شهادات ومذكرات

مرافئ الذكريات (2)

lutfi shafiksaedركبنا (الريل) وهي الكلمة التي يطلقها الناس في ذلك الزمن على القطار  وهي مشتقة من الكلمة الإنجليزية (Rail Way)، لقد كان السفر في القطارات في ذلك الزمن له نكهة ومتعة خاصة وأثرا جميلا وعميقا خاصة في نفوس الأطفال لما يشاهدونه من معالم ومباني وصالات انتظار لم يألفوها داخل المدن إضافة لصخب المسافرين وضجيج عجلات القطارات الرائحة والآتية وصوت صفاراتها ودوي ماكناتها التي تعمل على قوة البخار الذي يولده الفحم الحجري الذي تنبعث منه رائحة نفاذة تملأ أجواء المكان وتبقى عالقة بالذاكرة.

جلس جميعنا تحت سيطرة الوالد في الدرجة الثالثة على مصاطب خشبية في أحدى حافلات القطار والذي كان يطلق على تسميتها (فاركون) وكان الوقت مساء وإن أهم  شيء يجب أن توفره الوالدة لهذه السفرة الطويلة التي تستغرق الليل بطوله وجزء من صباح اليوم التالي هو سلة تحوي متاع السفرة من طعام وماء، إن وجودنا في الحافلة  أشبه ما يكون بغرفة يشترك فيها عديد من الناس رجال ونساء وأطفال ومن جميع الاجناس تختلط أصواتهم التي تطلق لغات مختلفة فتشكل حالة من الهرج والمرج وخاصة قبل انطلاق القطار، إن التطلع من زجاج نافذة القطار المغلقة بإحكام  تشكل حالة من أجمل حالات المتعة والخيال  نتيجة تلك الصور المتحركة فوق رصيف المحطة تحت أضواء المصابيح الخافتة التي تغلفها ابخرة وأتربة ناتجة عن حركة القطارات.

لقد كان نظري يتركز في تلك اللحظة على الشخص المسئول عن إعطاء إشارة الانطلاق وهو يلوح بضوء فانوس يرفعه للأعلى إيذانا بحركة القطار بعد أن يقوم عامل آخر مختص بفحص عجلات القطار الفولاذية الضخمة  

 ويتأكد من سلامتها وذلك بالطرق عليها بمطرقة حديدية ويبدو أن خبرته الخاصة تمكنه أن يميزها من رنين صوتها فيما إذا كانت سليمة أم لا.

أطلقت ماكنة القاطرة عدة صفارات أعقبتها رجة مفاجئة جعلت من في (الفاركون) يندفع لأمام بحركة عفوية وعندها انطلقت القاطرة تنهب الأرض وأخذت أعمدة الضياء والمباني تركض إلى الخلف ثم تختفي تدريجيا ويسود ظلام دامس في الخارج يتخلله صوت انزلاق عجلات القطار الرتيب على السكة الحديد محدثة اهتزازا ممتعا يوفر فرصة جيدة للركاب لكي يذهبوا بنوم عميق عدا بعض الأطفال الذين تستهويهم الرحلة إضافة لعويل وصراخ الأطفال الرضع.

بين فترة وأخرى تجعر ماكنة القاطرة معلنة التقرب من أحدى المحطات التي سيتوقف عندها للتزود بالماء المطلوب لتأمين البخار في المرجل، ومع كل انطلاقة وترك محطة من المحطات  تكون البصرة والقرنة والعشار قد ابتعدت عنا ولم يبق منها سوى تلك الذكريات اللذيذة وكم تمنيت أن أنقل معي منها ما كان يعجبني من التمر والعنب (الملاسي ودك السبال) وصورة  القنطرة الرفيعة من جذع النخل التي كنت اعبرها متوجسا ومتشبثا بيد أختي (علية) التي تكبرني بعامين لكي نجتاز الترعة إلى الجانب الآخر لتشتري لي بعض الحلوى.

 أضن بأن الوالد كان أكثرنا تأثرا بفراق البصرة والعشار ولياليها الملاح التي كان يقضيها صحبة جوقة (الخشابة) متنقلا في (مشحوف) يمخر عباب شط أبي الخصيب وكأنه جندول مدينة البندقية أو أمتع منها.

إنني لو نسيت فإنني لا أنس بيتنا المطل على شط أبي الخصيب الذي كنت أتطلع من شرفاته على الجسر الخشبي المجاور وحركة البط واشعة الشمس التي تتلألأ على صفحة النهر ورائحة السمك التي تملأ الأجواء لدرجة كنت أشعر فيها أن تلك الأسماك قريبة من عتبة دارنا.

 تركنا مدينة القرنة التي منحتنا ولادة فرد إضافي لعائلتنا وهي أختي سعيدة وقد اسماها أبي بهذا الاسم تيمنا بالسعادة التي عشناها في تلك الربوع وفي ذلك الزمن الجميل إن هذه المولودة الجديدة عززت ارتباطنا بتلك البقعة الجميلة من ارض الوطن.

كم أتمنى لو أن عمري كان أكبر في تلك المرحلة لتمكنت حينها من معرفة عادات ناسها الطيبين واستيعاب ما كان يدور حولي وأسماء الأمكنة والشوارع والحارات والأسواق التي تعرفت عليها مؤخرا مثلما تعرفت على العديد من أبناء البصرة ذوي السحنة السمراء المحببة وحلاوة اللسان وقد ربطتني علاقة بالبعض منهم  في سجن السلمان الذي كان يظم الكثير من أبناء البصرة شعراء وأدباء وفنانين وكتاب وأساتذة وحاملي شهادات عليا وعمال بسطاء وخاصة عمال موانئ البصرة الشجعان ومن تلك الشخصيات التي بقيت راسخة في ذاكرتي الشاعر كاظم الحجاج والشاعر الشاب خالد الخشان والكاتب الموسوعي مصطفى عبود والعامل البسيط الأسمر بلون خشب الأبنوس جمعة البصري وغيرهم كثيرون، ومثلما تمنيت أن أكون أكبر من عمري في تلك الفترة أتمنى الآن أن أكون أصغر وبعمر حفيدي ذي الأربع سنوات واجتاز هذا الزمن المر زمن القراصنة وربما وأقول ربما أن تكون الأزمنة القادمة تحمل الكثير من المتغيرات العلمية والتكنلوجية تصحبها تطورات بطفرات متسارعة، كما رأينا خلال انتقالنا من زمن سلطة العسف والكبت والحرمان والانغلاق على العالم إلى عالم الاتصالات السريعة واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي وكلنا يتذكر كيف استقبلنا (موبايل نوكي) وهو ما أطلق عليه تسمية (الطابوكة) لصغر حجمه وكذلك استخدام صحون (الستلايت) التي ربطتنا بالعالم المتمدن ولكننا مع الأسف أسئنا استخدامها وأساءت الينا مؤخرا بنقلها فضائيات  عكرت صفو حياتنا بما تبثه من تفاهات.

وصلنا إلى وجهتنا بغداد عند الساعة العاشرة صباحا على ما أضن وتوجهنا إلى بيت خالتي أم يونس نستقل عربة يجرها حصانان وكم كان صوت حوافر الحصانين تطربني وهي تضرب أسفلت الشارع في وقت كان الحصانان يهزان رأسيهما وبحركات متناغمة مع رنين الأجراس المعلقة في رقبتهما وبين الفينة والأخرى ينطلق صوت الحوذي الذي يرفع كرباجه في الهواء مطلقا صرخة (ديخ) يحث فيها الحصانين على الانطلاق بسرعة والأطفال يركضون خلف العربة ويصرخون (عربنجي وراك) مشيرين إلى وجود طفل متشبث خلف العربة.

وصلنا إلى بيت خالتي الكائن في محلة قمر الدين وهي من المحاليل القديمة في باب المعظم من بغداد تنتهي قبالة بناية وزارة الدفاع القديمة، إن بيت الخالة يقع في (دربونه) ضيقة مغلقة تظم أربعة بيوت صغيرة عدا بيت واحد  يتصدر(الدربونه)  فهو واسع يشغله ضابط برتبة عقيد بمنصب آمر كتيبة مدفعية سمين الجثة وبالكاد يتمكن من ولوج  (الدربونه) لدرجة أن وجوده يعيق مرور الآخرين.

    في صباح كل يوم يجلب أحد مراسلي الضابط المذكور حصانا ليعتليه ويذهب بواسطته إلى الكتيبة بشرط أن يساعده المراسل على امتطاء ذلك الحصان المسكين الذي يأن تحت ثقله.  

إن المكوث في بيت الخالة يشكل محطة استراحة وزيارة موقتة لقضاء فترة العطلة المدرسية الصيفية إضافة لذهاب الوالد إلى مكان وظيفته وهو مأمور نفوس قضاء الحي في لواء الكوت لغرض استئجار دار لنا قبل أن نذهب الى ذلك القضاء.        

كان بيت خالتي صغيرا جدا لا تتجاوز مساحته عشرين مترا مربعا  والدخول اليه يتطلب النزول درجيتين والبيت يتكون من حوش صغير في وسطه بالوعة أشبه بالسبتي تنك وعلى يمين الحوش طرمة مرفوع سقفها بعمودين وما يطلق عليها البغداديون (دلكات) وعلى يسار الحوش حوض صغير فوقه حنفية واحدة هي المصدر الوحيد لتأمين مياه الشرب والطبخ والاستحمام أما المطبخ فهو مكان تحت الدرج يظم دولاب خشبي يظم المؤنة وأدوات الطبخ وإن أداة الطبخ الوحيدة هي ( البريمس) وأداة تحضير الشاي هي ما يطلق عليها عند البغدادين (أبو الفتايل) إن هاتان الأداتان البسيطة هي التي توفر طعام الافطار والغذاء لجمهرة من البشر يكون تعدادهم خلال زيارتنا لبيت الخالة هو ثلاثة عشر نسمة ومنهم خالتي التي تحسن القراءة والتحدث بثلاث لغات الكردية والتركية والعربية وتهتم كثيرا بقراءة القصص وكتب التاريخ ودواوين الشعر وتحفظ بعض القصائد من شعراء عديدين بالرغم من عدم تحصيلها الدراسي واقتصر على الكتاتيب وزوجها الحاج سعيد ضابط من العهد العثماني وينتمي لعشيرة النعيم العربية وأصيبت ساقه في أواخر حياته بمرض (الكنكرينا) وتوفي أثرها وكان من مؤسسي أول جريدة عراقية هي جريدة الزوراء  أما الأبن البكر يونس فهو صحفي لامع بالرغم من أنه لم يكمل الدراسة واقتصر تعليمه على الكتاتيب والمله وكان يكتب افتتاحيات بعض الصحف في ذلك الوقت وألف كتابا بعنوان (شقاوات بغداد)والابن الذي كان عمره مقارب لأعمارنا يوسف فقد كان شعلة من الذكاء ومتفوقا بعلوم الرياضيات وهناك طرف آخر في البيت هو أبراهيم الملقب إبراهيم الأسود لسحنته السمراء وكان من أبرز لاعبي كرة القدم ويترأس فريق اللاسلكي المتميز والذي كان يفوز على الفرق الإنجليزية التابعة للجيش البريطاني المحتل للعراق والموجود في معسكر الهنيدي والذي تحول أسمه لاحقا إلى معسكر الرشيد وكان إبراهيم يشغل غرفة صغيرة مع شقيقته في رأس درج البيت وهما من أبناء الحاج سعيد من وزجته الأولى وإن شقيقة إبراهيم تدعى ناجية وهي التي تقوم بأعداد الطعام والتسوق بالرغم من نحول جسدها وتوفيت بعد أصابتها بمرض السل ولم يتجاوز عمرها الثلاثين عاما ولم تتزوج وقد يتساءل المرء كيف كان ينام هذا العدد الغفير وكيف كانوا  يستحمون ويقضون حاجاتهم فالتصور متروك للقارئ ولكن مع كل هذه اللمة والزحمة فقد كانت الألفة والعلاقة قائمة بين الكل بأحسن وجه وقد كان يومهم حافل وهم يضحكون ويتبادلون النكات والنوادر ولا يعكر صفو حياتهم الخوف والتوجس من المجهول ومثال على ذلك فإن صوت بائع التين الذي يتجول في الحارة ظهرا وعلى رأسه طبق التين وينادي (وزيري يا تين لاوي يا تين) ينعشهم ويحصلوا على كمية منه بملاليم  قليلة وبالإمكان قياس السعادة وتأمين لقمة العيش عندما نعرف أن خمسة بيضات دجاج بأربعة فلوس وإن الصمونة البيضاء والمحمصة الكبيرة التي رائحتها تفتح الشهية يوفرها بائع الصمون صباحا إلى عتبة الدار بفلسين وقس على ذلك بقية المواد من خضروات وفواكه وخاصة الرقي والبطيخ والعنب الأسود والجبن الأبيض وما يطلق عليه جبن العرب الذي هو عشاء أكثرية ساكني هذه المناطق من بغداد ولا أنس كذلك نداء أم القمير وهي تنادي فجرا بأعلى صوتها (كيمريو) وبعشرة فلوس يمكن للعائلة أن تؤمن وجبة قيمر عرب للإفطار مع الشاي أو يكون البديل وخاصة في يوم الجمعة باقلاء مع الدهن الحر والبيض توفره (حبه أم الباكلة) التي تتخذ لها مكانا ثابتا في الزقاق ومهمتها تنقيع خبز الزبائن في قدر الباقلاء الكبير والذي تتصاعد منه رائحة الباقلاء المسلوقة الشهية ولدى (حبه أم الباكلة) طريقة فريدة وظريفة بالتعرف على خبز كل زبون وذلك بربط خيط بلون معين لكل خبز وهي تنادي عند أخرجه من القدر خيط أحمر أو خيط أخضر وهكذا يمكن للزبون أن يعرف حصته من (قدر حبه ام الباكله).

كانت بغداد بالنسبة لي في هذا الوقت وفي عمر لم يتعد السابعة هي عبارة عن ذلك ازقاق الضيق والعشرة الطيبة التي توفرها بيت الخالة ولم تكن لي علاقات مع صبية الحارة ولم أكن قد دخلت أحد مدارسها والمرة الوحيدة التي شكلت معلما مهما في ذاكرتي هي عندما أخذني كل من أخي علي الذي يكبرني ستة سنوات وابن خالتي يوسف الذي يكبرني بسنتين إلى السينما وهي المرة الأولى التي أذهب اليها واصبت خلالها بالهلع والاستغراب مما شاهدته في وقتها فلم أكن أعي بأن ذلك هي صور متحركة  فقد كنت أظن أنها حقيقية وإن الشخاص الذين يتحركون أمامي لا أدري أين يختفون ومنهم من يدخل إلى غرفة وآخرين يخرجون ويتغير المشهد بظهور نساء جميلات بملابس شبه عارية لم اعهدها وبعظهم ينطلق بالغناء بعبارات غير مفهومة وغير متداولة بيننا ذلك هو فيلم الوردة البيضاء للموسيقار محمد عبد الوهاب مع فاتن حمامة من انتاج السينما المصرية خلال أعوام الثلاثينيات وقد عرفت تلك التفاصيل بعدة مدة وبعد أن كثر الذهاب إلى السينمات في وقت لاحق سيرد ذكرها في الفصول القادمة وإلى الفصل الثالث من المرافئ.    

    

لطفي شفيق سعيد

 

في المثقف اليوم