نصوص أدبية

الغجري والحظ

بكر السباتين(1) قتلت زوجها.. ولكن!

بعد كل هذا الغياب الطويل، وما عانته من لوعة مزقت قلبها وعذاب وشقاء، عاد الفارس والخيلاء تجنح خطواته، وظل الطاووس يخيم على هامته المترفعة.. كان متأبطاً فتاة شقراء بعمر بناته، بدا مبتهجاً؛ ليقول لها بكل بساطة: "أنت طالق، ما عدت تناسبي حياتي الحديدة، وسوف أغدق عليك بالعطايا إذا ما استشعرت أي ضرر قد يصيبك من جراء هذا القرار الواقعي" وداس برعونته على وردة روحها كاتماً أريجها.

أما هي فقد استنهضت كرامتها المهدورة على وقع نذالته، تحولت إلى بركان.. إذ طوحت بمشاعرها بعيداً فيما رأسها بدا كدولاب يدور بلا ماء في يباب التهم ربيع قلبها المكلوم.. حتى شعرت بأن عمرها ذهب هدراً لأجل هذا الخائن الرعديد، فخلعته عن كيانها المنهوب ليتكاثر عليه ذباب الخيبة كالحلويات التي أفسدها هذا الناكر للجميل، ثم أرسلت طليقها المتنطع إلى الأبدية بطلقة واحدة كانت محشوة في بيت النار ومعدة مسبقاً للاحتفاء بعودته بعد طول انتظار، وقد شب أبناؤهما على دفء جراحاتها المثخنة.. تخلصت منه كجيفة ستنهشها الضواري، ثم عادت إلى مرابع طفولتها تجدل شعرها على ضفاف هذا النهر المتهادي من الذكريات البعيدة، تغرف من نمير مائها ما يعينها على الصبر، وها هي الآن تنتظر آخر أيامها في السجن لتصافح عيناها زهرة النور وقد تسلل الشيب إلى شعرها الطويل وغطت جدران السجن بالمراجيح وملامح صباها وأحلامها التي خبت باكراً، ونهضت الطفولة في قلبها كأنها ولدت من جديد، غير نادمة على ما اقترفت يداها ولسان حالها يقول: "حصاد الخيانة موت زؤام"..

(2) الغجري والحظ

لمعت في رأس الغجري فكرة استوحاها من ليلة دخلته على زوجته الأولى حينما قطع أمامها رأس قطة جرباء منهكة لا حول ولا قوة لها، والنتيجة أن عروسه أصبحت طوع أمره، إلى أن ترمل وأمسى وحيداً.

هو الآن يعمل سايساً للأسود المنهكة في السيرك مع الغجر، وأحد هذه الأسود كان مشرفاً على الهلاك لفرط ما أصابه من جوع، حتى ضمر بطنه، وتراخت أطرافه، ولكبر سنه فقد تقرر التخلص منه قريباً، بإطلاق رصاصة الرحمة عليه.. فماذا لو صارعه الغجري أمام الزائرين وأرداه قتيلا فهل سيتحول إلى فارس يسود الحكايات ويستحوذ على جاه القبيلة برضا الناس فينال رضا محبوبته!!

أوشك على تنفيذه فكرته المجنونة، وأخذ يتربص بالضحية التي خبا زئيرها..

سيطوقه بذراعيه، سيبرر فعلته لمدير السرك قائلاً:

"لقد أجهزت عليه دفاعاً عن النفس" وسوف تطوف هذه الحكاية بين الغجر في مضاربهم، وقد يظفر حينها بقلب معشوقته.

وبغتة شعر الغجري بأنه وقع في المصيدة، فالأسد يراقبه بعينيه الذابلتين، وها هو يتأمل أنيابه الصدئة المتآكلة.. كان الأسد يتمطى.. وعيناه تتوقدان، وزئيره يتحرر من الأنين الخافت فيخرج من بين أنيابه متصاعداً كهزيم الرعد، وبدا الأسد الواهن أشد عنفواناً وقد جعل يتربص بالغجري، ربما سيلتهمه ويسد جوعه! فانتبه السايس الغجري وخرج مسرعاً من القفص، فأغلق بابه، وقلبه يشتد خفقاناً، متسائلاً: "كيف تمكن هذا الأسد في لحظات من الوثوب إلى البوابة المقفلة وهو مدنف كأنه في نزاعه الأخير"

ثم استعاد الغجري فكرته، وهو يجيب على تساؤلات الفضوليين: "نعم قاومته بهذين الذراعين ونجوت بأعجوبة" فيحصد الغجري الدهشة ثم يعود لعمله والخيبة تأكل رأسه، فما زال ينتظر معشوقته كي يروي لها الحكاية

 

بكر السباتين

 

 

في نصوص اليوم