نصوص أدبية
بعد المطر تطل شمس دافئة
كنت أتجول خلال الشوارع المرصوفة عبر الممرات الخاصة بالراجلين، كان الجو رماديا داكنا، والرذاذ الأبيض يتساقط بنعومة بالغة، كنت مسرورا بشكل غير طبيعي هذا اليوم، والابتسامة لا تكاد تفارق شفاهي الباردتين، فقد بدأ النهار جميلا منشرح التفاصيل، وحتى جاري ثقيل الظل بمزاحه الفظ الغليظ لم يفلح في تجريد شفاهي من البسمة التي سكنت إليهما.
الناس منتشرون في كل مكان كالفراش المبثوث، إنه يوم السوق الأسبوعي الموعود عند الكثيرين ممن يعتمد بقاؤهم على هذا السوق، حملت في يدي سلة خضر تقليدية قديمة فرضتها علي بعد القرارات السياسية المتسرعة التي تأخذ من خزانة المطالب والأولويات حرفا وتترك مجلدا، ثم توجهت رأسا لابتياع بعض الفواكه الطرية والسلطة الخضراء.
زدت في حجم ابتسامتي التي تملأ شفتي القرمزيتين، ثم قصدت أحد التجار بشكل اعتباطي وطلبت منه حبة خس كبيرة، ناولني التاجر العجوز الوقور حبة الخس وهو يبتسم ثم أردف قائلا:
- سأخفض سعر الواحدة إلى النصف، بفضل هذه الابتسامة الصافية البريئة التي تضيء سواد هذا السوق الكئيب.
ناولته ثمن البضاعة ووضعت حبة الخس في السلة الفارغة إلا من أكياس من ثوب هجين رقيق لكل غاية مفيدة، وأنهيت حديثي معه بعبارة شكر خفيفة.
أكملت رحلة التسوق الخفيفة فالتقيت صدفة برجل في بداية عقده الرابع، وقد تقاطعت طريقانا والتقت العيون فلم يحاول إزالة مسحة الحزن التي كانت تعلو محياه الملائكي بعينيه السوداوين سواد شعره، وقد صوب نظره إلى حذائه البني الصقيل، وحاولت بدوري تجنب نظراته اللينة الكسيرة بقليل من الحرص.
رفع نظره المثقل بالحزن الواضح واعتذر بصوت خافت كسيح، فأجبته بابتسامة خفيفة وعبرت له عن بساطة الأمر، وعدم حاجته إلى الاعتذار، فرد علي بابتسامة متكلفة حزينة، ثم استأنف مسيره الحثيث.
راودتني رغبة جامحة في الحديث إليه والتخفيف مما به ومحاولة إعادة الابتسامة إليه، ولكنني لا أعلم المانع الذي حال بيني وبين تحقيق هذه الرغبة، وفجأة استجمعت قواي واستدعيت شجاعتي واستدرت نحوه مسرع الخطى حتى أدركته، فوضعت يدي على كتفه حتى لم أكد ألمس إلا سترته السوداء الثقيلة.
لم يتفاجأ مما قمت به ولم يتأخر في الاستدارة منتظرا الكلمات التي سأنطق بها، ابتسمت ابتسامة عريضة ثم خاطبته بجدية كبيرة:
- أتعلم يا صديقي أنه بعد المطر تطل شمس دافئة.
أجابني بسرعة مستصغرا كلماتي:
- وماذا بعد؟
ثم أردف قائلا:
- أعلم ذلك، وأنا في انتظار ظهور الشمس الدافئة منذ مدة ليست بالقصيرة، ولكنها لا تظهر.
ثم أضاف في ما يشبه الختم:
- انتظار ظهور الشمس الدافئة ليس هو الحل في ما أظن.
أكمل طريقه من جديد دون انتظار كلماتي الموالية، واستعاد ابتسامته الحزينة ومضى.
أحمد هيهات