نصوص أدبية

الشهوة وعابر الطريق

بكر السباتينأطلّ النادلُ الثلاثيني خارجاً من أحد المطاعم المجاورة.. إذْ تبدت عليه مظاهر التدين رغم لفتاته غير المستقرة إلى شيء يريده في ركن ما في وسط البلد. وكان إلى وقت قريب قد انشغل هذا الشاب بالبحث عن عمل.. أثناء ذلك كان قلبه يلهج بذكر الله كي يفرج كربه.. بحيث إذا مر من أمام تلك المتسولة التي شغلت انتباهه كان يرمي إليها بقطعة نقدية ويمضي إلى سبيله، ولورعه! كان يشيح عنها النظر مردداً عبارة "أستري نفسك يا امرأة حتى يرزقك الله".

هذه المرة حدث له شيء لم يعهده في نفسه، مردداً في أعماقه بعد أن عثر منذ أيام على عمله الجديد في المطعم المجاور:

"يا لهذه النفس الأمارة بالسوء! طبعاً كيف اختلف عن سائر البشر وغرائزي تحرضني على ...! استغفر الله وأتوب إليه".. فأخرج الشاب من جيبه قطعة النصف دينار ثم اقترب من المتسولة الأربعينية متسللاً، وكان يعلم بأنها تدّعي العمى، وقد أوحى لها دهاؤها الشيطاني بأن تبدي مفاتن صدرها البارز لتحوّل جسدَها الملتهب إلى فخّ يجذب البلهاء إليه، مقابل "صدقة!" تلقى أمامها، دون أن تكترث الذبابة بقيمة ما ألقت بعد أن يأسرها بيت العنكبوت الواهن ونسيجه المحبوك حول الضحية ببراعة! وقد أخفت تلك المتسولة عينيها بنظارة سوداء ساخرة في أعماقها من المشهد المبهم وحالها يقول:" كيف يستغفرون الله وعيونهم مراصد للأفوك والبهتان!".

أما الشال الملقى عفوياً على رأسها والمنسدل على الرَّقبة والكتفين لم يكن يغطي منطقة الصدر التي تفصدت عرقاً، فقد راوغت أطرافه الرياح المعربدة في الزقاق المقابل للمسجد.. وكأنه اتفاق مع الشيطان كي يحرضَ العيون على الإبحار في المفاتن المجنونة لتلك المتسولة التي تدعي البراءة، مكيدة لا فكاك من خيوطها! إذْ كانت تجلس على مسطبة واطئة قبالة أحد المحلات التجارية المغلقة التي علقت على بابها لافتة تشير إلى وفاة صاحب المحل. يلقي الشاب المرتبك شهواته بين نهدي المتسولة بعد أن يتسمر أمامها كالأبله، بالعاً ريقه دون أن يكترث ببعض فاعلي الخير من حوله ممن ينتظرون دورهم لنيل الثواب والأجر وطنين أصواتهم يُلِحُّ على العنكبوت كي يعتصر ما في أعماقهم من شبق ونزوات غرائزية. لكن الشاب انتبه فجأة إلى صوت الأذان الصادح الذي أخرجه من غيبوبته، فاستعاذ الشاب بالله مستديراً نحو المسجد.. يسير إليه مهرولاً بخطوات سريعة حيث الموضأة في صحنه الواسع، فيجدد وضوءه مستغفراً الله، ثم يلتحق بعد ذلك بالمصلين في الصف الأخير.

ولا يدري، وهو يستهل صلاته بترديد الفاتحة مع الإمام في سره، كيف خرجت إليه مفاتن المتسولة لتعربد في رأسه! فيقاوم ذلك بهزّ رأسه المثقل بالنزوات الشيطانية، عساه يستعيد رباطة جأشه.. شيء بدا وكأنه يخرج من أعماقه المقفلة ليقشعر بدنه.. يحاول التركيز في صلاته؛ ليكتشف بأنه تأخر عن الأمام فيستلحق الركوع والسجود حتى خاتمة الصلاة.

 ترى هل انتهى به الأمر إلى هنا أم ستأخذه قدماه إلى ذلك البركان المتوقد في حشاياه! كانت نواياه تدفعه ليقول متمتماً:" سأعيد صلاتي في البيت" لكن عيناه أخذتا تبحثان خلسة عن المتسولة التي كما يبدو غادرت المكان.

 

قصة قصيرة

بقلم بكر السباتين

 

في نصوص اليوم