شهادات ومذكرات

علي حسين: رحيل ماريو فارغاس يوسا.. الحياة مجرد كتاب

عندما سئل: لماذا اصبحت روائيا؟، فكر قليلاً ثم قال: الجواب يكمن في طفولتي.. لماذا يحاول استعادة طفولته دائما؟، لأنها الرواية التي يتمنى ان يكتبها ذات يوم. عاش بعض طفولته في بيورا التي يرسمها بشغف ومحبة، ويسترجع الشوارع المزدحمة، وأشجار التمر الهندي. الحرّ والذباب، والعشاق.

ماريو فارغاس يوسا الذي رحل عن عالمنا امس الاحد عن عمر " 89 “ عاما يتذكر كيف انفصل ابوه عن امه قبل أن يولد، وعندما اصطحبته امه الى بوليفيا اخبرته ان والده مات قبل ولادته، وبعد عشرة اعوام سيظهر هذا الأب ليتزوج امه مرة ثانية، وغضب عندما علم ان ابنه يكتب الشعر، كان الاب يربط بين الادب والشرور، والحياة الشاذة، ينتمي الى طبقة برجوازية، مارس عدة مهن ، وكانت مهمته في الحياة بعد ان اكتشف ان لديه ابن، ان يزيد من صلابته، فقرر ان يرسله الى معهد تعليمي عسكري في ليما عاصمة البيرو، المدينة التي ولد فيها يوسا في الثامن والعشرين من آذار عام 1936. كان المعهد يتسم بالتشدد، وسيصف لنا في روايته الاولى " المدينة والكلاب " الصادرة عام 1962، الحياة في هذه المدرسة ومدى شدتها، هناك كان الطلاب يخضعون للنظام العسكري الصارم، يطلب منهم تمجيد القيم العسكرية. يصور لنا بطل الرواية مرعوبا وخائفا من الواقع الذي يشجع على العنف:" كنت مصدوما في هذه المدرسة العسكرية " – الكاتب وعالمه ترجمة بسمة محمد عبد الرحمن - في المدرسة يجري تدريب الطلبة للعمل في عالم من العنف، يروي لنا الوحشية المتفشية التي مورست على مجموعة من الطلاب الشباب.، ليدين من خلالها فساد ذلك العالم وعنفه الدائم.

بدأ في كتابه رواية " المدينة والكلاب " في منتصف عام 1958، عندما كان يقيم في مدريد، يحمل اوراقه ويتنقل بين عدد من المقاهي، انتهى منها في شتاء عام 1961 في غرفة صغيرة أثناء إقامته في باريس. عرضها على العديد من دور النشر التي رفضتها، في النهاية قرر ان يذهب الى الناقد الفرنسي من اصل اسباني كلود كوفون، الذي تحمس للرواية ونصحه الاشتراك في مسابقة للرواية في اسبانيا، تحدث المفاجاة وتفوز الراوية بالجائزة الاولى وسيصفها رئيس لجنة التحكيم بانها عمل ساحر وافضل ما قدمه ادب امريكا اللاتينية منذ عقود.. حصلت الرواية بعد عام على جائزة النقاد الاسبان. واعلنت عن ولادة كاتب روائي سيذهل النقاد بتقنيته الروائية وبالموضوعات الحساسة التي يطرحها، فالرواية بالرغم انها عن حياة الطلبة داخل المدرسة العسكرية، إلا انها تقدم للقارئ عالما مصغرا للمجتمع البيروني في طبقاته الاجتماعية المتباينة.تعرضت " المدينة والكلاب " للكثير من المصاعب حيث تم احراق نسخ منها في البيرو، فيما اصرت الرقابة في اسبانيا على حذف مقاطع كاملة في الطبعة الثانية، ولم تنشر كاملة إلا بعد انتهاء حكم الجنرال فرانكو.

قبل ان يفكر بدخول عالم الرواية حاول ان يتجه الى المسرح، كتب عملاً مسرحيا في 1952، إلا انه وجد في الرواية عالما اكثر غرائبية: "الروائي يكتب عمله من تجربته الحياتية، مشيداً عالمه المتخيل على أسس الواقع، يقوم الروائي، بالنبش في تجربته الحياتية الخاصة، بحثاً عن دعائم ومرتكزات لكي يبتكر قصصاً. والكاتب لا يمتلك حرية واسعة جداً في اختياره لموضوعاته، فهذه الموضوعات هي التي تفرض نفسها عليه.. إنها رحيق تجاربه وخبراته التي يبدأ بها لكنها لا تحدد عنده نقطة الوصول، فالروائي مسؤول عن كيفية معالجته فنياً للموضوعات التي هيمنت على ذهنه، ووجّهته للكتابة عنها. إنه ينصاع لمتطلبات عمله، تحت وطأة تلك الرابطة الحميمة التي تجمعه مع صور ومشاهد وحالات بعينها من هذا العالم، فيكتب قصصه المتخيلة. والطريقة التي يجسدها بها هي ما تجعل من هذه القصص أصيلة أو مبتذلة، عميقة أو سطحية، معقدة أو بسيطة، وهي التي تمنح الشخصيات الكثافة، والغموض والاحتمالية " – الكاتب وعالمه. في سن مبكرة يحلم بالقيام بمغامرات مثيرة مثل احد ابطال تولستوي وجول فيرن والكسندر دوماس، الذين قرأ اعمالهم بشغف، لكن الاكتشاف الابرز له كان جان بول سارتر، قرأ كتبه باعجاب وحماسة عندما كان طالبا في الجامعة، كانت الوجودية آنذاك مؤثرة في العالم كله، ظل أصدقائه يسمونه سارتر الصغير:" أنا تلميذ سارتر الذي يعتبر الكلمات أفعالاً، ويؤمن أنّ الأدب يغيّر الحياة "، في تلك السنوات ينتمي الى الحزب الشيوعي، لكن افكار سارتر تظل مهيمنة عليه:" برغم من كثرة قراءاتي في الماركسية خلال فترة الجامعة، كانت لدي اختلافات مع الماركسيين بسبب سارتر، لان افكار سارتر عن الادب والعلاقة بين الادب والتاريخ كانت مقنعة جدا بالنسبة لي الى درجة انني لم استطع قط ان اقبل العقيدة الرسمية للحزب "، لم تستمر علاقته بالماركسية طويلا، سخر من الواقعية الاشتراكية، واعجب بفكرة سارتر من ان الادب شديد الارتباط بالزمن المعاصر، وانه من غير المقبول استخدام الادب في الهروب من المشاكل المعاصرة. قال ان كل ما يكتب بالاسبانية فيه رائحة ثرفانتس، مثلما كل ما يكتب في الانكليزية فيه رائحة شكسبير، هكذا ظل الحلم بكتابة ملحمة شبيهه بدون كيشوت يطارد الشاب الذي اكتشف أنه لن يكون كاتباً ان لم ينتمي الى امريكا للاتينية.

عام " 1966 " ينشر روايته الثانية " البيت الاخضر " – ترجمة رفعت عطفة - يقدم من خلالها ادانة للغزو الاسباني وللدور الاستعماري ولتدمير الحضارة الهندية، ففي الرواية نحو بمواجهة " حضارتان " واحدة غربية وحديثة وبدائية والاخرى بدائية وقديمة، تتعايشان بشكل سيء، حيث يسعى لتصوير انقسام بيرو الى ثقافتين منفصلتين ومتمايزتين. قبل عام من اصدار الرواية يتزوج ابنة خالته " باتريشا يوسا " وسينجب ثلاثة ابناء، ويتلقى عالم 1967 جائزة رومولو غايبوس عن " البيت الاخضر "، كان قد تلقى رسالة من الكاتب الارجنتيني خوليو كورتاثر الذي قرأ مخطوطة " البيت الاخضر " يقول فيها:" تركت اسبوعا يمر بعد قراءة كتابك، لاني لم أشأ الكتابة اليك تحت تاثير انخطاف الحماسة التي احدثة (البيت الاخضر " بي. اريد ان اقول، ان اعظم الساعات التي يخبئها لي المستقبل ستكون اعادة قراءة كتابك عندما يطبع.. حسنا ياماريو بارغاس يوسا، ساقول لك الآن الحقيقة كلها: " بدأت بقراءة روايتك وانا اموت خوفا نظر للاعجاب الكبير الذي قرأت به المدينة والكلاب. وكنت اشعر بخوف من ان تكون روايتك الثانية ادنى، بعد قراءة عشر صفحات وستلقيت في وضع مريح على الاريكة، وغادرني الخوف، صرت خاضعا تماما لقدرتك السردية الهائلة " –جيل البوم الادبي ترجمة صالح علماني –

بعد صدور رواية "مئة عام من العزلة "يكتب غابريل غارسيا ماركيز رسالة الى يوسا يقول فيها:" انتهيت من قراءة " البيت الاخضر " انها عمل هائل، نبهني الى اننا متفقان في هدف عدم هجر ممالك غاييغوس وريفيرا القديمة، باعتبارهما مطروقة، بل على العكس، مثلما تفعل انت ومثلما احاول ان افعل، يجب الامساك بهما من البداية من اجل اختراقهما عبر الطريق الصحيح ".

روايته الثالثة "حوار في الكاتدرائية" صدرت عام 1969 يصور فيها الجو السياسي في البيرو في اثناء حكم " مانويل اودريا، وكانت فترة حكم دكتاتورية فاسدة امتدت من عام 1948 الى عام 1956 اصبح يوسا اكثر وضوحا بموقفه حول العلاقة بين الادب والسياسة، فهو يعلن بوضوح ان على الكاتب ان يكون على اتصال دائم بالواقع، فهو يمقت فكرة الروائي المنعزل الذي يقطع علاقته بكل شيء، لان هذه القطيعة ستنتج ادبا " لا يمكن ان يكون نقيا "، لكنه في الوقت نفسه ظل يعيب على الادب ارتباطه بالقضايا الراهنة، وفي المقال الذي نشره عن رواية " مئة عام من العزلة " يؤكد ان الادب، خلافا للسياسة، لا يمكن ان يكون مرتبطا بالراهن، إذ عليه ان يتجاوز ويصل الى مجتمعات مختلفة في امكنة وفضاءات مختلفة. اغرم بفوكنر وكان الكاتب الامريكي الشهير صلة الوصل بين يوسا وماركيز:" كنّا معاً من كبار المعجبين بفولكنر. في مراسلاتنا المتبادلة كنّا نتحدّث كثيراً عن فولكنر، عن الطريقة التي اندفعنا بها لاكتشاف الفن الحديث، بما فيه أسلوب السرد بدون احترام التسلسل الزمني، وتغيير وجهات النظر. "

في روايته الرابعة " حرب نهاية العالم " – ترجمة امجد حسين – والتي نشرت عام 1981 ، يعدها النقاد اول محاولاته في كتابة الرواية التاريخية، الرواية تسلط الضوء على الكوارث التي يسببها التعصب، تفرغ لكتابتها اربعة سنوات، قال انه وجد صعوبة لان يكتب عن بلد غريب عنه " البرازيل "، وعن عصر لم يعشه، وان يعمل مع شخصيات تتحدث بلغة لم تكن هي لغته ، ستحصد الرواية شهرة كبيرة سيقول عنها انها الرواية الاكثر اهمية بالنسبة له:" هذه الرواية مثلّت تحديا مرعبا لي كنت اريد ان اتغلب عليه، في البداية كنت قلقا جدا، فكمية مواد الابحاث الضخمة جعلتني اشعر بالدوار، مسودتي الاولى كانت ضخمة، كان حجمها بقدر حجم الرواية مرتين تقريبا، وسألت نفسي كيف ساتمكن من تنسيق كل تلك المجموعة الضخمة من المشاهد، الالاف من القصص الصغيرة ".

يوسا الذي احتفل بعيد ميلاده الـ" 89 " قبل اشهر قليلة قال ان معظم رواياته هي نتاج ذاكرته في بلدته " بيورا " لانها كشفت له حقيقة الانظمة المستبدة، حيث ان ثيمة " الدكتاتورية السياسية " ستصبح ملازمة لمعظم رواياته، والتي توجها بروايته الكبيرة " حفلة التيس " عبر فضح شخصية الدكتاتور " رافائيل تروخيليو " الذي حكم جمهورية الدومنيكان بين 1930و1960. وفيها يختزل يوسا وبمهارة عالية كل الاعمال الادبية والفكرية التي استغلت على موضوعة تعسف السلطة وابرزها بالتاكيد، "خريف البطريرك" لماركيز، و"السيد الرئيس" لميغيل استورياس. في هذه الرواية يمزج صاحب "في مديح الخاله" مواصفات رواية العصور الوسطى التي توجت بالنموذج الاهم " دون كيشوت "وبتقنية الرواية البوليسية وخصوصا في روايات جورج سيمنون من دون إهمال التراث الروائي لكتاب امريكا اللاتينية. يقول يوسا عن حفلة التيس "أنّ الواقع يتجاوز في هوله المتخيل، فخلال ثمانية اشهر من اللقاءات والشهادات عن ما حصل في زمن الطاغية تروخيللو، هذا الطاغية الاستعراضي الذي يخبئ عينيه الوحشيتين وراء نظارة سوداء، اردت ان اقدم خلاصه لكن الواقع كان اكثر عنفا ووحشية من كل ماكتب في الرواية.

العام 2010 يحصل على جائزة نوبل للاداب، آنذاك قال لزوجته التي التي تلقت مكالمه هاتفية من الاكاديمية السويدية " مازلت لا اصدق ذلك "، بعد ذلك اخبر زوجته بألا تخبر الاولاد شيئا ربما ينتهي الامر بمزحه مثل كل عام لقد ظل يوسا ينتظر هذه الجائزة منذ اكثر من عشرين عاما، موقناً من أنه سينالها، ولكن خيبة الأمل ظلت تواجهه سنة بعد أخرى. يقول مترجم اعماله الى العربية صالح علماني: " أن الأيام التي كانت تسبق إعلان الجائزة كل عام تتحول إلى كابوس في منزل الكاتب. فالأسرة كلها تظل متوترة، مشدودة الأعصاب، تنتظر اتصالاً لا يأتي ". وحين تأكد الخبر هذه المرة; قال يوسا لاحدى الصحف الاسبانية " سوف اسير في الشوارع لانني اشعر بالدوار، ان الجائزة سقطت علي مثل الصاعقة، ساعود الى البيت لاكتب من جديد".

قال انه يحب ان يموت وهو يكتب. صاحب " خمس زوايا " – ترجمة مارك جمال وصالح علماني - التي ياخذنا فيها إلى فترة رئاسة ألبرتو فوجيموري البيرو الذي ترشح ضده لمنصب رئاسة الجمهوريّة في البيرو، قبل أن يتفوق عليه فوجيموري مع الأحزاب اليسارية، عام 2000 سيخسر الانتخابات من جديد. قال انه ايقن انه كاتب لا سياسي، هاجمه النقاد لان السياسة لوثت ادبه العظيم، اصيب بالاحباط فقرر ان يترك بلده ليعيش في اسبانيا التي منحته جنسيتها وينتقل بين أوروبا والبيرو، قال انه ينفر من المثاليات الثورية ويرى في التطرف السياسي والديني أصل العنف.

سخرت منه الصحافة الاشتركية لكنه واجهها بالقول انه لم يندم على ترشحه على رغم انه كان "خطأ رهيباً". قال عنه سلمان رشدي:" ما عاد اشتراكياً، كما ترون ".

في حوار معه يصف نفسه:" انا رجل من القرن العشرين ذو ردود وافكار وغرائز بدائية متناقضة.. انا نصف متمدن ونصف بدائي والصراع واضح في رواياتي جميعا ".

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

في المثقف اليوم