نصوص أدبية

مريم وموائد اللئام

bakir sabatin"من وحي قصة حقيقية أغرب من الخيال رواها لي قريب الضحية"

لم تكن مريم تعلم بأن الهدية التي قدمتها لزوجها ستؤدي بها إلى كارثة أدمت قلبها المغبون، فلا يتصورها عقل ولا يألفها ضمير، حينما باغت خاصرتها بخنجر أخرج من غمد حبيبها الذي مضى عقداً مع الشيطان، فغطت أشواكه حديقتها، واستحطب سنديانة الدار بمعول الغدر.

 هذا ما جنته يد ذلك الوغد بحق زوجته المريضة مريم.. من هنا بدأت الحكاية ، حين أمر الأطباء في المدينة الطبية بنقل المنكوبة مريم  إلى بيت زوجها بعد أن يأس الأطباء من معالجتها من الشلل الكلي، ولولا كفاءة دماغها المتعب من الهموم، وقلبها المكسور، وعينيها النابضتين بالحياة؛ لاحتسبت عند الأطباء ميتة سريراً. وكان بوسعها وهي في طريقها إلى بيتها وحيدة أن تتذكر تلك الطفلة الهدية التي قدمتها لزوجها الحبيب، حينما باغتها ذات يوم، بينما كانت تنيم أبناءها لتلتحق به في غرفة النوم:

" طفح الكيل يا مريم، قلت لك يجب أن تكوني حاملاً ببنت، لقد قتلني الشوق إلى هذه الهدية"..

فسألته مداعبة:

"وماذا لو كان الجنين ذكراً".

فصفعها بجوابه القاتل:

"سأتزوج امرأة أخرى بمقتضيات الشرع  الذي أحل لي ذلك"..

فأحست حينها بأشداق الغربة تمزق لحمها، وتطعمه لكلاب البرية، هذا حتف لا تتمناه حتى لعدو.. ولكن شاءت الأقدار بأن تدخل مريم قسم الولادة في إحدى مستشفيات الرياض حيث كان زوجها يعمل في شركة سعودية  للمقاولات.. وفي غرفة العمليات، حلت الكارثة، فاحترقت حياة مريم  وداهمها الشقاء في أبشع حالاته،  ورغم ذلك أخرجت من رحم العذاب تلك الهدية التي تمنتها لزوجها، طفلة قيل بأنها تشبه والدته.. ولكن أين هو من مريم!؟ كأنه تناسى حالها وقد أصيبت بالشلل التام بسبب إبرة أعطيت لها  بالخطأ.. كان زوجها يشيح بوجهه عن عينيها الدامعتين ربما من هول الموقف الذي يقصم الظهر، حتى أن يده التي قبضت المليون ريال من مدير المستشفى لم تمسح دموعها المسكوبة بسخاء من عينيها الذابلتين، قال له مدير المستشفى:

"نقدر لك موقفك النبيل ونتأسف لمصابك الجلل الذي قضى ربك أن يختبركم به، أما هذه الاموال  فهي مصاريف لعلاج زوجتك التي أمرنا بنقلها على حسابنا، بطائرة صاحب المستشفى، إلى مدينة الحسين الطبية في عمان؛ لتتلقى العلاج اللازم هناك".

وها هي مريم تدفع ثمن الهدية، ابنتها التي أبدى زوجها تجاهها نفورا غير مفهوم، حيث استودع هذه الطفلة التي من صلبه والدته لتربيها، لقاء مصروف شهري يكفيهما ويزيد، فيما وفر لها خادمة تعينها على تربيتها.

أما هو فقد استغل ضعف مريم، وسلبها أموال علاجها بالكامل، لا بل فعل ما هو أبشع حينما أقدم على الزواج بثانية من أموالها المنهوبة، تلك الأموال التي دفعت إليه في الاصل لعلاج زوجته مريم التي طعنها في الظهر  وبنى لضرتها من تلك الأموال شقة فخمة فوق شقتها التي تركت لأبنائهما، بعد أن  نقلها غيلة دون رغبتها، لتقيم عند والدتها بذريعة أنها أولى بابنتها، إذ أتعب حالها المزري، معنويات أولادها، مستغلاً الزوج نفس الذريعة ليحرم مريم من فلذات كبدها؛ لتكتشف أخيراً بأن زوجة أبيهم تمكنت من تغييبها عن بالهم بدهائها، كأنهم بذلك ورثوا قساوة أبيهم وتحولوا إلى غربان .

وها هي مريم، مقعاة على سريرها تذرف الدموع متمنية الموت، ووالدتها تكفكف ما ذرفت بحنان، متمتمة في سرها:"الظالم يا ابنتي سرق منك أغلى ما تملكين، حياتك، وأبناءك، وأموالك، وتركك أسيرة الفقر تنظرين الموت الزؤام".

وفجأة لمعت ابتسامة في عيني مريم، كأنها تلك الابنة التي ما لبثت تدب البيت بالحركة والنشاط، مريم التي كان يضج رأسها بالأحلام، وتملأ الأجواء هديلاً.. تخيلتها تتحرر من قماط الشلل لتضمها إلى صدرها قائلة بصوت شفوق:

" صبراً يا أمي"

فتماسكت أم مريم، وتظاهرت بالسعادة وهي تقبل عيني مريم وتتجرع دموعها المنسابة على وجنتيها الشاحبتين، المنذرتين بالموت الرحيم.. كأنها وردة تفتحت في هذا اليباب النائي عن ضمائر الأحياء..

 

 

في نصوص اليوم