شهادات ومذكرات

"إمارة الشارقة" بين الأصالة والمعاصرة

عبد السلام فاروقالشارقة إمارة عريقة، واسمها معناه "الشمس المشرقة" . تشير الحفريات التى وجدت بجبل "فايا" بالشارقة إلى آثار لآنية تعود إلى 85,000 سنة مضت، ما يعنى أنها أقدم حفرية دالة على آثار بشرية وُجدت على ظهر البسيطة . جاء ذكرها فى رسوم الخرائط اليونانية التى رسمها بطليموس خلال القرن الثانى قبل الميلاد، وفى القرن الخامس عشر ذُكرت الشارقة فى مؤرَّخات (أحمد بن ماجد) البحار الشهير . ما يعيدنا إلى كتاب من كتب د/(سلطان القاسمى)، هو كتاب (بيان للمؤرخين الأماجد في براءة ابن ماجد)، وهو بحث استقصائى قام به د/(سلطان) اعتماداً على مخطوطة قديمة من يوميات "فاسكو دى جاما" عَثرَ عليها فى مدينة "أوبورتو" البرتغالية . وفى هذا ما يشير لاهتمام د/(سلطان) البالغ بإعادة اكتشاف التاريخ وتتبعه والتعمق فيه، وعدم الاعتماد كُلّياً على المصادر التقليدية للتاريخ والتى تغفل عن الكثير من الحقائق التى طُويَت فى دوائر النسيان .

كانت الشارقة فى الماضى إمارة صحراوية حوَّلتها الأمطار إلى سهول خصبة ساعدت على الصيد ورعى الماشية . واعتمدت فى حقبة تالية على التجارة البحرية وأهمها تجارة اللؤلؤ، وكان البحارة يتميزون بمعرفتهم لأسرار الملاحة فى تلك المنطقة الحيوية التى تربط بين دول شرق آسيا من ناحية وبين أوروبا الشرقية وشمال أفريقيا من ناحية أخرى .

منذ عام (1823م) وحتى عام (1954م) كانت الشارقة هى مقر الانتداب البريطانى فى منطقة الخليج، حتى وقت جلائهم التام فى أواخر الستينيات قبيل إنشاء الاتحاد الإماراتى . وفى (1903م) تم افتتاح المدرسة "التيمية" كأول مدرسة بالشارقة تعتمد المنهج الإسلامى . أول صحيفة بالشارقة صدرت عام 1927م كانت صحيفة (عمان) أو صحيفة "ولايات عمان المتصالحة" . وفى عام (1932م) أسست الحكومة البريطانية أول مطار فى الشارقة، والذى تحوَّل فيما بعد إلى (متحف المحطة) ضَمَّ مجموعة من نوادر المقتنيات لطائرات قديمة وغيرها من مقتنيات الملاحة الجوية آنئذ . ومع بشائر تسلُّم الشيخ سلطان القاسمى مقاليد الحكم فى 1972م، جاء اكتشاف النفط فى حقل مبارك بالشارقة . ومنذ ذلك الحين بدأت الشارقة مرحلة جديدة من الحداثة، فى خطوات سريعة متلاحقة تثير الإعجاب والاحترام .

مدينة اللؤلؤ

حتى ستينيات القرن الماضى كانت الشارقة تعتمد فى اقتصادها بشكل أساسى على تصدير اللؤلؤ الذى نال شهرة عالمية، وكان حتى عام 1900م ذو أهمية خاصة بين الأحجار الكريمة فاقت أهمية الماس فى تلك الآونة ما أدى إلى ارتفاع سعره ورواجه لدى طبقة النبلاء والأثرياء فى أوروبا وشرق وجنوب آسيا .

كانت مراكب "الداهو" دقيقة الصنع ذات النقوش العربية المميزة، هى المسئولة عن صيد اللؤلؤ، وكان صيد المحار يتم بطريقة يدوية على عمق يصل بين 15 إلى 40 متراً، بحيث يغلق الصياد أنفاسه بوضع وتد عظمى على أنفه، ويسارع بالنزول لقاع البحر فيضع المحار فى سلة مجهزة مسبقاً ويشد الحبل علامة الانتهاء، ثم يسارع بالعودة والصعود . كانت هى الطريقة الوحيدة إذ لم تكن أسطوانات الأكسجين متاحة بعد . ومع ازدهار استزراع اللؤلؤ فى اليابان وانخفاض الطلب عليه، مع اكتشاف النفط، بدأت تجارة اللؤلؤ فى الشارقة وفى الخليج بصفة عامة تتراجع لحساب أنواع أخرى من التجارة والنشاطات الصناعية والتجارية .

غير أن آثار هذا العهد القديم ما تزال موجودة فى صورة أنشطة سياحية . ففى منطقة (دبا) التى ما زال نشاط الصيد البحرى مستمراً بها . وباستطاعة السياح تأجير قوارب "الداهو" للقيام برحلات ساحلية قصيرة . وفى مدينة (كلباء) القريبة من ساحل عمان إلى الشمال من الشارقة، هناك ميناء صيد شبيه بمثيله فى "دبا" . إلى جانب متاحف ومزارات متعددة تعيدك إلى عصور بحرية قديمة من تاريخ الشارقة، مثل "سد الرفيصا"، و"المتحف البحرى "، و"الأكواريوم" وإن كانت قد تدثرت بثوب المعاصرة .

فلكلوريات

ما زالت الإمارات تحتفظ بأصالتها وتراثها، وهذا ما تستشعره فى كل لمحة من ملامح المعمار مهما بدا معاصراً، وفى المعاملات اليومية للمواطن الإماراتى حتى لو ارتدى الردنجوت والتاكسيدو أو تحدث معك بلغة إنجليزية أو فرنسية طبقاً لضرورات العمل التجارى، والإماراتيون رجال أعمال من الطراز الرفيع . لكنهم رغم ذلك يحتفظون بمفرداتهم التراثية دون تغيير .

أهم ما يميز الطابع الإماراتى التقليدى هو الأزياء، الرجال يرتدون الدشداشة، ويعتمرون غطاء للرأس مكون من "غترة" و"عقال" و"قحفية" .. وقد تضاف عباءة خارجية موشّاة بالذهب أو الفضة تُدعَى "المِشلَح" خاصةً فى المناسبات المهمة .

بينما النساء يرتدين حجاباً للرأس من الشيفون يسمى "الشيلة"، وعباءة سوداء طويلة تغطى سائر البدن، وبعض النساء من كبار السن قد يرتدين البرقع لتغطية أجزاء محددة من الوجه . الأزياء الخليجية التراثية منتشرة بأسواق الشارقة الشعبية وما أكثرها . وهى تنم عن طابع محبب يعود بك إلى الماضى وإن لم تكن عشته.

الموسيقى الشعبية ورقص الصحراء من سمات المجتمع الإماراتى الذى يعتز بتراثه الفلكلورى، خاصةً فى المناسبات الوطنية والأعياد والمهرجانات . لعل أهم هذه الفنون فن الوهابية أو الرمسة الذى ينتمى لإمارة رأس الخيمة فى الأساس . وهناك العيالة وهو استعراض يقوم به صفان من الراقصين بالسيوف يشى بمعانى الشجاعة والفروسية، ويتبادلان ترديد أبيات محفوظة من الشعر تعرف "بالشلة" .

هذا إلى جانب الحرف اليدوية التى ما زالت موجودة إلى اليوم لأغراض التجارة السياحية، ومنتجاتها تُعرض فى بازارات الأسواق الشعبية، وأهمها صناعة الأوانى الفخارية المنقوشة، وحياكة وتطريز الأزياء النسائية التراثية، وأهمها "السدو" وهو الفن الذى تم تصنيفه عالمياً كتراث ثقافى مهدد بالاندثار .

حصون ومساجد وأشياء أخرى

لكل دولة طابعها الخاص ومزاراتها الدالة عليها، كأبى الهول بمصر وبرج بيزا بإيطاليا وبرج إيفل بباريس .. ما زالت الشوارع الرئيسية فى باريس ولندن تحتفظ بطابعها التراثى القديم لأنه يعبر حضارياً عن عراقة وأصالة هذه العواصم والمدن .

فى الشارقة اليوم أجواء ساحرة لابد أنها تعود بك، رغم بريقها العصرى ونظافتها، إلى عهود وعصور غابرة مضت . تشعر بهذا إذا زرت "حصن الشارقة"، أو مررت بالبيوت القديمة على الساحل الشرقى فى "خورفكان"، أو إذا زرت مساجد كمسجد "البدية" ومسجد "النور" . والشارقة تحف بالمآذن التى تصل إلى نحو ألف مئذنة رغم مساحتها التى لا تزيد عن ( 2600كم)، وهناك القرية التراثية بمدينة "كلباء"، وحصن البثنة، وسد الرفيصا، ومتحف التراث، ومتحف الآثار. كلها أماكن تراثية قديمة تحف بأجواء سحرية خاصة تأخذك بعيداً إلى أزمان أخرى .

هناك حرص على الاحتفاظ بمظاهر التراث فى كل لمحة من لمحات العمارة والتنظيم، حتى البرامج السياحية التى تنظمها الشارقة تحرص فيها على المزج بين الحداثة والتراث .

كل شئ فى الشارقة ينم عن تاريخها، حتى الكثبان الرملية الحمراء بتموجاتها المبهرة . ما زالت مسابقات الخيول والجمال تجرى بين الفوارس ومحبى هذه الممارسات التراثية الطيبة، بجانب رياضة الصيد بالصقور التى تميز منطقة الخليج عموماً والشارقة خاصة .. هناك أسواق كـ"الشناصية" وسوق"صقر" شبيهة بخان الخليلى فى مصر بما فيها من حرف يدوية نادرة وتذكارات وهدايا وتحف .

فى الشارقة أنت أمام مشهد مبهر يأخذك بسحره الخاص فى منطقة تبدو كالحلم تقف فيها ما بين الأصالة والمعاصرة، أو بين عالمَين يبدوان فى امتزاجهما كالأسطورة الحية .

 

عبد السلام فاروق

 

في المثقف اليوم