نصوص أدبية

القاص البدين

ahmad alhiliهناك في داخل هذه المقهى على الدوام مجموعة أو مجموعتان من المثقفين، ستقع عينُك على الفور على شخص بدين بملامح طفولية، يتلكّأ في النطق، ولكنك حين تقترب منه وتصغي إليه ستجده مثقفاً راكزاً وكلماته ذات عمق معرفي، وإن كان يجنح على الدوام إلى إطلاق قفشات ذكية مبتكرة، الأمر الذي يؤدي انفجار المتحدثين معه واستغراقهم في ضحك متواصل.

إنه القاص والفنان ح. هـ، وهو معلم في إحدى مدارس الحلة، ولما كسدت بضاعة التعليم من الناحية المادية خلال فترة الحصار وجد من يتوسط له ليتم تعيينه بصفه مؤذن في أحد الجوامع السنية، ولكنه اشترط عليهم أن يعفوه من آذان الفجر، فوافقوا.

لا أحد في أوساط المثقفين لا يعرف عمق واتساع المناكدات بينه وبين زوجته كانت أخبار مشاكلهما تتناقلها الألسن وتسري بين كافة فئات المجتمع الحلي كالنار في الهشيم.

في إحدى المرات وفي ذروة تحري السلطة وبحثها عن مناوئيها والمعارضين لها، تم توزيع استمارات إلى موظفي الدولة كافة، تتضمن إدراج معلومات عن الموظف وإن كان أحد أقاربه من المنتسبين إلى صفوف المعارضة، قام بكتابة اسم زوجته الثلاثي في الحقل المخصص، منوّهاً إلى أنها تنتسب إلى حزب الدعوة، ضحك المسؤول الحزبي وهو يقرأ ما دوّنه حامد بخط يده، لا سيما وأنه يعرفه جيداً ولديه إلمامٌ كافٍ بالمشاكل بينه وبينها، ثم أنها كانت على المذهب السني.

أساس المشكلة بينهما، أنه اعتاد أن يحتسي الخمرة باستمرار، مكرّساً كل وقته تقريباً لأصدقائه في النوادي الليلية، الأمر الذي جعله لا يأتي إلى البيت إلا في وقت متأخر جداً من الليل وهو بحالة مزرية جداً. حاولت أن تجد حلاً لهذه المشكلة المستعصية، وأخيراً اعتقدت أنها اهتدت إلى الحل، فأخبرته أنها أصبحت الآن لا تمانع أن يشرب في البيت، أخبرها أن النادي الليلي بالنسبة إليه هو ضرورة لابد منها، قالت له، يمكنك أن تعتبر بيتنا هذا بمثابة نادي، أسرع إلى القول؛ إن في النادي بوياً، أي نادلاً يقدم له المشروب، قالت سأكون أنا البوي وسأرتدي الملابس الخاصة به، قال لها؛ والمشروبات والمزّات هل ستوفرينها لي أم أجلبها معي، قالت؛ كن مطمئناً أنا سأوفر كلَّ شئ، ألم أقل لك أنه يمكنك أن تعتبر البيت نادياً؟ استظرف الفكرة، واتفقا على تنفيذها في اليوم التالي.

عندما حان الوقت دخل إلى المكان، وألقى التحية، فتم الرد عليها بأحسن منها، جلس إلى الطاولة، نظر من حوله بدت عليه علائم الارتياح والانشراح ذلك أنه وجد المكان نظيفاً ومرتباً، أمسك بأحد الأقداح وقرع به على المائدة بلطف، فحضرت مسرعة، سأل إن كان لديهم مشروب معين أجابته نعم، قال هاتي لي رُبعاً مع كذا وكذا من المزات، اسرعت وجلبتها له، سكب كأساً وشرب وأخذ يأكل المزة بنهم، ممتدحاً إياها على طعمها الطيب ونوعيتها الجيدة، طابت نفسه وأخذ يدندن بأغنية؛ أنا ألبي إليك ميّال.. سكب كأساً ثانية وشرب، ثم كأساً أخرى...

انقطع عن الغناء، واصبحت نظرته أكثر جدية، ثم بقي لبعض الوقت ساهماً مفكراً وقد بدت على وجهه ظلال ابتسامة وارتياح، استبشرت خيراً وفكّرت أن خطتها قد نجحت، بعد قليل ران الصمت على وجهه، حدق في ساعة الجدار التي كانت تشير إلى التاسعة مساءً، ثم بدا أن مزاجه قد تعكّر من شيء ما، أصابها القلق، أمسك بالربعية الفارغة وقرع بها على الطاولة بعنف؛ حضرت مسرعة ووقفت أمامه متلهفة لتلبية مطالبه؛ قال؛ هاتي لي ربعاً آخر، اسرعت وجلبته، وضعته أمامه، طلب منها أن تأتيه بقائمة الحساب، احضرت ورقة وقلماً، تظاهرت أنها تسجّل فيها، واخيراً اخبرته بالمبلغ الذي يتوجب عليه دفعه، فرحت في سرها، فذلك يعني أنهما سيأويان إلى فراشهما الذي تصحر منذ أمد بعيد، أعطاها المبلغ مضافاً إليه مبلغاً صغيراً آخر كبقشيش، وهو أمر اعتاد عليه، وضع الربعية في جيب سترته الداخلي، نهض على عجل، واتجه إلى باب الغرفة، حسبت أنه يريد أن يذهب إلى المرافق الصحية، تابعته بنظرتها رأته يذهب باتجاه باب الدار، لحقت به مستفهمة ومتوسلة، قالت له إلى أين، أجابها بثقة؛ أريد الذهاب إلى بيتي!

 

أحمد الحلي

 

في نصوص اليوم