نصوص أدبية

جلد الخروف والقيعان الباردة

بكر السباتينكانت الرياح العاتية تتناوح في الخارج.. والغرفة قارباً تتجاذفه الأمواجُ الهادرةِ فتجرفه السيول الى جليد الفقر ومنحدرات الألم.. ومسعودٌ ذلك العليل يصرخ من شدة الجوع إلى السكينة ..

أخذ الهواء البارد يتسرب من شقوق النافذة الخشبية، والمواجهة لصفع الرياح العاتية ، فيمتزح مع الأنفاس الحزينة والمنبعثة من أفواه لا تعرف سوى عادة التذمر والابتهال الى الله أو التوجع والألم.. في حين كانت الرطوبة تنخر عظامي .. فألجأ هاربا بأطراف جسدي إلى مكامن الدفء المتلاشي تحت الغطاء، متقوقعاً مثل الحلزونة المتقلصة داخل الصدفة الدافئة، والمتدحرجة إلى قيعان بحر متجمد من الاستلاب والخنوع.. "هذا العجز وضيق الحال كيف ينتهي، لا بد لأحدنا أن يتلاشى وإلى أبد الآبدين!"

أحاول أن أتصرف إزاء الموقف العصيب الذي ألم بوحيدي مسعود.. لكن الصَدَفَةَ الدافئة المتكلسة أخذت تضيّق علي الخيارات فتحولت إلى تابوت يحتضن رفاتي التي لم تغتسل بالحنين:

" الحال لا يسكت عليه.. لا بد من حل يسعف الصغير الذي يتهالك أمامي!!".

يئن مسعود من جديد.. وتعود إليه نوبات السعال أشد وأقوى، فيما تتشنج أطرافي المتخاذلة التي أهلكها اليأس ألماً عليه .. بينما يتحسّسُ البردُ القارصِ رؤوسَ أصابعي، ثم يتسلل كالفقر المدقع إلى ظهري المكشوف.. وهذا صوت أم مسعود تتبسمل.. وتقرأ المعوذات.. وتدعو الله بأن يستر ضعفنا.. فيكاد قلبي النابض يسمعني أنينه.. في حين كان الأمل يعبق الأدعية التي راحت تتمتم بها أم مسعود، فيشيع ذلك بعض الدفء في أوصالي.

أنحسر الغطاء عني بينما كنت أتقلب على الفراش الذي خلته كومة من الهشيم الشائك، وصار بوسعي مشاهدة جلد الخروف المملح مفروشا في مكانه المعتاد تحت مسعود.. وقد انحسرت عنه الأغطية المتسخة بالقيء المتراشق هنا وهناك.

كانت أم مسعود قد أخذت ابننا العليل إلى ركن الغرفة، فاغرورقت عيناها بالدموع وهي تبكي بصمت "عله يتقيأ الألم المعتمل في أحشائه الملتهبة " فعجزت مهزوماً عن فعل شيء إزاء ما يجري"افعل شيئاً أيها الكائن المتجمد، تحرر من صدفة العجز خيبك الله.. ماذا تنتظر! أنجدة من السماء!".

ورغم ذلك كان مشهد جلد الخروف المملح يستلب ذاكرتي القريبة!

" مظهره يثير استفزازي وهو يحرض ذاكرتي على الانثيال!!" هذا ما جرى قبل أيام ، حينما بكى مسعود مثل هذا البكاء المر!..

وأتذكر كيف رمى مسعود بالخبز المجفف في وجه أمه المربد، ثم اندفع إلى الخروف يشده بعيدا. ولكن يد الجزار كانت أقوى من غضب الصغير، إذ شدّتِ الخروفَ المرتعد من الصوف الطويل الذي يغطي رقبته، آخذة إياه إلى مصيرهِ المحتوم.. وكان الجزارُ يغطي بصوته الأجش ثغاءَ الخروف المفزوع .. وأنين قلبي .. وصراخ مسعود .. وهديل أمه المبتهل الى الله..

كنت يومها حزينا، لأنني أدركت مبلغ الحب الذي كان يجمع بين مسعود والخروف؛ لذلك عجزت عن إقناع مسعود في أن هذا الخروف سيذبح نذراً عنه، وقد استدنت ثمنه لذلك.

ولكن الصغير هاله أن يذبح خليله، فأربد وجهه واكفهر وتقلبت عيناه جزعاً كمن انتزع من صدر أمه.. وانسكبت دموعه حتى اغتسل بها وجهه المحتقن.. وراح يرتشف الدموع التي خالطت ما يسيل من أنفه الملذوع من شدة البرد، لذلك استدار إليّ شاداً معطفي البالي بقوة ..وأخذ يغمر وجهه في بطني الخاوي، مطوقاً فخذيَّ بساعديه الطريين.. صارخاً بهلعٍ شديدٍ.. وباكياً بحرقةٍ وانكسار:

" هذا المجنون يذبح خروفي.. لا يا أبتي .. فالخروف يريد أن يأكل الخبز من يدي".

داريت وجهي عن الموقف بانكسار.. لكن مسعود انتفض كديك الحبش الذي يدافع عن صغاره.. تحول إلى زوبعة أخذت تشتت انتباهنا جميعاً.. واندفع بقوة إلى حيث كان الجزار يثبت الخروف على ظهره استعداداً لذبحه، وهو يدوس على صدره المرتعد بحذائه الثقيل، ثانياً بيديه القويتين رأسه المتشنج، استعداداً لذبحه!

أراد مسعودٌ أن يفعل شيئاً لإنقاذ أليفه، فضربَ الجزارَ بقبضتيْ يديه، ولكن! عبثاً! إذ لم يعره الجزار إنتباهاً، لا بل نعته بقلة الأدب والتهور.. فأخذتُ الولدَ الشقيَّ بعيداً والغضبُ يتملكني، ثم واريته خلف قنّ الدجاج، إذ كان منظر السكين الحاد وهو يحز رقبة الخروف قاسيا، فارتفع الدم في نافورةٍ عالية.. متراشقاً على دفعاتٍ هنا وهناك.. فتخضبت به ملابسنا.

لم يفلحْ مسعودٌ من تغيير العالم في لحظةِ الموت الذي جعل يخيم على رأس ذلك الذبيح وفي رمقه الأخير، إذ انتفض بكل ما تبقى لديه من قوة وعزم، إلى أن انهزم لافظاً أنفاسه المتحشرجة في خوار مؤلم.. وكأنه يدين الجناة بعينيه الشاخصتين الجاحظتين.

بكى مسعودٌ يومها.. وأذكر أنه بكى مرة أخرى حينما شاهد جلد الخروف المملح معلقا على حبل الغسيل بعد أن تمت معالجته، فغمر وجهه الوديع في صوفه الممشط.

وبعد أيام! كان جلدُ الخروفِ هو الفراش المفضل لدى مسعودٍ في مثل هذه الليالي الباردة والتي راح يسعل فيها مثل الخوار! وكأنه يتودع من الحياة! فيتفطر قلبي ألماً عليه، وقد تذكرت بأن السعال يشتد على مسعود.. فانتفضت من شدة الخوف على مصيره.. اختطفته من يد أمه التي أكلت الحيرة رأسها.. وعيناي على الباب المرتج بينما يداي تحكمان شد المعطف الذي طوقت به جسد مسعود المتراخي، وراح صوتي يجأر عالياً:

-" سأذهب به إلى بيت رجب العطار"..

- انتظرني حتى أطوق جيدي بالشال الصوفي.

وفجأة انتبهت.. الرياح كانت عاصفة وباردة.. فصرخت بأعلى الصوت:

" الآن جاء دورك يا جلد الخروف.. الحقيني به يا أم مسعود حتي يلتجئ ابننا العليل إلى دفئه

 

بقلم بكر السباتين

 

 

في نصوص اليوم