نصوص أدبية

السبت وما بعده

صالح البياتييوم السبت، الأسبوع الثاني من نيسان / ابريل 1980، أي  قبل خمسة اشهر تقريبا على اندلاع الحرب، كان الازدحام غير عادي في المصرف، منذ بداية الدوام، مما دعاني الى التفكير بيهوه، الذي استراح  في مثل هذا اليوم، بعد خلق العالم في ستة ايام، ورحت احدث نفسي .. ولكن طالما بقى اليهود سدنة المال، فلن يستريحوا ابدا، سيتحرك المال في بنوك العالم على عجلات من البرق، بدون ضجييح، لا يميز يوما عما سواه..

كنت مستتغرقا بالتفكير عندما سمعت طرقاً خفيفاً على باب مكتبي، وحين رفعت رأسي عن الأوراق التي امامي، انفتح الباب قليلا فرأيت القاضي المتقاعد عبد الهادي إجباري، بقامته المعتدلة والممتلئة، وبسمته الودية التي تضئ وجهة الأسمر، وترفع الكلفة والحرج بينه وبين الناس، ومنذ أن رأيته أول مرة في حياتي، عندما وقفت أمامه أصطنع شجاعة صبيانية، (اتحدى بها خوفي وارتباكي)، وانطباعا بأني  جدير بالأسم الجديد الذي اخترته، لا زلت أحبه وأحترمه، قمت مرحباً به، استقبلته بحفاوة، وكررت الترحيب بعد جلوسه، كان القاضي يزورني  في مكتبي بمصرف الرافدين،  بين الحين والآخر، وكنت التقية أحيانا في مقهى التجار قبالة نهر دجلة، عند نهاية السوق الكبير، وبعد دقائق جاء مستخدم البنك بفنجاني قهوة وكأسي ماء، وبينما كنا نرتشف القهوة، تحدث السيد القاضي عن زيارته الى لندن، قبل تقاعده، أيام الملكية، هناك شاهد المتقاعدين الإنكليز يستثمرون أوقات فراغهم بشكل جيد، فهم كما وصفهم، رواد للمكتبات العامة، ومتطوعون في الأعمال الخيرية، على عكس ما يفعله المتقاعدون في بلدنا، فالتقاعد بالنسبة لهم، نهاية الطريق المؤدي للموت، وانتقل يعيب على الشباب هدرهم للوقت، في المقاهي، وعبر عن اسفه بحركة من يده .. وضع فنجان القهوة على المنضدة الصغيرة، واعتدل في جلسته مسترخيا على الأريكة، وتابع بطريقته الجذابة.. تعرف إستاذ نوح.. أفضل شيء للمتقاعد أن يشغل نفسه بشيء نافع، أو يخطط لمشروع تجاري صغير، يدر عليه دخلا اضافياً، يغطي نفقات العائلة المتزايدة، خاصة اولئك الذين لديهم أبناء، سيلتحقون بالجامعة، فتكاليف ومتطلبات دراستهم باهضه، لا يغطيها المعاش التقاعدي المحدود، الذي وصفه بالبيض المعدود في الكيس المشدود. ابتسمت وعقبت مازحا، بأنه لا ينقص ولا يزيد، فرد القاضي باسما، أنه ينفد ولا يبقى منه شئ قبل نهاية الشهر، ولكن الحمد لله، وبفضل نعمته علينا، عندنا أرض زراعية في منطقة الطيب؛ على الحدود الشرقية، تنتج الحنطة الديمية الجيدة، مؤجرة لفلاحين، ويغطي خيرها احتياجات العائلة المتزايدة، وعندما سألته من أجل الإستمتاع بحديثه، عن كيف يقضي اوقات الفراغ، حدثني عن برنامجه اليومي، قرأءة الصحف؛ والاستماع لنشرة اخبار الصباح، وقضاء ساعة قبل النوم في مكتبته، وتبادل الزيارات  مع الأصدقاء، مثل حضرتي كما قال، وعبر عن شخصيته الإجتماعية، بحبه الاختلاط بالناس، وانه لا يقدر أن يستغني عنهم، وقال، أنت لا تستطيع معرفة الناس دون الغوص في حياتهم، وبحكم مهنتي، كنت على احتكاك مباشر مع كل الطبقات الاجتماعية.

استرسل القاضي، أثنى على العماريين، وصفهم بالناس الطيبين، ولكنه في نفس الوقت، تأسف لما تناهى لسمعه هذه الأيام من أخبار محزنة، عن حملة تسفير الى إيران، وصفها بأنها:  مبيته لتمزيق نسيج المجتمع العماري المتجانس، بوسائل خبيثة كتشجيع الوشايات وجمع المعلومات. كان حديثنا يدور حول مصائر اسر عراقية لا حصر لها، مهددة بالتهجير القسري الى ايران، هؤلاء الذين تصنفهم سجلات مديرية  الجنسية في بغداد؛ بأنهم من "التابعية الإيرانية"، هم بحسب ما أكد القاضي، مواطنون، يحملون الوثائق الرسمية، التي تثبت عراقيتهم، انحدروا قبل تأسيس الحكم الوطني في العراق من المرتفعات، التي كانت ضمن الأقليم العراقي والتي تسمى بشت كوه، ما وراء الجبل،  أثناء الحكم التركي، وانتشروا بالمناطق السهلية الدافئة، في مدن الوسط والجنوب، هربا من شظف المعيشة، والطقس الشديد البرودة في مناطقهم الجبلية، وذابوا تقريبا منذ أجيال، في المجتمع العراقي.. واستمر يتحدث بما يمتلك من معلومات رجل يعلم الشئ الكثيرعن مدينته، وكيف ان الجميع  فيها، كانوا منذ أن تأسست، يعيشون في تآخي وانسجام، ولكن الحكومات المتعاقبة بإستثناء حكومة الزعيم*، كانت ولا تزال تميز الكرد الفيليين والذين من اصول غير عربية ، وتعتبرهم مواطنين من الدرجة الثانية، المفارقة الغريبة، انهم مواطنون وليسوا مقيمون في العراق..

واستنتج القاضي عبد الهادي اجباري أن المسألة معقدة..  وهي في أساسها سياسية، وليست قانونية، عملية شد وجذب بين الدولتين الجارتين.

واستغرب اصرارالحكومة على تقسيم مواطنيها الى فئتين: اتباع  إيران الصفوية، وتعتبرهم اجانب، واتباع الدولة العثمانية، وهم العراقيون بنظرها، وكلا الدولتين كاننا تحتلان العراق، وانقرضتا قبل تأسيس الدولة العراقية. ومن الناحية القانويية،  يجب ان يعامل المواطنين على قدم المساواة، كما هو الحال في البلدان المتحضرة، وعرف المواطنة فقال: " في ابسط معانيها الغاء التفرقة على اسس عرقية او غيرها وفي حالة النزاع بين الدول المتجاورة، يجب احترام حرية التنقل، وحياة الأقليات، وعدم استخدامهم اكباش فداء، فهذه تعتبر جريمة في القانون الدولي، كما حدث لليهود زمن النظام النازي. واستمر القاضي في الدفاع عنهم..

في العهد الملكي، حينما كانت تسوء العلاقة مع إيران، كانت الحكومة تسفر المقيمين، وأفرادا معدودين ممن تسميهم التبعية الأيرانية ، أتدري الى أين يا نوح؟

"لا.. لا أعرف."

"الى البصرة، وبعد زوال التوتر، تعيدهم الحكومة لمدينتهم .. كان واحدا من هؤلاء زوج اختي، وكنا نستقبله عند حدود المدينة"

"يعني إبعاد."

"نعم إبعاد مؤقت داخل البلد."

"أي لعبة سخيفة هذه!"

وبينما كنا نتحدث، سمعنا الكيال يصرخ غاضباً على موظف في المصرف.. أنا تاجر معروف، اتعامل مع بنك الرافدين منذ تأسيسه، وقبل ان يفتح فرعه في العمارة، كنت اتعامل مع البنك البريطاني استرن بنك ليمتد..

ضاعت آخر كلمات الكيال الغاضبة وسط أصوات عملاء البنك، فتبادلت مع القاضي نظرات استفسار، وخرجت لأستطلع الأمر، ولكن لم أستطع أن ألحق به، فقد رأيته يهبط السلالم مسرعاً، وعندما ناديته كان في آخر السلم، عند باب الخروج، صحت اناديه: يا حاج ...

ولكنه لم يسمعني، أو ربما تجاهلني، وتظاهر بعدم السماع.

عدت لمكتبي، معتذراً للقاضي الذي عبر عن استغرابه:

"إذا لم أكن مخطئا، ربما يتعلق الأمر بوثيقة شهادة الجنسية، فقد جئت للبنك يوم الخميس الماضي، لسحب نقود من حسابي، فطلبوا مني الوثيقة، فقلت ملاطفاً الموظف، انا كنت قاضياً عراقياً ولست إيرانياً، واليوم احضرتها معي.

اطلعت القاضي على التعليمات الجديدة الصادرة من البنك المركزي، حول إجراءات التحويل والسحب والايداع وإلزام العملاء ابراز شهادة الجنسية عند القيام بتلك العمليات. وعبرت له عن قلقي من انزعاج العملاء. وعبر القاضي هو الآخر عن هواجسه من الأحداث المتسارعة في المنطقة، والأصوات المتعالية والمتبادلة بالتهديد والوعيد، إيران من جهة تبشر بتصدير ثورتها الإسلامية، والحكم البعثي في العراق، متوجس من تأثيراتها المباشرة وغير المباشرة، وأن هناك آذان صاغية، فأخبار ثورة إيران وهروب الشاه، والاضطرابات والقلاقل الداخلية، بدأت تدخل بيوت العماريين دون إستئذان، عن طريق راديوهات الترانسيستور. قال القاضي بمرارة وأسى وأسف، بدا واضحاً على محياه.

"التربة جاهزة الآن، لإستتقبال بذورالحرب."

التزمت الصمت، لم اقل شيئا، كي يكمل حديثه.

"حرب...! بعد الانتعاش الاقتصادي الذي بدأ بالطفرة النفطية، في منتصف السبعينات، وبعد ان ذاق العراقيون طعم الشبع وبحبوحة العيش، الله يستر.. إستاذ نوح."

عبارة "بحبوحة العيش"، التي وردت في حديث القاضي عبد الهادي إجباري، عن فترة السبعينات، وتفشي النزعة الإستهلاكية المبالغ فيها لدى ربة البيت العراقية، والنزق الرجالي للسفر للخارج، قدحت ذاكرتي، فإسترجعت ذكريات قديمة مع ابن القاضي، صديقي المحامي حسن، كنا معا في سفرة سياحية الى بولندا في تلك الفترة، وكان مبلغ خمسمائة دولار امريكي، كافية جدا لسائح يبقى شهرا كاملا، يعيش فيها ملك ، سائحا في واحدة من بلدان المعسكر الأشتراكي، اطلق عليها آنذاك السياحة الجنسية، ونسجت حولها قصص كثيرة، واحدة منها عن ميكانيكي سيارات، شرب زجاجة فودكا، فرمي المراة الوارشوية  التي كان نائما معها من بلكونة العمارة، وآخر انا شاهدته بعيني، يتبول في الساحة الكبيرة في مركز المدينة، كان مخمورا، لا يشعر ماذا يفعل، وكان الذين يمرون قربه لا يصدقون ما يرون، دنوت منه، وبخته ، طوح يديه بوجهي، ليسدد لي لكمة، لكنه فقد توازنه وسقط في المكان الذي كان يتبول فيه، كدت اتكلم عن السياحة الجنسية، لكني خشيت صراحة القاضي، خفت انه سيقول، وهل ذهبتما لوارشو من أجل سياحة دينية او ثقافية..

انتظر ان اجيبه عن تساؤله.. حرب بعد بحبوحة العيش، والإنتعاش الأقتصادي، عدت من جولتي الوارشوية، التي اخذتني بعيدا فقلت:

" لا أدري سيدي القاضي، ماذا تريد إيران، أتريد تصدير الثورة أم الإسلام أم الإثنين معاً! لماذا لا يصدرون لنا الفستق، فهم مشهورين بزراعته، ويمتلك واحد من اقطاب الحكم الجديد، مزارع كبيرة في رفسنجان"

"سنكون نحن وهم في مركب واحد، بين أمواج هوجاء عاتية، الله يستر أستاذ نوح."

لم يمكث القاضي طويلا، فالدوام كان على وشك الانتهاء، وأحس بفطنته ونباهته بالإرهاق الذي بدا واضحا على وجهي، فقام ليستأذن بالانصراف، وقال وهو عند الباب مودعاً وشاداً على يدي:

"تعال لزياتي وسأطلعك على قانون الجنسية العراقي، وأضاف. إذا كنت طبعا مهتماً يا أستاذ نوح، وبالمناسبة تسطيع أن تستعير ما شئت من الكتب، ألم تر مكتبتي، فيها كتب اقتصادية أيضاً، عندي كتاب رأس المال، وكتاب أصل الأنواع، وكتب الدكتور علي الوردي موجودة كلها، وأنصح بقراءة كتابه (لمحات من تاريخ العراق الحديث)، وإذا كنت من المولعين بقراءة الروايات فستجدها عندي ايضا، تحتل رفوف بأكملها، وقد اعدت هذه الأيام قراءة أعمال دستوييفسكي، واستهوتني خاصة من بين رواياته العديدة، (الجريمة والعقاب) و(الإخوة كرامازوف)،عالمه الروائي يكتظ بالأحداث وتنوع الشخصيات، وبحق كان كاتبا روسيا عظيما، وهو برأيي أقرب من غيره من الكتاب العظام، لروح الشعب العراقي."

" لقد تشرفت سابقا بزيارة بيتكم، دعاني ابنكم، صديقي المحامي حسن، وأطلعت بشكل سريع على مكتبتكم العامرة، أعدك سيدي بزيارة آخرى، ولكن بعد عودتي من السفر الى بغداد."

"خير إن شاء الله!

"أمي مريضة."

"خير، مم تشكو؟"

"واللهِ لا أدري، فجأة."

"أتمنى لها الشفاء."

" شكرا سيدي القاضي على زيارتكم.. سألني:"

"أتعرف الحلاق أبو أنور؟"

"نعم أعرفه، احلق عنده، وأبو زميلي في الدراسة الابتدائية والمتوسطة، ما به؟"

" لا شيء سأحكي لك عندما تأتي لزيارتي.. مع السلامة."

"مع السلامة."

عدت لمكتبي، أفكر بكلام القاضي، أدركت أنه يلمح بعدم شرعية الإجراءات الجديدة، اختليت بنفسي بعد انصرافه، نسيت ما قاله عن الحلاق، ورحت أفكر بالتاجر العجوز، وبضرورة زيارتي له، اتصلت به هاتفيا من البيت، عدة مرات، دون استجابة، فازداد قلقي عليه، انتهى الأسبوع دون ان اراه،  ورغم معرفتي الوثيقة بمقدرته العجيبة، على تحمل صدمات الحياة، والعيش في العزلة وحيداً في بيته، منذ رحيل زوجته، يخدمناه رجل عجوز وامرأته، يسكنان في أحدى غرف المنزل، تقوم المرأة بالعناية بالمنزل، وإعداد الطعام، والعجوز يعتني بالحديقة المنزلية، كنت أراه أحيانا عند صلاة الجمعة، وكثيرا ما يغيب عن حضورها، أحياناً يمر علي عندما يأتي للبنك لقضاء بعض مصالحه، ادرت قرص الهاتف ورفعته والصقت السماعة على اذني، ولحسن الحظ سمعت صوته، كان ضعيفاً، سألته "هل أنت بخير، قلقت عليك يا حاج، سآتي لأراك الآن.

كانت أشجار الكالبتوس في تلك الظهيرة الربيعية، ترمي ظلالاً كثيفة على أرصفة الشارع، في حي السبع قصور، لذلك تركت سيارتي أمام البنك، وقطعت المسافة الى منزله مشياً، كان الهواء يهب منعشا من النهر القريب، وكان المكان يذكرني دائما بحديقة النساء المهجورة دائماً، على مبعدة أمتار من  منزل الكيال. وكانت في أكثر الاوقات خالية من الجنس اللطيف، لا يؤمنَّها إلا في مناسبات الأعياد مع اطفالهن، كان ابنا الكيال، ممتاز وأخيه منير، يلعبان بأراجيح الحديقة، يذاكران دروسهما، او يقومان بمطاردة الفراشات الملونة الجميلة بين أحواض الزهور، وكنت في احيان كثيرة حاضرا معهما، عقدنا صداقة مع الحارس، الذي عادة ما يدع أولاد الحي الميسورين، يمرحون كما يحلو لهم، مقابل هبات صغيرة، عن طيب خاطر، او قليل من النقود والملابس المستعملة.

هناك في الحديقة انتبهت لأول مرة لمرض منير، كان ممتاز معنا كالعادة، كنا نلهو بأرجوحتين متجاورتين، أوقف ممتاز أرجوحة أخيه، وأنزله منها، كان وجهه شاحباً، وكان غائباً عن الوعي لدقيقتين أو أكثر قليلاً، وبدأ يهذي بكلام غير مفهوم، ثم عاد لحالته الطبيعية، لم تكن أعراض الصرع عنده شديدة، وكان حلم ممتاز، دراسة الطب، والتخصص بأمراض الجملة العصبية، ليجد علاجاً ناجعا يشفي اخيه، كان يخاف أن تسوء حالته المرضية اكثر، وقد حقق ممتاز حلمه، ولكن للأسف بعد موت أخيه غرقاً، اقتربت من بيت العجوز الواقع على الفتحة المؤدية للنهر، التي لا يزيد عرضها على الخمسة أمتار، والتي يأتي منها الهواء منعشا، في هذا المكان، في مياه الدجلة كنا نسبح معا احيانا، ولكن منير كان يحب السباحة في نهر الكحلاء، فكنت أقول له ربما اهلك رموا سرتك في هذا النهر، فأنت تحبه اكثر من الدجلة الذي يجري بمحاذاة بيتكم، طرقت بوابة المنزل الحديدية المصبوغة بالطلاء الأسود، وانتظرت قليلاً، فتح  خادمه الباب، حييته، وسار يتقدمني في ممشى ضيق بين شجيرات الآس ألقصيرة والمنسقة جيداً، رأيت دراجة الرجل الحدائقي القديمة مسندة على سور الحديقة، فوعدته بشراء دراجة جديدة، قلت:

" سأشتري لك دراجة ياعم قبل سفري. "

شكرني العجوز، قادني الى صالة الاستقبال، فجلست أنتظر الكيال، دخل هو الى المطبخ، وخرج وبيده صينية فيها كأس عصير برتقال، وضعها أمامي على طاولة خشبية مستديرة، راح يُعْلِم الكيال بوصولي، علمت أن مدير أمن المحافظة، سليم الخماش، قد استدعاه لمكتبه قبل يومين، لذا فكرت بإخباره بما أعلم، لكي أمهد له للحديث بحرية..

كان سليم الخماش يستفزه ويبتزه هذه الأيام، والعجوز يتقي شره بالمال أو الهدايا الثمينة، فهذا الرجل قوي بانتمائه للحزب الحاكم، وبادعائه القرابة العائلية للرئيس، خرج الكيال فقمت احتراما، وجلسنا وجها لوجه، وكنت أشعر وأنا أنظر اليه مباشرة، أن الرجل قد مني بهزيمة نكراء، قلت عندما جاء:

"أعلم أن سليم الخماش استدعاك لمكتبه."

ظل العجوز صامتاً، فكرت وانا أحدق بوجهه، بطرق العقاب التي ينزلها الحكام بالضعفاء والمغلوب على أمرهم، منذ أقدم العصور وحتى الآن، فأرى شبح الخوف المنحوت بقسوة على وجه العجوز المليء بالتجاعيد، كما هو حال الناس هذه الأيام الربيعية، مرعوبين حتى الموت، خوفاً من المجهول، حتى أمسى الخوف عدوى، في زمن سليم الخماش. الخوف، نعم الخوف.. ينتشر بالعدوى ايضاً، عندما يطلق الرئيس خطبه النارية الملوحة بالحرب، فيصيبهم المرض، عبر الأثير، ترى الخوف بألوانه الكئيبة، الصفراء والبيضاء، والسوداء، تصنعه التقارير السرية، والوشايات اليومية لمخبر مندس بين الناس، فأصبحوا لا يثق بعضهم ببعض. والعجيب في الأمر ان العراف المندائي، وصف هذه الحالة التي تشيع بين الناس في قصيدته، فكانت نوعا ما ارهاصا لواقع هذه الأيام، تحررت من تأملاتي، فسألته:

" هل توخيت الحذر أثناء الاستجواب؟"

" نعم فعلت."

" ماذا قلت في الاستجواب؟"

أحتج الكيال على كلمة الاستجواب.

" لم يكن استجوابا كما تتصور، طرح عليَّ اسئلة وأجبته عليها."

" طرح عليك أسئلة. عن اي شيء!"

" عن سفر ابني الدكتور ممتاز وزوجته لبريطانيا."

"ولماذا يسأل عنهما، سافرا بشكل قانوني، ومن أين علم بسفرهما؟"

" لا أدري، ربما عيونه تتجسس علي، يعتقد أن سفرهما كان بسبب الخوف من الحرب المتوقع حدوثها."

"ولكن ربط سفرهما بحرب مفترضة، استنتاج خاطئ."

" حاول أن يستفزني ويستدرجني."

تخيلت الموقف الذي كان فيه الكيال، فأنا أعرف حذر العجوز، يتمهل كثيرا في مواقف كهذه قبل ان يجيب، ويبتسم بوجهك حتى إذا استفززته، ولن تستطيع ان تخرجه عن وقاره وهدوءه، فما دام يتشبث بهما فهما سلاحه القوي، وهو في مأمن من الوقوع في المصيدة، ولكن رغم صلابته فهو هش وضعيف أمام جبروت الحكومة، ادعى أنه استطاع إقناع سليم الخماش بأن سفرهما كان لغرض التخصص، وأنهما سيعودان بعد إكمال الدراسة لخدمة بلدهم، ولكن سليم الخماش لم يفوت الفرصة، فاستفزه حينما سأله، أي بلد يخدمانه بعد عودتهما! أدعى الكيال ايضاً، أنه اعترض بشدة على صيغة السؤال، وقال له العراق طبعاً..

تظاهرت أني اصدقه وأحسده في آن، على اجتماع الشجاعة ورباطة الجأش فيه، امتدحته في الدفاع عن انتماءه للوطن، امام سليم الخماش الذي اعرفه متعجرفا، ارتاح العجوز لكلامي فانفرجت أساريره، واختفت التقطيبة المرسومة على وجهه، فابتسم ولكن بانكسار واضح، حاول إقناعي بأن سليم الخماش أبدى تفهماً، لوضعه كأب يخاف على ابنه، في ظروف كهذه، يتوقع فيها نشوب الحرب..

وسألني العجوز فجأة:

" ماذا تتوقع مني ان أقول، استاذ نوح، أجبت بشيء من اللامبالاة"

" لا أدري يا حاج."

تابع العجوز كلامه:

" قلت ليس لدي أدنى اهتمام عما يشاع عن الحرب، أو يدور بين الناس عنها.

توقف العجوز يلتقط أنفاسه المتقطعة، وحانت منه التفاتة للباب كأنه تخيل طرقاً عليه، أو ربما كان خائفاً أن أحداً ما يتنصت على كلامه، نظرت لعينيه، فوجدتهما تتحركان داخل كهفيين ضبابين، وأن صوته أخذ يرتجف، يوحي بأن سليم الخماش قد تمكن منه.

"ماذا دار بينكما بعد ذلك؟"

اعترف العجوز أن فطنته خانته هذه المرة، فوقع في الفخ الذي نصبه له.

"كيف؟"

لقد أوقع به اللئيم دون ان ينتبه، وحصره في الزاوية الضيقة، وطلب منه أن  ينقل ما يتحدث به الناس في الأسواق عن الحرب المتوقعة.

سألته مستاءً:

" يريد منك ان تعمل له مخبراً سرياً، أن تتعاون معه."

"نعم هذا ما كان يريد مني.."

" وهل ستفعل!"

لم يجب الكيال على سؤالي، ولكن أخبرني أن الخماش كان يريد ان يعرف ما إذا كنا قد تحدثنا عن الحرب عندما التقينا الجمعة في جامع النجارين..

" طبعا يقصدني، وماذا كان جوابك؟"

" قلت له نحن لا نتحدث في أمور كهذه."

" فسألني، وبأي أمور كنتم تتحدثون؟"

"فأجبته، بأمور عادية.."

ادعى الكيال أن المدير شكره في نهاية الجلسة، واعتذر له عن التعب الذي سببه، ورجاه ان لا يطلع أحداً على ما دار بيننا.

"وماذا بعد؟"

"لا شيء، أبدى لي رغبته برؤيتي مرة أخرى، لمجرد الدردشة، وأردف أن لم يكن لدي مانع."

قلت أحدث نفسي وأنا أحدق في عينيه، الدردشة مع سليم الخماش.. الويل لك إن وشى بك أحد، أو زل لسانك بكلمة، وقلت انه يخطط بذكاء شيطاني لاستغلال حكاية المندائي عن الحرب، إياك أن تقول ذلك، كما اعتدت أن تفضفض معي، سيتهمك بأنك أجنبي، إيراني، سيلفق لك تهمة ما، انت بنظرهم يا حاج مقطوع من شجرة غريبة لا جذور لها..

لاحظت وأنا أحدق بوجهه، علامات الانكسار والهزيمة، واضحة على قسمات وجهه المتغضن، وعلى شفته السفلى المتهدلة باسترخاء أبله، كشفة بعير أمض به العطش والجوع بعد رحلة صحراوية طويلة وقاسية، ونظرت لعينيه المطفأتين الغائرتين في كهفي محجريه، تصرخان في كيانه المتهدم.

أستأنف العجوز حديثه، وكان في صوته المرتجف، الخافت والمتواري وراء الكلمات، جِرس خوف وهلع، سكت الكيال، لم ينبس لبضعة دقائق، اختصرت كل سنوات عمره التي تجاوز السبعين. استنتجت ان العجوز شعر أثناء الاستجواب، بالإرهاق، وبحاجة ملحة للراحة، وأنه أستجدى شفقة سليم الخماش، متعللاً بعجزه وأمراضه المزمنة. فسمح له بالانصراف والعودة لمنزله.

أدركت من معرفتي الشخصية بسليم الخماش، وقدرته الشيطانية على انتزاع المعلومات، من الذين يوقعهم حظهم العاثر بين يديه، ولابد ان العجوز بعد تلك المقابلة الاستفزازية، عاد يجرجر سنوات عمره الطويلة، بخطى واهنة ثقيلة، وأنه قلما واجهته مشكلة، لم يجد لها حلا طوال حياته، خلافاً لهذه المرة، أخيراً فوض أمره الى الله، وانزوى في بيته، ينتظر ما يأتي به الغد أو بعده.

يتبع

شكرا لمتابعتكم

 

صالح البياتي

.................

حلقة من رواية: بيت الأم

تنشر لأول مرة على صحيفة المثقف

 

في نصوص اليوم