نصوص أدبية

كلاب الحي السمان

بكر السباتينأخرجت ضرعها الذابل من فم الرضيع الذي قتله الجوع، الذباب كان يغطي شفتيه المتراخيتين، ولسانه الذي شققه الظمأ وأسنانه اللبنية، وحلمة ذلك الثدي المتهدل الذابل التي أحيطت بدائرة داكنة غطتها حبيبات منفرة كأنه الجرب.. الحمّى تُحَوِّلُ جسديهما المغسولين بالعرق إلى مرجل.. وقبل أن تموت كانت قد ألقمت ضرعها للخيبة التي ارتشفت ما في جسدها المتهالك من حياة، وحولتها إلى قمع سيجارة هرسته أقدام المشاة وسط الزحام. حتى مال رأسُها جانباً، ورويداً رويداً تراخى جسدها، وجحظت عيناها كأنها أضحية العيد بعد ذبحها.. وانفرجت قبضة يدها، تحولت إلى جيفة أسجيت في يباب القهر المحاط بزحام مدينة لا تسأل عن المشردين... وها هما يتحزمان بالكفن دون أن يجدا من يدلق على جثتيها إبريق ماء أو يصلي عليهما إمام المسجد المجاور، الذي غطت جدرانه الزخارف الأنيقة، بصوته الجميل الذي كانت وهي تتسول تنتظره لتخشع وترتاح إليه وقلبها يلهج بالدعاء، ظلت مهملة حتى استباحتها قطط المواخير والشوارع التي تحولت إلى ضواري في لحظات وهي تنهش كرامتها وتقدد جسدها المسلوب .. ذات يوم كانت هذه القطط تنافسها على بقايا الطعام المترف والمدلوق في الحاويات المركونة في الأزقة خلف المطاعم أو على جوانب الطرق في الأحياء الراقية.. وقبل أيام تحرش بها أحد السكارى ففقأت عينه.. وقبلها بأسبوع طردها حارس العمارة من محيط العمارة لقذارتها وحرمها من الطعام الملوق في الحاوية المجاورة.. وقبل شهر ألقي القبض عليها وزجت بالسجن الذي تمنت ألّا تخرج منه، بتهمة التسول.. واليوم تدفن ورضيعها وحيدة في حفرة مهملة دون أن يوجه رأسها نحو القبلة، فقط وجدها أحد المارة منتفخة مهملة كأنها بقايا طعام للدود، سحبها، كوم الجثة عند جرف الحفرة، تخيلها من بقايا وليمة أجهز عليها اللئام، ثم ألقاها في قاع الحفرة التي كانت معدة منذ عام لغرس عمود الهاتف.. لكنها مع ذلك تحولت إلى مادة دسمة أخذ يتشدق بحكايتها أحد المرشحين للمجلس النيابي من المتسلقين وهو يتهم الحكومة بالتقصير بحق المهمشين بدلالة ما جرى لهذه المتسولة.. وكان أحد السحيجة يخفي سراً وهو يهتف للمرشح المبجل فيردد في أعماقه" لكنك طردتها من الحي الذي تقطنه خشية أن تجلب الأمراض للناس!"

هذه حكاية الضرع الذابل الذي نجا من أفواه السكارى المترنحين في مواخير الدعارة أو المضروبين على رؤوسهم من ثقل الهموم ممن تميد بهم الأرض؛ لتلقمه صاحبته للخيبة حتى لا تنهشها كلاب الحي أو القطط السمان..

أوه!! تذكرت.. سمعها أحد العابرين تدعو الله متضرعة"الله ينتقم من ....! ثم تأكل الرحمة لسانها"! لكنها تكمل صارخة وهي تعض على لسانها بنواجذها وفي عيونها يتوقد الانتقام"اللهم اهلك الظالمين"!.

 

بكر السباتين

 

 

في نصوص اليوم