نصوص أدبية

التين المسموم

بكر السباتين(1) التين المسموم

دخل الجائع البستان المجاور لإحدى المطاعم الفاخرة، كان مغمض العينين.. قرر أن يسرق ما يسد جوعه.. تسلق الجدار العالي بقدميه الحافيتين.. لم يأبه لنباح الكلاب المستعرة الذي مزق الصمت وهو يضج في أرجاء البستان الوارف الظلال.. لا يدري كيف واتته الشجاعة ليقفز إلى الجهة الأخرى.. تسلق شجرة التين دون أن يخفي معالم وجهه الشاحب، وبدت عيناه الجاحظتان مأخوذتين إلى حبة تين كاد لفرط استوائها أن يسيل من تشققاتها العسل الشهي حتى سال لعابه.. مد إليها يده المنهكة المليئة بالعروق.. وباغتها بقطفة سريعة.

وهذه يده تقتطف حلمه الصغير الذي بات لقيمة سائغة في فمه المتساقط الأسنان.. وتنتشر حلاوتها في عروقه حتى استطابت له السرقة واندمج في آثامها؛ ليأتي على غيرها حتى أتخم من الشبع.. وحينما هبط على الأرض المرطبة استلبت نظره لوحة كتب عليها " إحذر.. الشجر مرشوش بالمبيدات السامة".. ضحك الجائع ساخراً من الموت "أين كنت وبطني الضامر لم يجد ما يسد رمقه حتى في الحاويات المركونة خلف المطاعم الفاخرة.. تعال أيها الموت الزؤام نتسامر في ظل هذه التينة إلى أن يحين موتي أو أتقيأك فأعيد الكرة من جديد.

 

(2) عزرائيل والقاضي

جلس القاضي خلف الطاولة للنطق بالحكم بعد أن رفض تأجيل الجلسة نظراً للضغوطات التي تعرض لها من قبل أهل الظنين المتنفذ، البيانات التي قدمها محامي المشتكي لم يسمح لها بالمرور والتأثير على حيثيات القضية التي ترصعت بعناوينها الصحف الصفراء.. القاضي أزعجه وميض آلات التصوير لكنه لم يكترث بها ولا بالهواتف المحمولة التي شرع أصحابها في تسجيل الحدث بانتظار القرار المهيب.. وها هو سعادته بكل مظاهر الهيبة التي أحاطت به.. ينظر إلى الظنين بارتعاد.. يتحسس بطنه المندلق بالرشاوي.. العرق يتصبب من جبينه حتى ابتلت أوداجه المنتفخة.. يده تقبض على عصا المطرقة.. يرفعها ببطء فترفرف أجنحة الأمل لدى الظنين الذي سيفك أسره زوراً وبهتاناً بعد حين.. يطرق القاضي على الطاولة طاحناً ضميره النتيبس، طالباً على إثر ذلك من الحاضرين توخي الصمت كي ينطق بالحكم.. النسخة التي كتب فيها القرار كانت وحيدة وكتبت بغير خط يده.. كأنه طلب منه تلاوتها بدقة متناهية فقط.. لكنه تلعثم وقد فوجئ بكثرة الأخطاء الإملائية التي ملأت النص المكتوب.. شعر بضيق نفس.. تحشرجت أنفاسه.. بحث عن شريط الدواء في جيبه.. أو خلف كوب الماء الذي اندلق على ورقة الحكم فأتلفت بياناتها.. ثم انكب القاضي بكل جبروتهه على سطع المكتب بوجهه المحتقن وخر صريعاً.. وخارج شهادة الحاضرين كان عزرائيل يدور حول المشهد كي يتأكد من الخاتمة التي ألجمت من بالقاعة إلى حين تحرر الحاضرون من أثر الدهشة ليجمعهم الفضول والنخوة حول جثة القاضي الذي فارق الحياة لتوه.. وكانت يد خبيثة تتسلل إلى قرار المحكمة المعد مسبقاً لتتخاطفه الصحف في اليوم التالي تحت عنوان ":قضية فساد"

 

(3) حدث بين مكالمتين

اتصل بها للتنسيق في أمر نشاط ثقافي يعدان له بموجب موعد مسبق، فتجاهلت مكالمته بتنطع ورياء، تساءل:

ربما قالت في سرها "مش فاضية"

ضحك ملء شدقيه ضارباً كفاً بكف، مردداً:

طفلة مدللة!

لكنه انتبه على وقع سؤال طرق رأسه:

أليست هي المجاملات التي كسرت قواعد المنطق وحولت الثقافة إلى قطعة حلوى في يد طفل غرير.. لا بأس.

كان بوسعه إعادة الكرة من جديد وهو يضغط على زرّ الإعادة بإصرار:

"رن.. رن.."

تنفس الصعداء وهو يستلقي على سريره متراخياً.. وفجأة رن هاتف زوجته النقال، وكانت تعمل سكرتيرة تنفيذية في إحدى الشركات.. وهاله أن زوجته تتجاهل المكالمة باستخفاف وهي تلوي فمها تقززاً..خرجت من عنده وهي تؤكد عليه:

لا ترد على هذا التافه إن كان هو ما توقعت! أعني حسان المدير الإداري الجديد.

اقترب من الهتف النقال.. ظهرت له لوحة كتب عليها "المدير الإداري حسان".. سأل زوجته بتأثر:

" لماذا لا تردين على المكالمة!؟

تخيل نفسه مكان حسان! وأوحى له الأمر كيف أن رئيسة المنتدى الثقافي تجاهلت مكالمته.

أجابته زوجته وهي تعد القهوة في المطبخ:

ليس الآن.. دعه يشعر بقيمتي.. مدراء آخر زمن.. عالم تافه.. نزرع فيحصدون نجاحاتنا.

وهنا لم يتمالك الزوج نفسه وهو يضحك من جديد" فعلاً أطفال".

وخالف إرادة زوجته إذ اقترب من جهاز الهاتف..

ترى هل يحرج موقف زوجته فيرد على المكالمة!! تساءل في سره:

" هل هذا أيضاً سيكون تصرفاً طفولياً!

هز رأسه الذي أكلته الحيرة:

لست أدري!

مكملاً والخيبة تبعثر الأوراق في راسه:

"فخار يكسر بعضه".

***

 

ثلاث قصص قصيرة

بقلم بكر السباتين

 

 

في نصوص اليوم