نصوص أدبية

مهد طفولتي

bakir sabatin... أما مهد طفولتي، ومفتاح دارنا القديم الذي علَّقته كتحفة في صدر الدار هنا... فسيظل شيئاً يخصني... وأخشى ألاّ يخص أجيالنا القادمة حتى ولو عبَّروا عنه بأشعارهم (سوى بالنار والحديد). لينتفض إذن منّا أحدٌ في قلب الأرض المحتلة حتى أتراجع عن موقفي، وسوف أسانده بكل ما اوتيت من قوة، وسأتهيأ للعودة التي ناضلت لأجلها طويلاً.

ـ يا صديقي كل شيء مرهون بزمانه، وقد يهزأ المستقبل بما يجري في يومنا هذا... هل تتذكر يا عبد الجبار ذلك الوجيه الذي حل يوماً ضيفاً على مخيم شاتيلا... فقيل بأنه جاء لتقديم الدعم للثورة...!؟

ـ وهل أنساه حينما وُكِّلنا بحراسته!!

ـ قالوا لنا... (ديروا بالكوا عليه فهو في عهدتكما حتى يغادر البلاد)...! واكتشفنا من طريقة حياته بأنه من أصل عربي، وسألناه يوم ذاك عن (تشيلي) حيث كان يقيم... كانت أسئلة كثيرة من غير حسيب أو رقيب عن النساء والخمر... فأشبع رغبتينا بكل ما نشتهي من أحاديث، حتى طوى ذلك فجأة، ثم فتح صفحة جديدة من الحوار...! وغرق الرجل في غمرة من الحنين أضفت على ملامحه وشاحاً حزيناً، فيما ظلت عيناه تتوقدان ببريقٍ آسرٍ من الحيوية والأمل، وراح يوجه إلينا أسئلته الآسرة "من أي بلد أنتما..؟" فأجبناه بلا تردد. لكنه ضحك مردفاً: "أنا من عكا... المدينة التي قهرت نابليون". فسألناه والدهشة تلتهم عقولنا: "إذن...! أنت فلسطيني؟ فلمَ الخوف على حياتك ما دمت بيننا؟!". وأجاب والابتسامة لا تفارق محياه: "إنها محاضرةُ الأمسِ عن العودة. وللعلم! فأنا من مؤسسي لجنة عودة فلسطينيي أمريكا اللاتينية والوسطى إلى الديار السليبة، وهي تمثل الفلسطينيين حيث يقيمون... البلاد التي أسهم الفلسطينيون في بنائها بفاعلية واقتدار... يشاركهم في ذلك عربٌ من سوريّة ولبنان وبعضِ الأقطار الأخرى...". وسألته عندئذٍ: "وهل هذا يحرج موقفك بيننا؟!". فأجاب بهدوء: "قلت لك بأن المحاضرةَ التي ألقيتُها بالأمس في جمهورٍ من إخوتِنا اللاجئين، قد فُهِمَتْ خطئاً... نحن نعلم بأن للفلسطينيّ كامل الحق في عودته إلى وطنه حتى لو كان مسقط رأسه يافا أو عكا... فلا فرق ما دام اللاجيءُ طُرِدَ قسراً من غير إرادته، وتكْفلُ المواثيقُ الدوليةِ له ذلك، لا أحد يمثله في تأجير حقه أو بيعه أو سلخه تحت أيّة ذريعة". فعلقتَ يومها يا عبد الجبار قائلاً: "هذا جيد... سنعود يوماً بلا أدنى شك... ولكن أين مكمن الخطر في حديثك هذا" فأجاب الرجل وقد أحس بنفاد صبرنا: " الأمر يتعلق برفضي لمبدأ العودة إلى أي جزء نحرره من أرضنا".

فسألته: "وما الضير في ذلك!؟ فأي جزء نحرره لا بد من العودة إليه". فأجاب متداركاً غضبي ونفاد صبري: "أخشى أن نعود إلى دولةٍ ميتةٍ لا وطنٍ مرحليٍّ... والمرحلةُ ما هي إلاّ خطوة على حسابِ الآخر... فإمّا أن نلقيهم إلى البحر، أو يلقونا إلى الصحراء... أما الدولة ــ لا محال ــ فستكون ميتة لأنها ستتجمد بفعل التنازلات...". وسألته بإلحاح لا يخلو من الخشونة: "والحل يا رجل!؟". فأجاب وهو يربت على كتفي: "الحل هو إقامة دولة ثنائية القومية ( يهود وعرب... برلمان واحد... وأعضاء في جامعة الدول العربية...) لنتشارك في هذه الأرض... على الأقل سيباغتهم المستقبل بكثافتنا... وسأعود إلى عكا كما سيعود ابن الخليل إلى مدينته". تتذكر يا عبد الجبار حينما وضعت يدي على الزناد... تخيلته المختار الذي ناكفه والدي ذات يوم... ولكنني استعدت رباطة جأشي، وأثنتني نظراتك يا عبد الجبار عن فعل شيء قد يؤذي الضيف... وفوجئت بك تسأل الضيف بعدما أثنيت على الفكرة: "وهل ننتظر مشروعاً قد لا يتحقق أبداً... أيعقل ذلك؟". فأجاب الرجل بإصرار هزّني، وقد تجمّع كل عناد الدنيا في عينيه، وتشابكت العروق والتجاعيد في رقبته الشاحبة: "لا بد من ثورةٍ شعبيةٍ تشتعلُ بين أهلِنا في الأرض المحتلة... لا بدَّ أن يثق كل فلسطينيٍّ بأخيه، ويحترم عروبته؛ لأنني في المهجر كنت الأشد عطشاً إليها...!! ودعوتي هذه رسالة سوف يفهمها العالم ذات يوم... وحقيقة سوف تتخطى كل المواثيق المشبوهة، ومراحل التخبط..."!!.

وفجأة...! احمر وجه الرجل...وضاق صدره عليه، وتحشرجت أنفاسه، ثم شهق جاحظاً عينيه حتى الموت... وارتمى على العشب الأخضر...

ـ كانت لحظات عصيبة يا إبراهيم... مات الرجل بالسكتة القلبية وتعاملنا مع جثمانه كالأهل... فإذا المخيم بأهلهِ يتنادونَ إلى جنازةٍ لم تشهدْ لها شوارعُ بيروتَ مثيلاً...

ـ رغم ما قاله الرجل يا عبد الجبار... بقيت أنت ذلك الرجل المسالم الذي جنح إلى طريق السلام... فيما قبلت أنا بهذا السلام، على أن تستمر المقاومة، وفي زمن المراحل المتعثرةِ نحو التحرير...! شيء واحد يا عبد الجبّار وافقتُ الرجلَ عليه، في أن الانتفاضة ستدب من جديد في أوصال الشعب.

المهم، أن تستمر بنا الطريق، حتى ولو بالقوة... بالتصادم أحياناً!!ليس مع إخوتنا العرب تحت أيّ ظرف كان، بل مع المحتل البغيض الذي سرق منا الأرض والمستقبل والأمان.

- والتفاهم.. ماذا بشأنه؟

- ولماذا تحدد طريقاً واحداً ما دمت تريد كل شيء.!

- أوه! عفواً، لنقل بدايةً خذْ بالتفاهم، ثم اصنع بعد ذلك ما شئت...

فقط أريد سلامة ابني في مواجهته مع خليل الجيباوي.

- أوه! إذن...! كما أوضحت لي، هدنة ولو بخسائر، لن تتغير يا صديقي، هذا شيء عهدته فيك حتى ونحن نصدُّ آخر هجوم شامل للعدوّ عن محيط بيروت... حيث أصبت أنت بشظية أقعدتك، فيما أصبت أنا بجروح ما لبثت علاماتها على وجهي. إصابتك كانت وأنت تحمل طفلاً مصاباً مزق صراخه قلبك اللين، فيما كانت إصاباتي المختلفة في أنحاء جسمي وأنا أغافل جندياً إسرائيلياً، فانتبه لي، ثم صرعته بعد عراكٍ بالمدي، والنتيجة !!.

تم احتلال لبنان في حرب خاطفة لم نقدر عليها ، فُرِض علينا بعد ذلك سلاحٌ وحيدٌ هو السياسة، ربما أعاد هذا الخيار (وللإنصاف) جزءاً من وطننا السليب، ولكنه من غير الانتفاضة كان سيبدو ذلك ضرباً من الوهم، مع استنزاف الخسائر المستمرة... هذه هي السياسة التي أؤمن بها ... نناجز خليل الجيباوي فيما نبحث عن سبل التفاهم معه .

كاد عبد الجبار يقول شيئاً، فألجمه إبراهيم الصافي بحدة:

- يا رجل حتى الهدنة لا تنهي كل شيء، أنت تتناقض كثيراً، وتستسلم لصراخ ذلك الطفل الذي خرجت به ذات يوم من بين الركام وكأنه يقول لك (كفى!!).

دع ابنك ماهر يمارس كل شيء لأجل حقه بوجوده... فتوقيعه يعني نفسه، فلا تدع اليأس يهمِّش المباديء في أعماقنا؛ أنت تصور لي شيئاً لا تملكه. قل إنك تخاف خليل الجيباوي.

- أنت تهينني يا إبراهيم.

- بل أجذبك إلى معركة ابنك الوحيد.

...يتبع

 

بكر السباتين

.................

مقطع من رواية: ثلوج منتصف الليل- من قتل الجيباوي!، التي صدرت عن دار يافا للنشر والتوزيع بعمان في 28 سبتمبر 2009 وبدعم من وزارة الثقافة الأردنية، وجاءت في 400 صفحة من القطع المتوسط. وتقوم الرواية على طرح مفهوم واسع للمقاومة من حيث انها ضرورة ملحة لتحقيق الانسان لذاته، والتصدي لكل اشكال الظلم والاستبداد، سواء أكان هذا الظلم مفروزا بشكله السياسي أم الاجتماعي أم الفكري وحتى الانساني.ولفتت الرواية انتباه النقاد العرب وكتبت عنها عشرات الدراسات النقدية..

النص من صفحة 108- 112

 

في نصوص اليوم