نصوص أدبية

غصة

bakir sabatinحدث في المقعد الأخير"دون رتوش"

 أخرجت من حقيبتها المدرسية علبة الزينة الصغيرة، والتقطت منها قلم  أحمر الشفاه، ثم هبطت خلف الدرج قبل الأخير متوارية عن عيني مدرس  التربية الفنية الجديد الذي يشبه في نظرهانجوم الغناء الذين تحفظ أجمل أغانيهم، وفي غمرة إنشغالها بمراقبة المدرس الشاب وهو ينهي كتابة الأسئلة على الصبورة، ثم يذرع غرفة الصف جيئة وذهاباً، أثناء شرحه التوضيحي للمطلوب، كانت عيناها تتجولان في ملامح وجهه القاسية كالزمرد، وتنبهت إلى ما قاله حول جمال المرأة، وكيف أن روح الجمال تكمن في طبيعة الأشياء دون رتوش.. لم تفهم الطالبة المسلوبة الوجدان معنى كلام المدرس، وخامرها شك بقدرته على الصمود أمام جمالها الصارخ المقموع بلباسها المدرسي، وكان بوسعها وهي في غيبوبة التلاقي معه أن تراقصه وتحتضنه بل وتقبله بخضوع، وهما في ظل الوهم الذي هيأ لهما لقاءً في خيالها الخصيب..

وتساءلت ببراءة:" سأختبر ما تقول.. لن أعجز عن الاستحواذ على انتباهك.. سوف أكسب الرهان، ستقول عني جميلة رغم ما قد تبديه من استياء."

وانهمكت تلون شفتيها بحذر شديد. كانت تخفي المرآة  تارة وتظهرها تحسباً من انكشاف أمرها،.

زميلاتها في الجوار تسترن عليها واكتفين باختلاس النظر إلى يديها المرتجفتين وهما تخفيان أدوات الزينة في جيب الحقيبة الخارجي.

وفجأة اكتشفت بأن المدرس قد جلس إلى الطاولة ثم سأل الطالبات قبل أن يشرعن في الإجابة على الورق:"هل من سؤال حول درس اليوم!؟"

فرفعت الطالبة يدها وقد أحاطتها الأنظار بالدهشة، وتعالت الهمسات كفحيح الأفاعي حول وجهها المزين بنعومة، وإزاء ما أحست به من غيظهن غير المكظوم؛ تخيلت أن جمالها وشجاعتها أصابتا في كبريائهن مقتلاً.. 

انتبه المدرس إليها، تعامل مع الموقف بروية وحكمة،  طلب منها أن تتفضل بالسؤال،  قالت له بدلال بأنها لم تفهم  معنى عبارة روح الجمال، وبينما الهمسات كانت تتصاعد في أجواء الغرفة كالدخان، طلب منها المدرس أن تسارع الخطا إلى الصبورة لتمسح كل الأسئلة المرشومة عليهاحتى يعيد شرح ما طلبته الطالبة التي أغاظها تجاهله لها..   ثم طلب منها أن تكتب ما سيمليه عليها"أكتبي" واستجابت لذلك متأففة:"الجمال بدون رتوش يأخذ من قلب صاحبه تألقه، فالمتواضعة عندي وإن بدت قبيحة الوجه فهي أجمل من فتاة جميلة لكنها مغرورة ولا تثق بنفسها" توقفت الطالبة عن الكتابة  وتسمرت مكانها كأن على رأسها الطير.. لم تنبس ببنت شفة وهي تراقب شفتي المدرس الذي تظاهر بالدهشة مما اكتشفه في وجه الطالبة:" ما هذه الفوضى التي عمت فضاء وجهك الحالم،  تجميل الوجه فن سأشرحه لكم في الدرس القادم" ضحكت الطالبات بينما  راح يسكتهن بحزم:" ألا توافقوني الرأي بأنها أجمل بدون   رتوش!؟"

ثم أكمل وهو ينظر إليها وقد طفرت الدموع من عينيها، متسللاً بروحه إلى قلبها، إذ راح يفتش عن عبارة تحفيزية قد تحتاج إلى ترديدها في عقلها الباطن:"أنت فعلاً طالبة ستعترف بأنها أخطأت ، وخاصة أثناء الحصة المدرسية فهذه ليست حفلة عائلية، أليس كذلك، والأمر لا يمنع من أنك صرت أجمل ودمعوع الندامة المسكوبة ها هي تغسل وجهك  الطفولي من رتوش الفوضى"

هذه المرة عادت الطالبة إلى مقعدها وأسهمت النظر إلى ما هو أبعد من الصبورة، ثم رفعت يدها وهي تقول بحياء ممزوج بالقلق:

" لقد فهمت النص يا أستاذ" انفرجت أسارير المدرس الذي شعر بوطأة المسئولية تجاهها؛ ليطلب  منها  من جديد بأن تعود إلى الصبورة كي يملي عليها بقية الدرس، في أجواء أطبق فيها الصمت الممزوج بالذهول بعد أن ذبلت زهور النرجس واستفاقت شمس الروح كي تستنهض في قلوبهن براعم المعرفة وروح المسئولية، ولم يكترث المدرس بالضجيج والمرح الذي أعقب كل ذلك وانشرح صدره وهو يرمق ذات الطالبة التي أحست كما يبدو بزهو الانتصار وكأن حملاً ثقيلاً أزيح عن عاتقها، وهي تنظف وجهها من الرتوش بمساعدة زميلاتها في المقعد الأخير .

 

"٢"

غصة

حلف صاحب اللحية الكثة التي تطوق فمه الأشرم، أغلظ الأيمان أمام صاحب العمل بأنه رجل صدوق لا يكذب أبداً، فباغتت فمه المفتوح ذبابة دخلته كالسهم الطائش، فكاد يختنق من السعال وهو يحاول إخراجها حتى انتفخت أوداجه، وفي غمرة ذلك زل لسانه أمام الحاضرين في لحظة صدق صنعتها ذبابة"هذا جزاء كذبي على عباد الله" ولما استيقظ من غيبوبة الاعتراف كان صاحب العمل يبتسم هارئاً في وجهه الذي تبدلت ألوانه، موبخاً"خيبك الله يا متمارض، تكذب في حضرتي وتنطقك ذبابة بالحق" فتصبب الرجل عرقا وهو يغالب غصة أوشكت  أن تسد حلقه، وأدرك حينها بأن الإجازة المرضية ستخصم من راتبه.

 

 

في نصوص اليوم