نصوص أدبية

نبوءة العراف

صالح البياتيكنت يوما مع صديقي هلال، نراقب المياه المنحدرة بقوة، والمعتكرة بالغرين الأحمر، المتدفقة من الدجلة الأم الى الكحلاء، كان الربيع قد حل منذ وقت قريب، عندما بدأت الثلوج بالذوبان من قمم جبال كردستان.

كان ذلك في نفس العالم الذي بدلت فيه أسمي، التفت الي ثم اشار بيده للمياه: "سيأتي يوم تصطبغ فيه هذه المياه بالدم"

تعجبت، ولم أفهم منه شيئاً، ولكني تابعت المياه المتدفقة بسرعة في النهر، كانت تدور في دوامة كبيرة، عندما تصدم بالمركب القديم الغرقان، لقد كشف هلال ببراءة طفولية، سراً عن حرب، تنبأ بها شاعر مندائي قديم.

كان القتال بين الجيش والكرد يندلع أحيانا، أيام العهد الملكي، رأيت وانا صبي يافع، نعوش الجنود القتلى، القادمة من الشمال، ضحايا معارك يُقتل فيها عراقيين من الجانبين، كان والدي عبد الله الفرحان واحدا منهم، لم اع معنى الحرب، شعرت بالاضطراب والتشوش، لان الحرب التي تنبأ بها الشاعر المندائي شيء آخر، أعظم من معارك الشمال، وأفظع وأخطر.

وحينما اشتعلت الحرب العالمية الثانية، قبل سنة واحدة من ولادتي، كانت مدينتي بعيدة كل البعد عن نيرانها، تأججت ثم انطفأت، دون أن يعرف عنها الفقراء كثيراً، لكن نتائجها ظهرت بارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية، ترك اثرا سلبيا على حياتهم المعيشية، اما الذين اهتموا بها فهم اقلية من المتعلمين الأفندية، وموظفي الحكومة المحلية، في لواء العمارة، وكذلك التجار من ذوي الأصول البغدادية، وكانت أسرة موسى الكيال واحدة من هذه الأسر المعروفة.

استغل التجار ظروف الحرب، فازدادوا ثراءً، اعتاشوا عليها كنباتات طفيلية، تاجروا حتى بمخلفاتها من الحديد، بعد  انتهاءها، في مكان يقال له سكراب الشعيبة في لواء البصرة، بينما كان الفقر وشظف العيش، همُّ الفقراء الأكبر، الذي يفوق أي شيء آخر.

كنت آنذاك صغيراً، لا أعرف ما الحرب وما أهوالها، ولم تعن لي شيئاً البتة، لكنها تجسدت لي بمحض الصدفة، بوجه بشع أكثر بشاعة من الفقر، حدث ذلك ذات يوم، كنت أزور صديقي فوزي في بيته، كنا زملاء في المدرسة المتوسطة، فرأيت والده خارجا من إحدى غرف المنزل، يجر ساقه بطريقة غريبة، لفت انتباهي، فسألت ما به، فأخبرني أنه كان ضابطاً في الجيش، وقاتل اليهود عام 48 في فلسطين، وأصيب ساقة إصابة بالغة، فبترت واستبدلت بساق خشبية، حرب مضى عليها خمس سنوات، لكن الزمن لم يمح اثرها، ظهرت أمام عيني، متمثلة برجل معافى، متين البنية، لكنه للأسف يستعين بساقٍ خشبية.. كان منظره مثيرا للأسى، ولكن الرجل كان فخورا، مرفوع الرأس، يحمل وسام الشجاعة والبطولة.

ومضت السنوات تباعاً، متخطية زمن البراءة والسذاجة، في مدينتي المعزولة عن العالم، زماناً ومكاناً وتقدما حضاريا، كانت بغداد التي لم ارها، تخيلتها آنذاك بعيدة، كنا نتذكرها حين يأتي أحد من الأقارب، يحمل معه هدايا جميلة للأطفال، كنت لا أستطيع تقدير أبعاد المسافات، والاتجاهات، عدا تلك التي بين البيت والمدرسة.

في ذاك الزمن المشطوب، وغير المدون في سجلات التاريخ، كنت في طفولتي الباهتة، كبقية الأطفال، نتصلب كالطين بسرعة، تحت أشعة شمس صيف الجنوب الملتهب، ونذوي ببطئ في بواكير الشباب، كأغراس عطشى تحلم بالماء، عشقت مدينتي، فكتبت عنها في دفتر مذكراتي الذي اسميته (كنزي الثمين)، اخرجته من الدرج، وفتحت الصفحة التي تصف مدينتي، كان مدرس اللغة العربية، في السنة الأولى اعدادي، الفرع الأدبي، قد اكتشف موهبتي المبكرة، وبراعتي في الإنشاء والتعبير، عندما قرأ لي هذا النص النثري الذي امام عيني الان، عن مدينة العمارة:

"مدينتي كآدم، مجبولة من ماء وطين، في الربيع تعبق حدائقها بشذى الياس والجوري والرازقي والقداح، وتحيط بها البساتين كعقد أخضر يطوق جيدها المائي، تفوح بروائح غريبة، من أشجار السدر وشماريخ النخيل، كأنه آت من وسط الجنة، متى فارقتها ثم عدت اليها، ستجدها كما هي، كأنك أودعتها في صندوق مغلق، ليس لها نصيب من بذخ المدن الكبرى، سوى اسمها الأسطوري، ’’مي سان‘‘ تمتد من الأفق الرحب حتى حافات مياه الأهوار، ارض باركتها آلهة سومر وبابل وأكد في الزمن الغابر، زمن البراءة."

أغلقت الدفتر، وأعدته برفق لدرج مكتبي، وتهيأت للخروج لصلاة الجمعة، وقبل مغادرتي المنزل، ألقيت نظرة حزينة على والدتي النائمة، انسللت حذرا، أغلقت الباب ورائي بهدوء وخرجت، وفي الطريق كنت أفكر بالمسألة التي شغلت بالي هذه الأيام، "الحرب مع إيران "، وارتأيت طرحها على الشيخ كاظم الموحان، إمام جامع النجارين، الذي أعرفه منذ زمن بعيد، عندما سكنت عمته الدهلة وابنيها نزلاء في بيتنا، وأن اطلب منه بعد أداء الصلاة، الدعاء لأمي بالشفاء من مرضها المفاجئ، الذي بات يقلقني كثيراً.

التقيت التاجر موسى الكيال، على مقربة امتار من الجامع، فسألني عن صحة والدتي، ورحنا نتحدث ونحن نسعى بخطوات بطيئة، نحيي أو نرد تحيات الناس، أو نتوقف برهة، مع صديق لإسداء خدمة في مسألة ما، كثيراً ما كنت أمرَّ بهذا المكان في طفولتي، ولم ألحظ مع مرور الزمن الجنوبي البطيء، أقل تغيير يذكر، ولكنها الآن، ومنذ بضعة سنوات تغيرت كثيراً، فورش النجارة بدأت تستعمل المكائن الحديثة المستوردة، لصناعة الأثاث، وظهرت محال جديدة لبيع العدد النجارية، طرأ على المكان تطور وتحديث ملحوظ، بقى كل شئ في مكانه،  المقهى القديم عند الزاوية، ولكن أختفت التوابيت الخشبية التي كانت تسند كوقف خاص على جانبي باب الجامع، ومات بائع الحلقوم السمين، الذي كان يجلس على كرسي، وأمامه منضدة خشبية مرتفعة لمستوى كرشه الضخم، تستقرعليها صينية من الفافون، مليئة بتلك الحلوى اللذيذة، كان يقدم الواحدة  لزبائن خاصين، اغنياء، على أنها هدية، فيكرمونه درهما ملكيا على هديته.

كان باب الجامع مشرعا حينما وصلنا قبل اذان الظهيرة، وكان جل المصلين من الفقراء المعدمين، ومن أصحاب ورش النجارة، كان خشب الباب قديماً، ولكنه صامد يتحدى تقلبات الفصول، وقساوة المناخ، توحي شقوقه بتعاقب الزمن، ملطخاً بالحناء التي يبست منذ حين، وتركت بصمات النذور القديمة والجديدة، واكف النسوة الملتاعات، أو المتوسمات خيراً من نذورهن، لفرج اجل او عاجل.

وقبل بدء الصلاة، تقدمت نحو الشيخ بعد ان فرغ من سائليه، سلمت عليه، وجلست القرفصاء أمامه، تبادلنا كلمات الترحيب المعهودة بي صديقين قديمين، لم تفرقهما ظروف الحياة، ولا تقلبات الأوضاع السياسية المستمرة، التي عصفت بالبلاد منذ سقوط الملكية، والتي لا تزال تأخذ بخناق الناس، كلما حاولوا أن يتنفسوا الصعداء، سألني عن صحة والدتي، اخبرته عن مرضها المفاجئ، فأبدى اسفه وحزنه واستفسر عن مرضها، فقلت وأنا أنظر الى لحيته التي وخطها الشيب، بأني لا أعلم، لم تك تشكو من شيء، كانت صحتها جيدة، عدا الماء الأسود في العينين، وقد أُجريت لها عملية جراحية ناجحة، في مشفى الراهبات ببغداد قبل بضعة سنوات، لقد فاجأتني بمرضها، وبصعوبة أقنعتها أن ترى طبيباً، كانت ترفض أن يكشف عليها رجل، وبعد أن عاينتها الدكتورة جنان طبيبة الأمراض النسائية، لم تستطع بالضبط تشخيص المرض، ولكنها لمحت لي على انفراد، بعد أن فحصت صدرها وتحت إبطيها، عن شكها بالمرض الخبيث، واقترحت عليّ أسم طبيب أخصائي أورام، في بغداد، وكتبت لي اسمه وعنوانه ورقم هاتفه، وقالت: وسائل التشخيص هناك أدق وأفضل، وقد اتصلتُ بالدكتور، وسنسافر لنراه في الأسبوع القادم إن شاء الله، أيد الشيخ كلامي بهزتين من رأسه، ولكن عندما قلت انها رفضت في البداية السفر الى بغداد، ونعتها بالعنودة التي يصعب اقناعها، اعترض الشيخ.

"بالعكس هي امرأة مؤمنة وصابرة."

ثم استدار نحو القبلة، ورفع يديه، تراجعت للوراء وجلست في المكان الذي حجزه لي الكيال على يمينه، في الصف الثاني من المصلين.

انتهت صلاة الظهر ليوم الجمعة، وبدأ الشيخ بالدعاء بصوته الشجي، المشحون بطاقة جياشة، نابعة من عذابات ماض مترع بالحزن، وحاضر يرزح تحت ثقله كصخرة على الصدر، ومستقبل تشوبه وتحجبه المخاوف والمفاجآت، خفضَّ صوته، وراح يقرأ دعاء كشف السوء:

(أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء) كرره خمس مرات، ردداها المصلون بعده، وبعدها رفع صوته عالياً، كأنه كرات نارية يقذفها نحو السماء، فسمعه كل من كان خارج الجامع، في تلك الظهيرة الربيعية الرائعة، قبل الحرب بستة أشهر.

كرر كلمة يا الله، وفي المرة الخامسة تهدج صوته واختنق بعبراته، ردد المصلون يا الله بعده، فكتمتها في صدري، وبالكاد سيطرت على نفسي، من الانجراف في موجة بكاء مدوية، فأمي تعني كل شيء لي، عالمي وهوائي الذي أتنفسه.. ومن أجلها أعرضت عن الزواج، كل هذه السنوات بعد التخرج من الجامعة، والعمل الوظيفي ونيل شهادة الماجستير بامتياز، التي تؤهلني لا كمال الدكتوراه في الخارج، والآن أنا في سن التاسعة والثلاثين.

انفض المصلون، ولم يبق أحد غيرنا، الشيخ وموسى الكيال وانا، خضنا بمواضيع ذات علاقة بالوضع الراهن، بمشاكل وهموم الناس، وخاصة فقراء محلة السرية، وما يجيش في نفوسهم من مخاوف وقلق، بسبب الأحداث المتسارعة، بعد سقوط شاه إيران، في شباط من العام الماضي، وتدهور الأوضاع المستمر، والتوتر السائد في العلاقات بين البلدين، العراق وإيران، وما يخفيه الغيب، بنذر اندلاع حرب شعواء مع الجارة الشرقية، ستكون مدمرة وقاسية، وعواقبها وخيمة، كما تنبأ بها المندائي سنيجر، ودونها على شكل قصيدة طويلة باللهجة الدارجة، والمثير للقلق أن الناس راحوا يتناقلونها في الأسواق، ويزعمون أن الحرب باتت وشيكة، بحسب ما جاء في النبوءة، وأن طبولها بدأت تقرع بقوة، يسمعها القاصي والداني، وعندما سألت، الشيخ عن رأيه، ابتسم وطمأنني بأن لا أشغل بالي بكلام العوام فهم كالأنعام، هم  في هذه الأيام، يخوضون في كل شيء، وقال: " عندما تمتلئ بطونهم، تفرغ رؤوسهم من الحكمة والعقل "، عبرت عن هاجسي حينما عدت بذاكرتي للماضي، وما سمعته أول مرة من صديقي هلال، الذي هو الآن طبيب، وناجح جداً في مهنته، يزدحم المرضى على عيادته الكائنة بشارع التربية، ولا تزال بيننا صداقة حميمة، ونتبادل الزيارة، في مكان العمل أحيانا، أو في البيت أكثر الأحيان، يمر علي في المصرف المطل على كورنيش دجلة، قريبا من مدخل السوق القديم المسقوف، ويشرب معي القهوة، قبل توجهه للمشفى صباحاً.

"إنها حكاية قديمة جداً، سمعناها ونحن صغار، وقد سمعها آباؤنا من قبل، فهذا المندائي عاش في أواخر العهد العثماني، كما أخبرني الكنزبرا زهرون، الذي كان ترميذا آنذاك، عندما سمعت الحكاية من ابنه هلال لأول مرة."

ابتسم الشيخ، ربما تذكر هو أيضا، حكاية من طفولته، حينما كان يعيش هناك في قريته النائية، في أعماق الهور، أو لربما تساءل في تلك اللحظة، في قرارة نفسه، كيف يصدق أستاذ مثل نوح هكذا تنبؤات، وهو رجل مثقف، يحمل شهادة ماجستير في الاقتصاد، ويشغل وظيفة مرموقة، مدير مصرف الرافدين في مدينة العمارة.

"هذه التنبؤات يا أستاذ نوح لا يصدقها إلا الجهلة، وما هي إلا رجم بالغيب، ولا يعلم الغيب إلا الله سبحانه وتعالى، فهو وحده علام الغيوب، ولا ينبغي علينا نحن المؤمنون تصديقها"

استمر الحديث بيننا، واستطرد التاجر الكيال، يتحدث عن معرفته الطويلة، بأحوال المدينة، أسرها وبيوتاتها القديمة، وعشائرها، ومن حل بها عند مجيء الاتراك، ومن ارتحل منها الى العاصمة بغداد، أو الذين نزحوا اليها من اطرافها من القرى والأرياف، بما يمتلك من معلومات وخبرة طويلة بتاريخها، فهذا الرجل السبعيني، المخضرم، كان في الثانية عشر، عندما احتلت طلائع الجيش البريطاني مدينة العمارة، وطردت الأتراك منها، عاصر في شبابه بداية تأسيس الحكم الملكي في العراق، وتربط إسرته علاقات صداقة مع أركان الحكم الملكي البائد، يمتلك ذاكرة قوية، وكان شاهدا بنفسه لأحداث سياسية هامة، وأخرى سمعها ونقلها عن والده آغا عمران كيال، يفتخر ويتباهى بأسرته العريقة، امتحنته الحياة، وعركته التجارب، فخرج منها متسلحا بالفطنة والحنكة والمكر والدهاء، وبعد ان أفاض بالحديث، سخر من غباء الذين يروجون لنبوءة العراف الكاذبة، التي لم يسمعها أحد مباشرة من فمه، ولم يسألوا عن حقيقة وجوده، وختم كلامه بأنه اختراع عقل ساذج  يؤمن بالأساطير والخرافات، ثم سأل عن اسمه.

"يقولون اسمه سنيجر، والبعض الأخر يدعوه باسم آخر، زهلول."

أطلق الكيال ضحكة ساخرة، وقال وهو لا يزال يقهقه بطريقته المعروفة عندما يشعر بأنه وجد ثغرة ما أو تناقض في كلام الأخر.

"أنظروا كيف اختلفوا حول اسمه!"

"هل للاختلاف حول الاسم علاقة بصدق او كذب النبوءة!"

"طبعا، كثيرا ما تستخدم أسماء وهمية، لأفكار يراد منها تشويش وبلبلة عقول الناس."

"من أولئك الذين هم وراء ذلك!"

"الذين اخترعوا اسمه."

نظرت للشيخ فوجدته واجماً، ساهماً، وصامتاً، أدهشه كلام الكيال، فقرأت في عينيه علامات تساؤل وحيرة، كأنه راح يتساءل مع نفسه، من هؤلاء الذين اخترعوا الحكاية، وماهي غايتهم من وراءها، ولماذا تذكروها الآن، وراحوا يرددونها كأنها خرجت من فم نبي معصوم عن الخطأ، لماذا يفعلون ذلك!؟

قاطعت مناجاته لنفسه:

"صحيح يا شيخ أننا سمعناها جميعاً، وكنا حينذاك أطفالاً، لم نفهم معناها ومغزاها، ولكنها الآن أُلبست ثوب الجد."

أكمل التاجر العجوز:

"وصدقها السذج، وغداً ستعتمر خوذة عسكرية عندما تبدأ الحرب."

تكلم الشيخ معبراً عما يجول في خاطره، متسائلاً:

"ولماذا يصدقونها في المقام الأول، أهي وحي منزل من السماء، حتى يصدقونها!"

"الناس يصدقون أحياناً أشياء سخيفة، مثل الطنطل، والسعلوه، وذلك عندما يكونوا أسرى مخاوفهم، اليس كذلك يا شيخ؟"

ولما وجدتهما لائذين بالصمت، فكرت بأن الأحداث الآخذة بالتسارع يوماً بعد يوم، بدأت فعلاً تعزز مخاوف الناس، بوقوع حرب وشيكة لا مفر منها، ولكي أسمعهم أفكاري بالكلمة والصوت، قلت:

" تزايد اليقين بها بعد ان..."  لم أكمل كلامي. نظر الي الكيال متسائلاً:

"بعد ماذا؟"

"بعد ان استلم حكم البلدين رجلان ندان لبعضهما، وعلى طرفي نقيض"

لم أتماد بتوضيح أكثر، خشية الاسترسال في الكلام الذي قد يجر علي متاعب في غنى عنها، فحتى الآذنين كانتا تخافان أن تسمعا كلاما يقال ضد الرئيس الجديد..

اكتفيت أحدث نفسي، هناك في الجانب الآخر من الحدود، ظهر رجل دين، شيخ كبير، نتف ريش الطاووس الإمبراطوري، وهو الآن مزهو بانتصاره المذهل، وهنا استولى على السلطة والحزب في آن واحد، رئيس جديد لا يزال في مقتبل العمر، مصاب بجنون العظمة، والتمادي بالسلطة، هل هذه محض مصادفة غريبة، من مصادفات التاريخ المحيرة، وهل هذه العلامات التي يتحدث عنها الناس مطابقة لما ورد في نبوءة العراف المندائي!

أومأَ الكيال بحركة من راسه، علامة على انه فهم ما عنيته بكلمة " الضدين “، ولكنه تكتم أن يقول شيئاً، منقاداً لغريزته الحذرة في عدم إرسال الكلام على عواهنه، أو الذي لا طائل من وراءه، وبصوت خافت، كأنه يحدث نفسه. همس

"من عجائب العلم تحويل الحديد الى مغناطيس، ومن عجائب السياسة ان يصيرالملا الى رئيس."

لم يسمعه الشيخ الذي كان يحرك شفتيه المزمومتين، منشغلا بمسبحته يتمتم بلا صوت.

ولم يجرأ الكيال رغم أن صوته كان خافتاً وبالكاد سمعته، أن يتناول شخصية الرئيس الجديد بكلمة سوء واحدة.

وبدا لي أنى أصبت فجأة بعدوى نبوءة المندائي، فرحت أحدث نفسي أيضاً، متسائلاً، أهي تحذير، أم تنبؤ، ولكن كنت في قرارة نفسي أخجل ان أفكر بهذه الطريقة الغيبية، فقد اعتدت في المناقشات مع الكيال، أن أستقرء الأحداث وأقوم بتحليلها بطريقة علمية رصينة، بعيداً عن التكهنات الغيبية، لكن مرض إمي المفاجئ، جعل نفسي تميل نوعاً ما للأمور الروحانية، فأخذت أعقد صلحاً مع الدين، وأمد جسوراً مع الله، كانت لزمن قريب مقطوعة. فعبرت عما يجول في نفسي بكلمات غير مسموعة، "لا أحد يستطيع الجزم بحدوث الحرب أو عدم حدوثها، الأمر كله مرهون بالمشيئة الإلهية" وتساءلت مع نفسي بصيغة سؤال، ولكن بصوت مسموع:

"ولكن لو حدثت ماذا يتوجب علينا أن نفعل؟"

فوجدت الجواب جاهزاً عند الشيخ كاظم الموحان، فهو يعتقد أن ليس هناك وسيلة لمنعها، سوى التضرع بالدعاء الى الله، الذي وسعت رحمته كل شيء، المستجار به من الحروب وأهوالها الفظيعة.

سادت فترة صمت قصيرة، بيننا، كان كل واحد منا يفكر بشيء يقوله، ولما وجدت الشيخ معتصماً بصمت لا يحيد عنه، منشغلا بمسبحته السوداء، كسرت حاجز الصمت، تبادلت الحوار مع الكيال المولع بالنقاش والجدل:

"الأمم التي خاضت الحروب باتت تكرهها، وظهرت فيها جماعات ضغظ  تدعو للسلام، ونبذ الحروب، كما حدث في الستينات بأمريكا وأوربا، عندما عمت المظاهرات، منددة بالحرب على الفيتنام.." فرد عليَّ الكيال

"ولكن الشعوب لم تسطع منع الحروب."

"صحيح، ولكنهم وقفوا ضدها بقوة، وسجلوا موقفهم المناهض لها، بعكس ما يحصل عندنا.. نحن نقف متفرجين، أو لا أُباليين، ولهذا نرى حكامنا، لا يقيمون لنا وزناً، ويبدو أن رئيسنا الجديد لا يفهم ذلك، ولا يدرك ويلات الحرب، أو كما يقال، يردح حيل..." قهقه الكيال بخبث

"متى بدأ يردح، اقصد يرقص بحماس؟"

"منذ  أن تولى الحكم، او بالأحرى استولى عليه، ولكنه سيندم ان أخطأ في حساباته."

"ولكن هم الذين بدأوا بالتحرش به واستفزازه."

"تقصد بمناداتهم بتصدير الثورة، العجيب انهم يصدرون لنا بضاعتنا، اليس كذلك!

"صحيح، وهل سيكون هذا مبررا كافيا لإشعال الحرب!"

"ولماذا لا! الحروب اندلعت لأسباب تافهة جداً، أو لثارات قديمة."

"وهل بيننا وبينهم ثارات قديمة؟"  تساءل الكيال بخبث.

"اوه.. طبعاً، وغائرة في العظم "

قطع الشيخ تسبيحاته وقال:

"وقد تكون هذه الحرب عقاباً إلهيا.." اعترض الكيال.

"أتعتقد بذلك!"

"ليس ما أعتقد أنا، إنما هو قول رب العالمين: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض)." علقت على كلام الشيخ:

"فالحرب إذن عقاب ألهى.. وعلى فكرة لو كان سعيد الشيوعي معنا الآن، لقال إنها جَرَبٌ إمبريالي، ولكن لنفترض أن شخصا جاءنا الآن بخبر كاذب، عن حرب اشتعلت فجأة بين أمريكا وإسرائيل، دون أن نسمع عنها مباشرة من وسائل الإعلام، فهل نصدق ادعاءه! أسرع الشيخ قائلا.

"بالتأكيد لا، إن ذلك من سابع المستحيلات." وتساءل الكيال ليعمق الجدل أكثر:

"ولم لا يا شيخ!؟  رد الشيخ بحماس:

"لأن الدولتين بدون شك وريب، أمة واحدة يا حاج موسى.. فرد الكيال:

"ونحن ألسنا وأيران أمة واحدة يا شيخ!"

لم يقل الشيخ شيئاً، بل أكتفى بالصمت والنظر للسجادة الكاشانية الثمينة، التي أهداها الكيال للجامع، بمناسبة حجته الأولى للديار المقدسة، والتي لا تزال ألوانها ونقوشها الجميلة، الحمراء والزرقاء تبهج النفس.

رفع الشيخ نظره وهز رأسه، فاستقبلنا تلك الإشارة المعبرة منه، على أنها الجواب الصامت والمسكوت عنه، لما كان يدور في رأسه من تساؤلات، ثم هب واقفاً، معتذراً وهاماً بالانصراف، مشينا معه حتى باب الجامع، ودعناه، وبعد خروجنا، مشينا خطوات قليلة، رأينا بعض المحال الصغيرة التي أُغلقت، قد فتحت أبوابها، وعادت الحركة ناشطة في جادة جامع النجارين.

يتبع..

 

صالح البياتي

.......................

حلقة من رواية بيت الأم

 

في نصوص اليوم