نصوص أدبية

حادثة قديمة

صالح البياتيجاءت الخالة الدهلة أم سعيد، احضرت معها طعاما، وهي منذ مرض أمي، تواضب على احضار الطعام لها، ولم تتخلف يوماً عن زيارتها، حتى في صبيحة اليوم الأول لزواج ابنها الاستاذ مقبل.

بيتها يقع في نفس الزقاق، على مسافة ثلاثة بيوت، اشتراه سعيد من المال الذي وفره بعد ان ترك العمل في المطحنة، بسبب خلاف قديم، مع الكيال، يتعلق بالتعويض المالي للعامل، الذي تنكر له الكيال، فبعد ان تركه، عمل سائق لسيارة اجرة، أربع ركاب، على طريق السفر بين العمارة وبغداد.

استقبلت الخالة أم سعيد عند الباب، مرحباً بها، ومهنئاً بزواج ابنها مقبل.

"سنزوركم خالتي أنا وأمي، لنبارك ونقدم هدية العروسين" تمنت لي إمراة تسعدني، أبنة حلال كما قالت، شكرتها ودخلت غرفتي، وكنت أسمعها تحدث امي عن ابنها الاكبر سعيد، تقول.. يرفض الزواج، حتى لا ينجب أولاداً يقتلون في الحروب، التي يتوقعها دوما..

ضحكت أمي ساخرة .

" صحيح كما قالوا، الجنون فنون، ابني لا يريد الزواج لأنه يحلم بالدكتوراه، وابنك يخاف أن يفقد أبناً لم يولد بعد في حرب لم تحدث بعد."

" يحلم ابنك بماذا.. دكتا وور، مثل الريس الجديد، لا أعرف كيف أنطقها مثلما ينطقها مقبل."

" لا.. دكتوراه، شهادة علمية عالية، فرق كبير جداً بينهما "

خرجت ضاحكاً وقلت مازحاً:

" ماذا كنتما تقولان عنا!"

"لا شيء ابني، كنا نضحك على أفكار سعيد."

"على كل حال اضحكوا على راحتكم، ولكن حذاري، خالتي أم سعيد أن تقولي أمام الناس، ابني مقبل يسمي الرئيس دكتاتور، رجاءً هذا الشيء فيه خطورة على الأستاذ مقبل، إذا سمعه أحد ونقله للحكومة."

" لا يمه أسم الله على ابني مقبل، زين يمه، الله يخليك نبهتني، بعد ما ينطق لساني باسمه، أحنه وين والريس وين!"

عدت لغرفتي أفكر، لم أصدق أن الخالة ستمسك لسانها عن الرئيس، فهي قد أطلقت عليه لقب "الدريع"، وتعني بلهجتها السفيه، وإذا تمكنت من نطق كلمة " دكتاتور" صحيحة، كما ينطقها مقبل مدرس التاريخ، فتلك الطامة الكبرى، وفكرت بمخاوف سعيد فوجدتها واقعية، ولكني استغربت من المصادفة الغريبة التي جمعت بين النبوءة الغيبية و تسارع الأحداث، فوجدت ان هناك الف سبب وسبب للحرب، وفي النهاية يقفر واحد فيكون كافيا لإشعال فتيلها، حدثت نفسي.. شيء غريب حقاً يا نوح.

لم أستطع الجواب عن هذا السؤال، تركته للزمن فهو كفيل بفك كثير من ألغاز الحياة، وعدت أفكر بسر نفور امي من موسى الكيال، لعل حادثة مقتل العامل مظلوم، تلقي شيئاً من الضوء على هذا السر الذي يكتنفه الغموض.

في العطلة الصيفية، اثناء المرحلة الإعدادية، عملت كاتبا في مكتب الكيال أتقاضى أجراً شهرياً مقداره ستة دنانير، كانت أكثر من راتب الموظف المطرود، دخل سعيد يوما المكتب، وكان ذلك بعد مقتل العامل، حياني، وظل واقفاً في مكانه، يطيل النظر الى الجدار، فكرت انه ينظر لصورة الكيال الذي كان بالزي التقليدي، يغطي رأسه اليشماع والعقال، ويرتدي قميصاً أبيضاً وسترة بدت داكنة، ربما كان لونها بني، الصورة كانت قديمة، بالأبيض والأسود، وجهه ابيض، تلتمع فيه لحية مشذبه بعناية، فيها شعرات بيضاء قليلة، أما الشاربان فكانا كثان واسودان، لا أدري إن كان الكيال أصلعا، في ذاك العمر الخمسيني، لأني لم أره حاسراً إلا مرة واحدة، كانت قبل عشرين سنة، في ضحى العاشر من محرم، كان يمشي حافيا، وقد تلطخ رأسه بالطين، الذي جف وتيبس تحت أشعة الشمس، فبدى كأنه يعتمر قلنسوة طينية، تكسرت فأخفت الشيب القليل في شعره.

كانت الصورة وراء المكتب، حيث كنت جالسا، وانا آنذاك في ريعان الشباب، كلما تطلعت لنفسي في المرآة، أرى فيها وجها ابيضا وسيما، وشعرا اسودا كثيفا ومرسلا، وزغب خفيف ناعم على شفتي العاليا، طلعة تهفو اليها قلوب البنات، بعكس سعيد، الذي شوه الجدري وجهه الأسمر، الواقف أمامي كالأبله، يحملق بالجدار خلفي، يدفعه حب استطلاع لشئ ما، فسألني عن تلك الخطوط العربية الكوفية المتشابكة والرائعة، ذات الزخارف الجميلة، داخل اطارين مذهبين مزججين على جانبي صورة الكيال، كان يخجل ان يسأل الكيال عن الشيء المكتوب فيهما، ولكنه انتهز غيابه فجاء ليسألني، انتصبت واقفاً، بقامتي الممشوقة، والمعتدلة، وقلت مازحاً:

" ولماذا لا تقرأهما بنفسك؟"

" ألم تعرف أني أمي؟"

" الحمد لله انت امي ولست ابي، ( ابتسمت أمازحه)، وأكملت ولكن لماذا لم تذهب  للمدرسة؟"

" اتضحك مني، لا توجد عندنا مدرسة في قريتنا"

وضحكنا معاً، استدرت من وراء المكتب، وقفت بجانبه، وأشرت بيدي للوحتين.

" تلك التي على اليمين: (لإن شكرتم لأزيدنكم) والتي على اليسار (وأما بنعمة ربك فحدث) والاثنتان آيتان من القرآن الكريم، أتريد أن أفسرهما لك!"

" لا.. المعنى واضح، ولكن اتمنى ان يفهمها الكيال كما فهمتهما انا!"

"ماذا تقصد يا لئيم!"

ولكني في الحقيقة فهمت قصده، كان يعني أن الكيال أنسان منافق، فعندما قُتل العامل مظلوم قبل أيام، أقام مجلس تأبين على روحه، في جامع النجارين، وتبرع بمصاريف الجنازة والدفن، ولكن عندما جاءه سعيد يستعطف الكيال لمساعدة عائلته بمعاش ثابت، انزعج، واعتبر ذلك تدخلاً في شؤونه الخاصة، وعندما ألح سعيد عليه، متوسلاً ان يرحم أرملته التي أمست بلا معيل، غضب الكيال، ورد عليه، أنه قام بما يمليه عليه الواجب الديني، وان الحادث الذي وقع له كان قضاءاً وقدراً. انسحب سعيد من المعركة غير المتكافئة، وهو يشعر بمرارة الاندحار أمام جبروت الكيال. ولكن بعد أن قرأت له ما في الإطارين، شعر انه قد تسلح بشيء يستطيع أن يحارب به الكيال، فعاد مرة آخرى يدافع عن العامل القتيل، ولكن هذه المرة بقوة وشراسة، وعندما تذرع الكيال بالقضاء والقدر، أقر له سعيد بذلك، ولكنه جادله ورد عليه، بانه لا ينكر عجز الأنسان عن دفع القدر عن نفسه، ولكن الموضوع يتعلق بمصير ارملة وطفلين يتيمين، وحاول إقناع الكيال، ولكن قلب الكيال كان قاسياً كالحجر، لم يرق قلبه لمناشداته المتكررة، اعتصم بصمته، منشغلاً بمسبحته التي مسح خرزاتها السوداء على جدران الكعبة، صرخ سعيد منفعلاً، ارحم المساكين يا حاج، رد عليه الكيال غاضباً، لا تصرخ هكذا بوجهي يا جاهل، وبدل ان يستجيب، حمَّل سعيد مسؤولية الحادث، باعتباره الميكانيكي، وكان عليه إجبار العامل القتيل على ارتداء البنطلون أثناء العمل، كما تقضي التعليمات، بدلاً من الدشداشة، التي لفها قايش الماكنة، فارتطم رأسه بالأرضية الكونكريتة ومات فورا، وتمادى الكيال بتأنيب سعيد، واستفزازه واحتقاره :"أنتم معشر المعدان جهلة، ولا تريدون أن تتعلموا شيئا" في تلك اللحظة التي سمع سعيد شتيمة الكيال، التهب وجهه الأسمر المجدور بحمرة الغضب، نزع بدلة العمل الزرقاء ورماها بوجه الكيال، وخرج من المكتب بملابسه الداخلية، كان شعره المجعد معفراً بغبار الطحين، وعيناه محتقنتان بالدم، توحيان بأنه قادم على عمل لا يحمد عقباه. لكنه تمالك نفسه، وذهب فوراً الى بيت المرحوم مظلوم ونفح أرملته بما جادت به يده من نقود قليلة، كان هو بأمس الحاجة اليها.

في الليلة التي سبقت الحادثة، كان سعيد ومظلوم، يعاقران الخمرة، احتسى الأثنان قنينة عرق كاملة، لم يتأثر سعيد كعادته، ولكن الآخر، افقدته الخمرة صوابه، وراح يبكي، وعندما عاد لبيته، تشاجر مع زوجته وضربها، فأخذت تصرخ وتولول، سمعها سعيد، وكان واقفاً عند الباب، لكنه واصل طريقه، وفي اليوم التالي فقدت زوجها، فبكت المسكينة هذه المرة بحرقة أكثر، على مصيرها المجهول، ومن غرائب الصدف أن يغرق صديقي منير، أبن الكيال، بعد ايام قليلة من حادثة العامل، وكنا نستعد آنذاك للجلوس لامتحانات البكالوريا.

كنت جالساً على حافة سريري، أفكر، وأنا أستعد للخروج أتساءل: هل يعقل أن أمي لا تزال تكره الكيال بسبب موقفه مع عائلة مظلوم!، وهل يا ترى كان غرق ابنه منير عقاباً إلهيا على قسوته على عائلة مظلوم!؟

انتهى الفصل الأول

يتبع..

 

صالح البياتي

..................

حلقة من رواية : بيت الأم

تنشر لأول مرة على صحيفة المثقف

  

 

في نصوص اليوم