تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

شهادات ومذكرات

طه جزّاع: ساعة في جيب الملك

بعد مرور 65 عاماً على مذبحة العائلة الملكية في العراق صبيحة يوم الرابع عشر من تموز 1958، وبتوفر آلاف الصفحات من الكتب والمقالات والدراسات الأكاديمية والموسوعات التاريخية والمذكرات، والحكايات المكتوبة أو المُوثقة في برامج وأفلام تسجيلية، فإن ما جرى في الليلة التي سبقتها، يبقى مثيراً ومشوقاً مهما كُتب عنها، أو قيل حولها من قبل شهود عيان من داخل قصر الرحاب، أو من قبل ضباط وسياسيين ومواطنين بسطاء اطلعوا على ما جرى واستمر يوخز الضمير العراقي الذي يبدو كأنه يمارس طقس البراءة والإنكار والتطهير، بتكرار الكتابة أو الحديث عن ذلك الصباح الدموي الذي جرح روح بغداد وأهلها. وهو إحساس لم يشعر به المصريون على سبيل المثال، الذين ثاروا على الملكية، لكنهم ودَّعوا الملك فاروق بما يليق به من لياقة واحترام وتعاطف، وبكاء الحاشية والخدم وسط اطلاقات المدفعية الموَّدِعة، وعزف السلام الملكي.

إن كتابة التاريخ مُجرداً كوقائع وأرقام قد لا تشفي الغليل، كما أن ذكر الأحداث الكبرى لوحدها لا يترك للخيال حصةً في عملية التطهير، فضلاً عن عملية الإبداع الأدبي، وعلى رأي المفكر الماركسي جورج لوكاتش في كتابه الشهير عن الرواية التاريخية « فإن ما يهم في الرواية التاريخية ليس إعادة سرد الأحداث، بل الايقاظ الشعري للناس الذين برزوا في تلك الأحداث، وما يهم هو أن نعيش مرة أخرى الدوافع الاجتماعية والإنسانية التي أدت بهم إلى أن يفكروا ويشعروا ويتصرفوا كما فعلوا ذلك تماماً في الواقع التاريخي»، وهذا هو بالضبط ما فعلته الأديبة العراقية ميسلون هادي في روايتها الأخيرة «ساعة في جيب الملك» التي تزامن صدورها عن « دار وتر»  في البصرة، مع ذكرى تلك الليلة التموزية، كما أن الروائية طبقت في روايتها هذه منهج لوكاتش في التركيز على الاحداث غير المهمة ظاهرياً، والتفاصيل الصغيرة لأنها تكشف عن دوافع السلوك الاجتماعية والإنسانية أكثر مما تكشفه الأحداث المهمة الأخرى. تلك التفاصيل التي التقطتها بعناية وبقصد من المصادر التاريخية الكثيرة التي توفرت لها، ومن فهمها لطبيعة العائلة البغدادية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وما يربط بين الأجداد والأحفاد في الليالي البغدادية حين تقص الجدة مريم حكاياتها عن العائلة الملكية لحفيدتها سناريا، عن شخصيات الملك فيصل الثاني وخاله عبد الإله وخالته عابدية التي كرست حياتها للاعتناء به، وخالته بديعة التي كانت تجهز لعرسه من الأميرة فاضلة التي كان من المفروض أن يلتقيها في لندن يوم 14 تموز 1958. كان القدر يرتب كل شيء وصولاً إلى صبيحة اقتناص الملك الشاب وخاله وجدته نفيسة وخالته عابدية وربيبتها الطفلة غازية والخادمة رازقية والطّباخ التركي برصاصات عبد الستار العبوسي في ذلك الصباح الدامي الذي لم تنجو منه سوى الأميرة هيام الحبيب ابنة أمير ربيعة، والزوجة الثالثة للوصي بعد زوجته الأولى ملَك، والثانية فائزة الطرابلسي التي عَرَّفته عليها المطربة أم كلثوم صديقة شقيقته عابدية. لقد كان من المقرر أن يسافر الملك الشاب يوم 8 تموز لكن توفيق السويدي رجاه تأجيل سفره ليومين آخرين: « لأن وزير المالية يريد امضاء الملك على بعض القوانين، فأجل سفره يوماً واحداً، ثم وردته برقية من شاه ايران وطلب الاجتماع به وبرؤساء دول حلف بغداد في طريق عودته من أمريكا. فاضطر الملك تأجيل سفرته مرة أخرى إلى يوم غد.. يوم الرابع عشر من تموز»!. كما أن عبد الإله كان في إستنبول لكن الملك طلب منه العودة قبل هذه الليلة،» وعاد مسرعاً إلى هذا الحر الشديد، خشية من حدوث القلاقل في بغداد، إذا ما سافر الملك. نوري السعيد أيضاً كان في إجازة بلندن مع زوجته نعيمة العسكري، غير أنه أرسل برقية للملك فيصل الثاني يطلب فيها حضوره إلى بغداد بشكل فوري. وهكذا تجمعت رؤوس الثلاثة الكبار في بغداد بشكل يثير الخشية والريبة والإستغراب».

ومثلما جمعت الأقدار رؤوس الثلاثة الكبار في بغداد تمهيداً لمذبحة، تجمعت لدى ميسلون هادي ثلاثة عوامل مهمة تمهيداً لرواية تاريخية بارعة، أولها مصادر الذاكرة البغدادية، وهي مصادر كثيرة ومتنوعة وزاخرة بالمعلومات التفصيلية، وثانيها القدرة السردية المُجربة ذات النفس الطويل، والانتقال بسلاسة بين الأزمان، وضبط مسار الحاضر بالماضي من الذكريات الموجعة، وثالثهما الروح البغدادية التي تربت عليها الروائية ومعرفتها بعادات الأسرة البغدادية، ووفرة معلوماتها عن محلات بغداد وأزقتها في الأعظمية والكاظمية والوزيرية والعطيفية وجديد حسن باشا والكرادة، وعن قصري الزهور والرحاب، بما مجموعه أكثر من 35 محلة وزقاق جرت فيها أحداث الرواية، عوضاً عن أماكن خارج العراق كما في محطة قطارات بارنغتون بلندن للذهاب إلى مدينة بريستول حيث درست راوية الأحداث الطالبة العراقية نور ماضي في بعثة دراسية عام 1967.

في تلك الليلة كما تقول الرواية، جاء عبد الإله بساحر هندي للقيام بألعاب سحرية، قام الساحر بنزع ساعة أحد الموجودين، ثم عثروا عليها في جيب الملك فيصل، وفي مرة أخرى، أخذ الساعة من معصم الملك، ووضعها في جيب الملك نفسه. ثم أخرجها من جيب شخص آخر وسط ذهول ودهشة الجميع.. حدث شيء غريب، سقطت الساعة من يد الساحر على الأرض وانشرخت زجاجتها.

« تطّيرت الأميرة عابدية مما حدث».

***

طه جزّاع

في المثقف اليوم