شهادات ومذكرات

أستاذتي الشاعرة عاتكة وهبي الخزرجي قيثارة العراق

علي القاسميلأخـرجنَّ من الدنيا وحبــُّـــكم    بين الجــــوانحِ لم يشعرْ به أحـــدُ

العباس بن الأحنف    

تخرّجتُ في ثانوية الديوانية سنة 1957، والتحقتُ بدار المعلمين العالية في بغداد وهي كلية تُعدّ المدرسين للمدارس الثانوية في العراق. كنتُ أرغب في دراسة التاريخ، ولكن عمادة الدار ألحقتني بقسم اللغة الإنجليزية وآدابها، لأنهم كانوا في حاجة لمدرسي اللغة الإنجليزية أكثر من مدرسي التاريخ.

وعلى الرغم من أن معظم دروسنا باللغة الإنجليزية يتولاها أساتذة بريطانيون، فقد كان المنهج يتضمَّن في السنة الأولى درساً للغة العربية وآدابها. ومن حسن الحظ، كانت أستاذتنا في ذلك الدرس هي الشاعرة المتألقة الدكتورة عاتكة وهبي الخزرجي.

بعد ما يقرب من خمسين عاماً على تشرُّفي بالتتلمذ على يديها وبعد أن واراها الثرى، كتبتُ دراسة مطوله عنها وعن شعرها الرائق قلتُ فيها:

" أحرر دراستي هذه عن الشاعرة عاتكة وهبي الخزرجي، قيثارة العراق، لعلّي أستطيع أن أردَّ بعض جميلها عليَّ، فقد كانت تدرّسنا الأدب العربي بدار المعلِّمين العالية في بغداد سنة 1957، بعد عام واحدٍ فقط من حصولها على شهادة دكتوراه الدولة في الآداب من السوربون بباريس.

اختارت ذلك العام أن تدرّسنا شعر الشاعر العباسي، العباس بن الأحنف (ت نحو 194هـ/ 807م)، بوصفه نموذجاً للأدب العربي والحضارة الإسلامية وقِيمها ومُثلها في أزهى عصورها، عصر هارون الرشيد (149 ـ 193 هـ / 766 ـ 809م). وكانت عاتكة قد اكتشفت، وهي فتاة صغيرة، شاعريّة العباس بن الأحنف الفذة وأغرمت به، وتألَّمت لما أصابه من آلام حبِّه الخائب لمعشوقته "فوز".

كانت الدكتورة عاتكة الخزرجي تجمع في شخصيتها الجميلة بين غنج الفتاة البغدادية المترفة والأناقة الباريسية الجذّابة، والخُلق الإسلامي المحافظ. كانت في ذروة شبابها لم تتعدَ السنة الحادية والثلاثين من عمرها المبارك، تصفِّف شعرها الفاحم السواد على شكل زهرتي دالية تحتضنان وجهها الصبوح ذا الملامح الجميلة المتناسقة الساحرة، الذي تشرق فيه ابتسامتُها الصغيرة الحيَّية المرسومة بعنايةٍ على شفتيْها الحمراويْن المكتنزتيْن. وعندما تكبر ابتسامتها، تكشف عن أسنانٍ لؤلؤيةٍ ناصعة البياض، وتبدو غمّازتان أخّاذتان على الخدَّين الأسيليْن. قوامها لدن رشيق لا يشتكي منه طولٌ ولا قصر، مع بروزٍ ملحوظ في صدرها الناهد. تمشي بخطواتٍ رشيقةٍ خفيفةٍ مموسقة كما لو كانت تؤدِّي رقصة الفرح على ألحان شِعرها المنغَّم، ويفوح خلفها عطرُها الباريسي النادر الفريد.

في تلك الأيام كان يكفيني أن أقترب من غرفة أساتذة اللغة العربية في بناية دار المعلمين العالية، لأعرف ما إذا كانت الدكتورة عاتكة قد وصلت أم لا (وفي هذه اللحظات التي أكتب خلالها هذا المقال بالحاسوب في المقهى الشتوية في شارع محمد السادس في مدينة مراكش الرائعة، تناهي إليَّ، على بُعد المسافة، أريجُ عطرك الفوّاح، يا عاتكة، بعد أكثر من خمسين سنة من الفراق وعلى بعد أكثر من ألف ميل).

كانت تحدّثني بصوتٍ خفيضٍ رخيمٍ ذي رنين عذب يشيع المرح في الجو، وأنا أرافقها بعد الدرس من غرفة الصفِّ إلى موقف السيّارات حيث سيّارتها الصغيرة. ولكن لم أكُن قد تعلّمت آنذاك ما يكفي من الشهامة واللياقة واللباقة لأفتح لها باب السيّارة، بل كنتُ أقف مشدوهاً أراقبها بحسرةٍ وهي تركب سيارتها وتغادر.

باختصار، كانت عاتكة ــ في نظري ــ أجملَ امرأة تقود سيّارتها أو تمشي بين الرصافة والجسر، بل حتّى أحلى وأملح وأفصح وأكثر جاذبية من جميع طالباتها اللواتي كنَّ يصغرنها بأزيد من عشر سنوات. كنتُ أنظر إليها مأخوذاً منبهراً كما لو كنت أقف مبتهلاً أمام صورة مقدّسة، فائقة الحسن خلابة الجمال، أبدعها الخالق المصوِّر الأعظم. 

وُلدت عاتكة في أسرةٍ ميسورة في بغداد سنة 1924. فقد كان والدها يشغل ُمنصب متصرِّف (محافظ) الموصل إبان العهد العثماني. ويبدو أنه كان رجلاً متديناً تقيّاً، وأن عاتكة تأثّرت بما سمعته، عن سيرته وتديّنه، من أُمِّها الصالحة التي أحسنت تربيتها. فعندما بعث إليها الشاعر المصري الكبير، عزيز أباظة (1899 ـ 1973)، بتحيّةٍ شعرية، ردَّت حالاً بقصيدةٍ لها نفس الوزن وذات القافية

أنا يا مولاي بنتُ الصِّيدِ والغرِّ الأُبـاةِ

بنتُ ذاكَ القانتِ الحرِّ الكريمِ الخلواتِ

مَن يُقيم اللَّيلَ بالذِكرِ ووحي الصلواتِ

خاشعاً لله في المحراب، بَرَّ الدعــواتِ

وأبي ما ماتَ بل عاشَ بِسَمْتي وسماتي...

أورثها اليُتم المبكِّر أسىً شفيفاً وحسرةً دفينة، حوّلتهما أحاسيسُها المرهفة ومشاعرُها الرقيقة إلى شعرٍ حزين، حتّى أصبح الألم والحزن والحبُّ بمعناه الواسع (حبّ الأُمّ والأهل، حبّ الوطن، الحبّ الإلاهي) من موضوعات شعرها الرئيسة. وراحت تسمّي نفسها " ابنة الآلام والشعر والحبِّ"، كما في قصيدتها " هوى الوطن" التي تخاطب فيها حمامةً على غصنها أو تخاطب نفسها، فهي تلك الورقاء الحزينة:

قِفي أَنشديني من لحونكِ ما يُصبي     فأنـتِ ابنـةُ الآلام والشـــعرِ والحـــــبِ

قفي أســعدي قلباً برته يدُ الأســـــى      ومثلكِ مَن يأسو الجراحات في القلبِ...

أورثها اليتمُ المبكّر أسىً مُقيماً وجُرحاً أليما، تتذكَّره كلّما رأت أُمّها التي تداري دمعها ومصيبتها، كيما تبتسم لابنتها الصغيرة وتشجّعها على القراءة والدرس، حتّى أضحت الأمومة موضوعاً من موضوعات شعر عاتكة. ففي قصيدة " نشيد الأمومة" تعبّر عاتكة عن حبِّها الطافح لأمّها وافتتانها بها وامتنانها لها:

أنتِ معنى الحبِّ، بل  معنى الحياه         أنتِ نورٌ فاضَ من نورِ الإله

أنـــتِ، يا أمــاه، من قلبـــي مُنـاه         أيعيــــش المرءُ دون الأملِ ؟.

دخلت عاتكة دار المعلِّمين العالية حوالي سنة 1941 وكانت فتاةً خجولةً حيَّية  محافظة في سلوكها وتصرُّفاتها، وظلَّت كذلك طوال حياتها، ولكنّها كانت متحرِّرة ثوريَّة في شِعرها الذي تناولت فيه موضوعاتٍ وطنيةً واجتماعية، وتتَّسم بجرأةٍ وشجاعةٍ أدبيتيْن عندما تلقي شِعرها بصوتها الرخيم وطريقتها المنغّمة.

وفي السنوات الأربع التي أمضتها عاتكة الخزرجي في دار المعلّمين العالية، كانت هذه الدار تحتضن روّاد الشعر الحرّ في العراق ، مثل زملائها نازك الملائكة (1923 - 2007)، وبدر شاكر السياب (1926 ــ 1964)،  وعبد الوهاب البياتي (1926 - 1999)، ولميعة عباس عمارة (1929 -)، وشاذل طاقة ( 1929- 1974)، ومحمد جميل شلش ( 1930 -)، وعبد الرزاق عبد الواحد (1930 -)؛ وغيرهم كثير من خارج دار المعلمين العالية، مثل بُلند الحيدري (1926 - 1996)، وكاظم السماوي (1919- 2010 )، وكاظم جواد  (  1929- 1985). وكلهم ينشرون أشعارهم في دوريّات العراق والمجلات الأدبية اللبنانية مثل "الآداب"، وكانت عاتكة في طليعتهم. وكان هؤلاء الشعراء هم الذين ابتكروا الشعر الحرَّ وحملوا مشعله. ومع ذلك، فإنَّ عاتكة الخزرجي ظلّت محافظةً وفيةً لتقاليد الشعر العربي العمودي، ولكنّها حدّثته بموضوعاتها الجديدة، وبأسلوبها المتميِّز، وأحاسيسها المرهفة، وعاطفتها المتأجّجة. كانت ترى أنَّ شكل الشعر العربي بقافيته وأوزانه قادرٌ على التعبير عن مختلف الموضوعات في متباين الأزمان، ولا ترى في الشعر الحرِّ إلا هروباً من القافية والبحور الخليلية التي يصعب ضبطها على غير الشعراء المطبوعين، وتقول في ذلك: " إنَّ صعوبة الوزن والقافية لا يشكوها شاعرٌ مبدع، وإنَّما هي عقبة كأداء في وجه المقلِّدين... وجمال شعرنا العربي آتٍ من هذا الإيقاع الموسيقيِّ المنغَّم، وإعجاز شعرنا العربي آتٍ من رصانة قوافيه واتساق أنغامه."

 تخرّجت عاتكة في دار المعلِّمين العالية سنة 1945، وعُيّنت مدرِّسة للغة العربية وآدابها في مدرسةٍ ثانويةٍ للبنات في بغداد. وبعد أن أمضت خمس سنوات في التعليم حصلت على منحةٍ دراسية من مديرية البعثات في وزارة المعارف، للحصول على دكتوراه الدولة من السوربون في باريس.

أخذت تتهيّأ للرحيل وتتهيّب منه، لأنّها ستفارق أحبّاءَها: أمَّها، بغداد، العراق. وهكذا كتبت قصيدة "قبل الرحيل" تخاطب فيها بغداد:

هاتِ العهود على الوفاءِ وهاكِ      وإليـكِ ذي يُـمناي في يُمـنــاكِ

قسماً بحبِّكِ والذي برأ الهـوى        وأذابَ روحي في سعيرِ لظاكِ

لأظلُّ أرعى العهدَ  شأنَ متيَّمٍ          آلى علــى الأيـامِ أن يــهــواكِ

تقضي التقاليد الجامعية في السوربون والجامعات العريقة في أوربا مثل أكسفورد وكيمبرج، أن طالب الدكتوراه لا يتمُّ تسجيله إلا بعد أن يوافق أحد أساتذة الجامعة المختصّين بموضوع الطالب على الإشراف على دراسته وأطروحته. اختارت عاتكة الخزرجي أن يشرف على دراستها وأطروحتها المستشرق ريجي بلاشير (1900 ـ 1973) المشهور آنذاك بترجمته الفرنسية الأدبية لمعاني القرآن الكريم، وكتابه عن المتنبي؛ ولأن عاتكة كانت تريد أن تكتب أطروحتها عن الشاعر العباس بن الأحنف؛ وبلاشير هو الذي كتب مقالة " العباس بن الأحنف" في  " دائرة المعارف الإسلامية "، فوافق على الإشراف على أطروحتها..

وحصلت على الدكتوراة سنة 1956 وعُيّنت أستاذة بكليتها السابقة، دار المعلمين العالية ببغداد، قبل سنة واحدة من التحاقي بها طالباً.

وفيما كانت تدرّسنا شعر العباس بن الأحنف في دار المعلمين العالية، طلبتْ منا ذات يوم حفظ قصيدةٍ من قصائد العباس بن الأحنف. وعندما سألتْ في اليوم التالي ما إذا كان أحدنا قد حفظها، رفع بعضنا أصابعه، وكنتُ من بينهم. ويبدو أنّني كنتُ أرفع إصبعي بشيءٍ من الإلحاح، ولم أنتبه إلى أنَّ غيري قد سبقني إلى ذلك. فطلبتْ من أحد الطلّاب تلاوة القصيدة، وفي الوقت نفسه التفتتْ إليّ وخاطبتني بلطف وبابتسامةِ اعتذار قائلة: " أنتَ مسكُ الختام."

ولكن عندما جاء دوري، ارتُجَّ علي ولم أستطِع تذكّر القصيدة. فقالت ملتمسةً لي العذر:

ـ " كثيراً ما يحصل هذا عندما نحفظ النصَّ جيِّداً"

رحمك الله يا عاتكة.

 

د. علي القاسمي

 

في المثقف اليوم