرائعة لعرضها في المعارض الجماعية التي تشارك فيها داخل المغرب وخارجه. ورأيتُ أن أضع لوحتها على غلاف الطبعة المغربية من الرواية. وكانت لوحة فائقة الجمال والصنعة، فنفدت الطبعة خلال أسابيع بفضل روعة الغلاف.

كنا نتحدَّث يوماً عن أسباب انحسار الإقبال على القراءة في بلداننا؛ وكان رأيي أن ذلك يعود إلى سياسات التجهيل المتّبعة في بلداننا العربية عن طريق إهمال التعليم وتركه للمدارس الأجنبية والمدارس التجارية، وانتشار الأمية بحيث تبلغ نسبتها أكثر من 30%، واعتماد لغة المستعمِر القديم، الإنكليزية في البلدان المشرقية والفرنسية في المغاربية، لغةَ عملٍ ومستقبل، وإشاعة اللهجات العامية في الإعلام المرئي والمسموع، وعدم اشتمال كثير من مدارسنا الابتدائية والثانوية على مكتبة. واستشهدتُ بما سمعته عن أحد ناشري كتبي، صاحب منشورات الزمن الأستاذ عبد الكبير العلوي الإسماعيلي، الذي أهدى آلاف النسخ من منشوراته إلى المدارس في الأقاليم المغربية، ولكن بعض المدارس لم تكن تمتلك مكتبة لحفظ تلك الكتب والاستفادة منها. وهنا أبدت الأستاذة زهرة إعجابها بمشروع الزمن الذي يتبنّى طبعات الجيب الصغيرة ويوفِّر الكتبَ بأثمان رخيصة أو معقولة. وقررتْ تكريم السيد الإسماعيلي. وفعلاً عقدتْ لقاءً ضمَّ عدداً من الأدباء مثل المفكِّر محمد سبيلا، والمفكِّر سعيد يقطين، والناقد الحسن الغشتول، وغيرهم، وناقشوا كيفية تطوير هذاالمشروع نوعياً وفكرياً. وفي آخر اللقاء أهدت الأستاذة زهرة لوحةً رائعة من لوحاتها الفنية إلى السيد الإسماعيلي، مشاركة منها في تكريمه.  ولكن سيّارته لم تتسّع لها، فحملتها الأستاذة زهرة بسيارة ابنتها السيدة سميرة إلى منزله في الرباط.

ما كان يثير إعجابي  بالإستاذة زهرة واستغرابي في الوقت نفسه، عزة النفس المركَّزة فيها التي تبلغ حد الإباء. فمثلاً، اقترحتُ عليها أن تعطي لمنشورات الزمن روايتها الرائعة " الفردوس البعيد" التي نشرتها دار نشر معروفة في القاهرة، ولكن الرواية ليست متوافرة في الأسواق المغربية، خاصة أن منشورات الزمن تواظب على نشر روايات سبق أن نُشِرت في المشرق. ولكن الأستاذة زهرة رفضت اقتراحي رفضاً قاطعاً بكل إباء وشمم، ربما لأنها سبق أن كرّمت صاحب الزمن في صالونها الأدبي.

ولِدت الراحلة زهرة مبدعةً  موهوبة، فهي كفرخ العندليب الذي وجد ريشاً ينمو على جناحيه فطار وغنى. فمنذ أن كانت في الرابعة عشرة من العمر، أخذت تكتب مقالات وتنشرها في أمهات الصحف المغربية باسم أخيها " عبد القادر الزيراوي." وظلت مواظبة على الإبداع والنشر، خاصة في القصة القصيرة التي أصدرت منها مجموعات عديدة مثل :" الذي كان" ، و " نصف يوم يكفي"، و" مجرد حكاية"، و "نساء على خط منكسر"، و " حنين". ويعدها مؤرِّخو الأدب المغربي من رواد هذا الفن في المغرب. يقول الدكتور جميل الحمداني: " إن ترهيص القصة القصيرة وتثبيت مرتكزاتها بدأ مع بداية الثمانينيات من القرن العشرين مع إبراهيم بوعلو وأحمد زيادي وأحمد بوزفور وزهرة زيراوي.". ويمتاز شعرها بالكثافة والإيقاع والرمزية والإيحاء، خاصة في مجموعتها الشعرية " ليس إلا" ومجموعتها " ولأني" . أما كتابها الشهير في النقد الفني الذي صدر في مجلدين بعنوان " الفن التشكيلي في الوطن العربي"، فيشتمل على سلسلة لقاءات مع فنانين عرب حول مدارسهم الفنية ومنهجياتهم في الفن التشكيلي. ولها في النقد الأدبي كتاب " تميمة ضد الحزن" ويضم مراسلاتها مع أدباء عرب حول قضايا الكتابة. وكذلك كتاب " الأرض برتقالة زرقاء: ما الكتابة وأي خصوصية للإبداع؟" 

وزهرة الزيراوي كاتبة متأنّية مدقِّقة، تُذكِّرنا بالشاعر الجاهلي زهير بن أبي سُلمى (520 ـ 609م) الذي كان يبدع القصيدة في شهر، ويهذِّبها في سنة؛ ولهذا توصف قصائده بالحوليات. تقول زهرة: " عندما أكتب لا أسارع بنشر ما كتبته، بل أتركه عاماً أو أكثر، فإن قرأته بعد العام ووجدته لم يفقد قيمته عندي، فإني أسعى إلى نشره. أنا لستُ هاوية كثرة نصوص. أنا أهوى عملاً يعيش." . وتعهدت الراحلة زهرة تطوير موهبتها الطبيعية بمواصلة القراءة والدرس والتعلّم. وقد قلتُ عنها في حفلِ تكريم أقامته لها كلّية علوم التربية بالرباط قبل سنوات:

 " سافرت زهرة في اقانيم الفكر القصية تاريخاً وفلسفةً وعلماً، وتجوّلت في تخوم الإبداع الدنية شعراً وقصة ورواية وتشكيلاً. فرشاتها امتدادٌ لذراعها، وقلمها متجذِّرٌ في فكرها، وحروفها تجري في عروقها وملامسها."

رحم الله الفقيدة وأسكنها فسيح جنانه، وألهم أهلها ومحبيها الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

 

الدكتور علي القاسمي

 

 

في المثقف اليوم