شهادات ومذكرات

فيلسوف اليمن الذي مات وهو يبحث عن وطن

إذا أردنا أن نقدر القيمة الحقيقة التي ينطوي عليها مشروع أبوبكر السقاف وإرثه الثقافي والفكري فلابد لنا من النظر إليه في السياق التاريخي الذي ولد ونشأ وازدهر وفكر وكتب ونشر في أرضه وفضائه. والسياق هو كامل الوسط الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي يحيط بحياة السقاف من كل الجهات. إذ يواجه الباحث في حياة الفيلسوف أبوبكر السقاف ومداراتها الحزينة جملة واسعة من الصعوبات المحاذير، إذ ينبغي عليه البحث في شخصية متعددة الأبعاد، وتجربة ثقافية وحياتية فريدة ومتنوعة لاهتمامات والريادات، فهو رائد في النشاط الطلاب ومؤسس أول رابطة طلابية يمنية في القاهرة عام١٩٥٦م " ويصفه زملاؤه بأنه الطالب الشغوف بالاطلاع والمعرفة، ومن رواد دور العلم والمنتديات، ودور النشر والمكتبات "(ينظر، عبدالباري طاهر، أبو بكر السقاف مفكر الأمة المدافع عن الحريات والحقوق صحيفة اليمني الأمريكية، ١٨ ديسمبر ٢٠٢٢م)  وهو أول أستاذ فلسفة يمني في جامعة صنعاء منذ تأسيسها ١٩٧٠ بطاقم أكاديمي مصري إذ  "اضطلع كادر مصري بوضع النظام الإداري والنظام الأكاديمي وتحديد المقررات الدراسية للأقسام الأكاديمية ومفرداتها.. وكان الدكتور أبو بكر السقاف هو الذي يدرس مقرر الفلسفة الحديثة لطلاب قسم الفلسفة والاجتماع وقسم الدراسات الإسلامية" (ينظر عادل الشرجبي ، الدكتور أبو بكر السقاف رائد التنوير الأكاديمي ١٨ ديسمبر ٢٠٢٢) وهو أول أكاديمي جعل من الفلسفة منهجا في دراسة المشكلات الاجتماعية وهو رائد في النقد السوسيولوجي والنقد الثقافي وهو رائد في النشاط المدني والحقوقي. وهو رائد في النقد العقلاني للسياسة والدعوة إلى تأسيس المجال السياسي المستقل وربما أخذت المشكلة السياسية والقضايا الاجتماعية والحقوقية جل اهتماماته الفكرية وهذا ما يعزوا سبب شحة كتاباته الفلسفية البحتة. فمعظم ما كتبه يشتبك مع القضايا السياسية والاجتماعية والحقوقية الحيوية التي كان يعيشها لحظة بلحظة" كان على رأس مجموعة من أهم الحقوقيين والناشطين الذين تنادوا إلى تكوين لجنة وطنية للدفاع عن حقوق الإنسان والحريات وهو القائل: “إن غابت الكرامة احتجب الوجود الإنساني" (ينظر، منصور هائل، في البدء كان السقاف: بورترية متجدد، صحيفة النداء ٢٠٢٢) ورغم أن السقاف ينتمي إلى مرجعية دينية تقليدية الا أنه ترك كل المرجعيات التقليدية وراء ظهره وجعل عقله الشخصي مرجعيته الوحيدة إذ كان يؤمن بأن كل إنسان ذاتا فردية حرة تمتلك كامل الأهلية القانونية في حق العيش بوطنها تمثيل نفسها وتلك هي ذروة المدنية الليبرالية التنويرية. وكتابه دفاعا عن الإنسان والحرية يحتوي خلاصة قناعاته ومواقفه التي مارسها بذاته في خضم حياته اليومية الواقعية وهو بذلك يجسد إلى اقصى حد ممكن نموذج المثقف العضوي الملتزم بحسب غرامشي لقد كان حقا وفعلا صوت من لا صوت لهم. فهو في في حياته وسلوكه وفكره ومحاضراته وكتاباته إنما كان يؤرخ على طريقته لتغير داهم طرافي الأفق الاجتماعي والثقافي لحياة اليمنيين المعاصرين لا مثال سابق له. إذ كان يؤمن إيمانا راسخا بان حاجة الناس إلى مثُل عليا للسلوك والقيم هي حاجة حيوية وملحة أكثر من حاجتهم إلى المواعظ والوصايا والتعاليم الجوفاء. فجسد صورة الأكاديمي المثقف في قول ما يعتقده صوابا بتجرد وأمانة ونزاهة قل نظيرها، ذلك لأن التشكيل الأكاديمي هو تشكيل غايته الكمال الأكمل، والتام الأتم والكلي المطلق المجرد، المثال الأمثل. وتأبى الأكاديمية النزول بالتشكيل عن أرقى تصميم، فهي نزوع دائم نحو الأكثر حكمة والأكثر عدلاً والأكثر جمالاً والأكثر نفعاً والأكثر صدقاً والأكثر أمانة والأكثر رقياً مهما كلف الأمر، والأمر من أعلى ما تكون الهمم ومن أرقى ما تكون معالي الأمور. كان السقاف هو الأكاديمي العربي الوحيد الذي يميز بين الأدوار المفترضة للأستاذ الجامعي (دور المعلم دور الباحث، ودور المشرف الأكاديمي ودور المحكم العلمي) أو حارس البوابة  وهذا الأخير يعد أهم الادوار وأخطرها، إذ تقع عليه مهمة حراسة بوابة قلعة المعرفة العلمية – بما تعنية كلمة (حارس) من معاني اليقظة الدائمة والحذر الاحتراس والأمانة والشجاعة والنزاهة والمسؤولية الرفيعة- وتأمينها وحمايتها وصيانتها من كل الاختراقات والتهديدات المحتملة، فضلا عن التعهد الدائم برعايتها ونقدها وتنميتها وتطويرها وتجديدها وتجويدها. فضلا عن تمييزه بين دور الخبير الأكاديمي ودور المواطن المدني إذ كان شديد الحرص على عدم الخلط بين الدورين. واتذكر أنه ذات يوم نشر مقالا ينتقد فيه جامعة صنعاء وفساد إدارتها في عهد رئيسها الراحل صديقه وزميله الشاعر الكبير عبد العزيز المقالح. كان ذاك المقال من الشجاعة والجرأة والوضوح حد وصف رئيس الجامعة التي يعمل فيها بماسح احذية السلطان! نشر ذلك المقال عام ١٩٩٨إذ لم تخني الذاكرة. إذ كان السقاف ينادي بضرورة حماية المؤسسة الأكاديمية وجعلها مستقلة إن الحرية الأكاديمية تنبع من مقتضيات الحقيقة العلمية، إذ أن العلم والتفكير العلمي والبحث العلمي لا ينمو ولا يزدهر إلا في فضاء حر ومجال مستقل وبيئة شفافة وكان يدرك مخاطر ترك الجامعة بوصفها مؤسسة حديثة في مجتمعنا اليمني التقليدي خاصة والعربي عامة، إذ  هي مؤسسة حديثة وجديدة في كينونتها المؤسسية وبنيتها التنظيمية ووظيفتها العلمية، والتعليمية والتنموية وقيمها المهنية والأكاديمية وأنماط علاقاتها وأهدافها وعاداتها وتقاليدها، في حين أن مجتمعاتنا بحكم التخلف التاريخي لا تزال أسير البنى والعلاقات والقيم التقليدية على مختلف صعد الحياة، السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والأخلاقية هذه البنى الثقافية التقليدية لا ريب وأنها تأثر في المؤسسة الجامعية وتخترقها بسهامها المنطلقة من كل حدب وصوب، إذ إن الجامعة ليست جزيرة منعزلة عن المجتمع التي توجد فيه، بل هي جزء من هذا المجتمع الذي يؤثر فيها وتأثر فيه. فإذا لم تجد من يحميها ويصون قيمها فلن يكتب لها الصمود والنجاح وهذا هو ما تم فعلا الآن . واتذكر أنه قال لي: بعد قراءة أبحاثي لغرض الترقية العلمية لدرجة الأستاذ المشارك عن فلسفة بن خلدون ومنهجه العقلاني- قال لي: (يا قاسم أنت قدست ابن خلدون بدلا من أن تنتقده) وكتب لي بالخط الأحمر نحن بحاجة إلى تجاوز العقدة الخلدونية وليس إعادة بعث الروح فيها) تلك الملاحظة الساقفية الذكية منحتني جرعة نقدية لا تقدر قيمتها بثمن . وبشهادة تلاميذه في جامعة صنعاء كان السقاف أكاديميا صارما حتى مع أحب الطلاب إلى قلبه. غيران تلك الصرامة الأكاديمية تختفي حينما يمارس دوره بوصفه مثقفا عموميا إذ كان مدافعا صلبا عن حقوق المقموعين والمضطهدين حتى وأن كانوا من اشد خصومه. وهكذا تكمن أهمية السقاف في أنه يمثل تجربة فكرية أصيلة ومتفردة نشأت وتبلورت في خضم المشكلات الاجتماعية والثقافية الحيوية التي شهدها وعاشها بنفسه في سياق المجابهة الحية بين الفكر والواقع في علاقة صميمة مع العالم لمعاصر وتحدياته التاريخية الحضارية الثقافية المدنية المضطربة في عالم مأزوم. ويعد السقاف أول أستاذا جامعيا عربيا تخلى عن لقب الدكتور عند كتاب اسمه. "كان يتبرم ويسخط في وجوهنا حين نضيف لقب “الدكتور” إلى اسمه، فهو يرسل مقالاته مذيلة باسمه العادي العاري من أي لقب، ويحذرنا من تدبيج توقيعه بالدال”، فقد كان سباقًا إلى انتقاد “الفيض من حملة الدكتوراه الذي يقابله -دون مفارقة- تدنٍّ صارخ في دور العلم في المجتمع، وضعف فاضح في المستوى العلمي لحملة شهادة الدكتوراه ” (ينظر، منصور هائل، المعطيات السابقة) مع الاستاذ السقاف الخصم اللدود للرثاثة والهرجلة وشهوة الحضور المهرجاني ستوجهنا صعوبات جمة الكشف عن حياته وتجربته الفكرية التي شكلت ظاهرة ثقافية فريدة في بيئة شديدة التخلف والاضطراب إذ تقاطب عند دروبها مختلف المواقف والأحكام والتقييمات والآراء المتضاربة، بين الدارسين والنقاد هذا ما سوف نتحقق منه في دراستنا سيرة حياة السقاف وتطوره الفكري في السياق التاريخي لمجتمعه وعصره. ومن المؤسف أن يكون أبرز مفكرا يمنيا بدون سيرة ذاتية مدونة في الشبكة العنكبوتية وتلك هي مهمة القسم والجامعة. إذ كتب محمدا لشيباني ما يلي" قبل العشرين السنة الأولى من عمره، لا تتوفر الكثير من المعلومات الدقيقة عن التكوين الثقافي الباكر للدكتور أبوبكر عبد الرحمن السقاف، أستاذ الفلسفة بجامعة صنعاء) فكيف يمكننا مقاربة السقاف وتجربته الفكرية في بيئة حالكة الظلام والعتمة كما وصفها أمين اليافعي " في هذه البقعة الموحشة من العالم، حيث الظلامُ يتبدى نوراً، والدُجى قناديل زاهية، والغسق قمراً مُنيراً تغازله ألفُ سوقٍ عكازيه، والليلُ يغشى النهار فيسلخه...

ولا فجر في الفجر غير زيغ بصري سمحنا له برضى تام أن يَغُش العين والقلب وما استقر على حافة الأمل من أحلام مذعورة!

في عمق كل ذلك العمى، كان أبو بكر السقاف أشراقة معلم لا تزول، البصيرة، أثر لا يُمحى، كثافة المعنى..

ولكم جعل لصخبنا المشدوه قوةً وتماسك بعدما كسرته هشاشة عارمة.

ذات مرةً كتب جيل دولوز مقالاً عن سارتر بعنوان "كان مُعلمي":

" كلّ شيء مرّ عبره، ليس فقط لأنّه كان يملك، بصفة الفيلسوف، عبقرية الكلّ الجامع، بل لأنّه كان يعرف كيف يخترع الجديد، ويجد طرق التفكير المناسبة لحداثتنا، لصعوباتنا كما لحماستنا الصاخبة. نحن نعلم أنّه ليس ثمّة سوى قيمة فنّية واحدة، بل حتى قيمة حقيقية واحدة: "اليد الأولى"، الجدّة الأصيلة لما نقول..."

بالنسبة لنا، كان أبو بكر السقاف، في عمق هذا العمى، كل ذلك، وأكثر.. وأكثر..

فسلامات سلامات يا مُعلمنا العظيم!

***

قاسم المحبشي

 

في المثقف اليوم