نصوص أدبية

رجلان في الميزان

صالح البياتيسألني الكيال قبل أن نفترق ويمضي كل منا لوجهته، عن سعيد، فأخبرته أني رأيته آخر مرة في شارع الرشيد، على مقربة من ساحة حافظ القاضي، كان واقفاً أمام محل لبيع أقلام الحبر الفاخرة وقداحات رونسون الشهيرة، ومحافظ النقود الجلدية الفاخرة، والهدايا الراقية المتنوعة، توقفت أتفرج، حاول أن يتجنبني، أشاح بوجهه، وراح يتطلع للشارع المزدحمة أرصفته بالمارة، يتظاهر أنه لا يعرفني، كنت أنظر لفاترينة المحل الزجاجية، أنوي شراء قلم حبرأعجبني لأهديه لصديقي الدكتور هلال، سألت صاحب المحل عن ثمنه، وأبديت رغبتي في شراء أخر لي، على أن يكون مثله تماما، فسأل صاحب المحل سعيد، إن كان بالإمكان الحصول على آخر، واستغربت عندما ناداه باسم غير أسمه، ألتفت سعيد فالتقت نظراتنا، فصاح مرحباً بي، إستاذ نوح أهلاً، فقال صاحب المحل: طلعتم معارف، رد سعيد: بل نحن إخوة، لم يقبل صاحب المحل أن يأخذ الثمن، ولكنني رفضت فدفعت ثمنه، على أمل أن نلتقي غداً هنا، فيأتي سعيد بالقلم الآخر، ونذهب للغداء لمطعم قريب لنتحدث، ولكني عندما جئت على الموعد لم أجده، فسألت صاحب المحل، قال لا أدري ربما حدث شيء له، وأخبرني أنه يساعده، ويشتري للمحل بعض السلع الغالية بأسعار رخيصة، لقاء عمولة متفق عليها بيننا، وعندما سألته: منذ متى تعرفه، أكتفى بالقول، أنه صديق قديم، لم يقل شيئا آخر، ولكني أعرف أنه يتخفى في بغداد، كان يبدو لي أنه خائف، ويشعر بأنه مطارد، وربما كان خائفاً مني، أنا صديقه القديم، وأعتقد لهذا السبب لم يأت على الموعد كما اتفقنا.

وفي طريق العودة للبيت بعد توديعي لموسى الكيال، فكرت بسعيد المطارد، وتذكرت صرخة الشيخ النارية، تمنيت انها وصلت فوراً الى الله السميع العليم،  فتتعافى أمي من مرضها، وتكبل أيدي الذين يريدون إشعال فتيل الحرب، ولكن صرخته في الحقيقة، عندما فكرت بها، لم تكن كالعادة مجرد دعاء يوم الجمعة، هذه المرة كانت صرخة احتجاج، او استنكار، وعندما استعدت لذاكرتي اخبار التاسع من نيسان/ ابريل لعام 1980، قبل اربعة ايام، تأكدت ان الشيخ، كان متألما من اعدام المرجع الديني الكبيرمع اخته، لقد ذكر لي عنه مرة، انه الف كتاب البنك اللاربوي في الاسلام، ولأن عملي مصرفي، اثار اهتمامي، فقلت نحن بحاجة ماسة لأبحاث في مجالات كهذه اكثر من تكرار الكلام  في امورعفى عليها الدهر، لا تمس حاجات الناس.. فكرت وانا في الطريق للبيت، أن اعدامه، وليس نبوءة العراف، سيشعل شرارة الحرب، كما حدث قبيل الحرب العالمية الاولى، عندما أغتيل ولي عهد النمسا وزوجته في سراييفو، على يد ارهابي من منظمة الكف الأسود..

وعند وصولي للبيت، وجدت امي تصلي، وقد توشحت برداء أبيض، يغطيها من الرأس الى القدمين، فبدت ملاكاً وسط عتمة ضوء الغرفة، سمعتها تهمس بدعاء، تفيض كلماته رقة وعذوبة وحباً، مبتهلة الى الله أن يحميني، ويهبني الصحة والعافية والعمر المديد، والزوجة الصالحة، اعتادت على الدعاء لي، ابنها الوحيد في أدبار صلواتها اليومية، وعندما فرغت، قبلت رأسها:

"سمعتك تدعين لي، ونسيت نفسك." ابتسمت دون أن يرتد طرفها عني.

"ألم تدع لي عند صلاتك في الجامع."

"بلى فعلت، وكذلك دعا لك كل من كان هناك اليوم، حتى أن الشيخ تهدج صوته وخنقته العبرات، ودعا لك أيضاً موسى الكيال."

وكعادتها عندما يذكر أحد أسم الشيخ، تمدح أخلاقه وطيبته، وتنعته بأحسن الخصال، وتذم الكيال الخبيث والسيئ الخلق، كما تصفه دائما.

كنت أريد أن أكتشف سر كراهيتها للكيال، فانزويت في غرفتي، أستنطق الماضي، علّه يكشف لي سر هذا الغموض، أو شيئاً يبرر هذا العداء للتاجر العجوز، قلت لنضع الرجلين في كفتي ميزان ونرى ايهما أرجح، بدأت بالشيخ الذي تجله امي، لنلق شيء من الضوء على ماضيه، لنرجع بالزمن، قرابة الربع قرن الى الوراء.

كان في عنفوان شبابه ثوريا، متحمسا لمقارعة الظلم، تحسبه شيوعياً حينما يتكلم عن التمايز الطبقي، واستغلال كبار ملاك الاراضي للفلاحين الفقراء، رجل من طراز أولئك الرجال الذين ظهروا كنباتات فطرية، تغذت من تربة جمهورية 14 تموز، ولكنها سرعان ما اختفت، مخلفة مكانها أعشاباً طفيلية ضارة، كان من المحتمل ان ينظم للحزب الشيوعي في شبابه، مثل ابن عمته سعيد، لو أتيحت له فرصة معرفة الشخص المناسب، الذي يلقنه أفكارهم دون التعرض لنزعته الدينية الفطرية، ولكن ذلك لم يحدث أبداً، فانطفأت فجأة جذوة حماسه الثوري، وركن للغيب يوكل اليه أمره، كي يقيم ميزان العدل، الذي طالما رآه مختلاً، أخفى تحت جناحيه المضمومتين قهره المتأصل، وتفرغ للعلوم الدينية ينهل من كتبها القديمة، ما أستطاع الى ذلك سبيلاً، أبعدته يوما بعد يوم عن واقع الحياة وخضمها الصاخب، المحتدم بالصراع ، كان حقاً ولا يزال طيب القلب والمنبت، أعرفه منذ كان يأتي من قريته البعيدة في عمق الهور، لزيارة عمته الدهلة، التي كانت نزيلة في بيتنا، فكان يمكث عندها أياما، يخرج للنزهة في المدينة مع سعيد ومقبل، وفي صيف ما ، كنت معهما، اقف بينهما، أمام بوابة قصر فتنة، نظر سعيد لعناقيد العنب المتدلية من العريشة، في الحديقة الأمامية، فقال هنا الجنة، فرد عليه كاظم، ولكنها فانية، وهناك جنة الخلد الباقية، ونار جهنم المحرقة، فرد سعيد ساخراً، الا يكفي ان تحترق بنار الفقر، التي هي أشد من نار جهنم، فقال كاظم، صحيح، ظلم ان يحترق الفقراء بنار جهنم ايضا. فعرفت منذ ذلك الوقت انه أنسان مرهف الأحساس، ذو نزعة إنسانية متدينة.

أما الكيال الأكبر سنا منا، الذي اراه غريباً أحيانا وغامضاً، إلا انني لا اكرهه كما تفعل أمي، ولم افهم سبباً مقنعا لنفورها منه، كان قديماً يسكن على مقربة من بيتنا، في بيت كبير من طبقتين، شناشيلة الزرقاء تواجه حديقة البلدية ونهر الكحلاء، لا يزال يمتلكه، ويمتلك بضعة بيوت اخرى في حارة الجامع القديم، بمحلة السرية، بالأضافة لمخزن ومطحنة حبوب استورد ماكنتها من بريطانيا في العهد الملكي، كان سعيد يعمل فيها ميكانيكيا، وفي ذاك الزمن لف قايش المطحنة

(فلاي ويل) دشداشة العامل مظلوم وقتله في الحال، كنت اذهب مع بعض الأولاد أيام الشتاء، نغسل ارجلنا بالساقية الصغيرة التي على طول الجدار، الخارجة من المطحنة، كان الماء دافئا، فنتخيل اننا نرى خيطا من الدم لا يزال يختلط فيه، نتخيله دون ان نراه.

وقع الحادث منذ زمن بعيد، لذا استبعدت ان يكون ذلك سببا لكراهية امي للكيال، تساءلت ما أسرع الزمن! يمر كأنه في سباق محموم مع العمر، او كأننا "أبناء الحكايات نكبر بسرعة، كما يحلو لأمي ان تصفنا."

خرجت من غرفتي، عبرت عن دهشتي:

ما أسرع الزمن يا امي.. الصغار يكبرون بسرعة كما في حكاياتك الجميلة، كنت البارحة أشارك بزفاف هيلا بنت المرحوم مظلوم، على المدرس مقبل ابن الخالة الدهلة، كان عمرها سنتين عندما قُتل ابوها، وهي اليوم مدرسة وأصبحت زوجة.

"وانا فرحت لهما من كل قلبي."

سألتني عن جاسم أخوها، فمدحته، بأنه شاب مؤدب، طموح وذكي، وسيتخرج من الجامعة هذه السنة، ويحصل على بكالوريوس إدارة واقتصاد، وسأسعى لتعينه بوظيفة في البنك، بعد إكماله للخدمة العسكرية.

تأوهت متحسرة كأنها تحاول ان تستغل زواج مقبل، فرصة لاستئناف مناشداتها المستمرة لي، وغير المجدية، حول إصراري الدائم على تأجيل الزواج، وكالمعتاد أعيد على مسامعها الأسطوانة المشروخة، عن عدم رفضي الفكرة، ولكن أقول لها أن مبرراتي لتأجيله معقولة، فهدفي الأول نيل شهادة الدكتوراه، كنت في حالات كهذه أحرص على إرضائها، أُمازحها حتى أرى البسمة تعود مرتسمة على شفتيها الذابلتين، اُمنيها بالزواج بعد تحقيق حلمي، وأتمنى لها طول العمر، لترى أحفادها، تجلس أول حفيد لها في حضنها، ترقصه وترنم له ترنيم جميلة، فأقول: أسمعيني الترنيمة، ثم أُقبل راسها، فيشرق وجهها بابتسامة عذبة وتبدأ ترنيمتها هكذا " مية هلا وترحيبَ يفوح المسك من جيبَ" فأضحك جذلاً مسروراً كأني طفل صغير تدغدغه أمه لتضحكه:

"هكذا.. لنضحك لنفرح لنرقص، فلن نخسر شيئا، هكذا ينبغي أن تكون حياتنا، ببساطة.

يتبع

 

صالح البياتي

.....................

حلقة من رواية: بيت الأم

 

في نصوص اليوم