نصوص أدبية

الدخول للمَطْهَرُ

صالح البياتيوعندما زرت الكيال مرة أخرى في منزله، ركنت سيارتي أمام الباب، وقرعت البوابة الحديدية السوداء، فخرج البستاني العجوز، حياني رددت تحيته وقلت، تعال ياعم معي، للنزل هديتك من سطح السيارة، شكرني وأسرع يجر الدراجة، قادني كالعادة لصالة الاستقبال، ودخل المطبخ، عاد يحمل صينية فضية صغيرة فيها كأس برتقال، وضعها امامي على الطاولة المستديرة وانصرف ليعلم الكيال بوجودي، قمت احتراما للكيال عندما دخل، صافحته، استأذن وغاب دقيقة، ثم عاد يحمل سفطا  فتحه، ونثر محتوياته على السجادة الكاشانية الفاخرة، قلب بأصابعه المتيبسة:

"هذه مستندات مِلكيه للناس ائتمنوني عليها، واوراق رسمية، احتفظ بها بمكان آمن في غرفة نومي."

التقطت أصابعه وثيقة شهادة الجنسية، ومدها الي، اخذتها، أمعنت النظر في محتوياتها: شعار مملكة العراق، تاريخ الإصدار في العشرينات، اصفرار الورقة ويبوستها كقشرة البصل، الكتابة بمداد أسود، لاتزال حروفها مقروءة بوضوح، أما الطوابع الملصقة عليها، فيرجع تاريخها لحكم أول ملك على العراق، وقد نصل لونها، هذه الوثيقة التي برزت من وهدة الزمن البعيد، يريد سليم الخماش أن يلغيها ويشطبها، حقيقة صارخة تدمغه بالكذب والبهتان، لأنها مستند أصلي ، وحامله عراقي مائة في المائة، تساءلت مع نفسي، التي أثقلها الحزن، عن الفائدة التي يحققها الوطن من تلك الأباطيل والأفعال الغبية، التي يقوم بها رئيس الدولة وخادمه المطيع سليم الخماش وأمثاله، فلم أجد جوباً لتساؤلي.. جمع العجوز الأوراق ورزمها بخيط ستلي، وضعها على المنضدة.

"هل تسمح لي بالاحتفاظ بشهادة الجنسية."

"خذها، لم تعد لي حاجة بها، على كل حال سيصادرون كل ما نحمل من وثائق عند الإبعاد."

"ونقودك المودعة في البنك؟"

"ليست ذات أهمية، لا تقلق، نحن التجار نعرف كيف نسوي حساباتنا مع بعض."

"صحيح.. سأزورك قبل السفر."

"سأحكي لك نكته قبل أن تذهب."

ابتسمت، لأن الكيال فاجأني بأريحيته غير المتوقعة في ظروف كهذه..

" استاذ نوح انت تعرف طبعا الضابط فاخر خريبط، امره سليم الخماش، أن يلقي القبض على العراف سنيجر، أو كما يسمونه زهلول."

وسكت الكيال، ينتظر تعليقي.

" وبعد ماذا حدث؟ "

" الضابط  اطاع سيده، راح وقبض على عاشور المخبل، وجاء به مكلبج للمدير."

"على فكرة حاج، لم أر عاشور منذ مدة، اختفى فجأة."

" خائف من التسفير."

ضحكنا بمرح وعفوية..

قبل مغادرتي لمنزله، ناولني الأوراق، وطلب مني ان احتفظ بها، خوفا من مصادرتها عند تفتيش بيته بعد ابعاده.

ودعته، عائداً الى منزلي، انزويت في غرفتي، وأخذت أحدث نفسي، ولكن في الحقيقة، كنت اخاطب الكيال الغائب، الذي تركته قبل قليل في منزله وحيداً، وكأنه أمامي الآن: من هم أجدادك يا موسى الكيال، أعرب هم، فرس، شركس، ترك، أرمن، أفغان...هنود، أم ماذا!، ألهذا يشك بك الخماش، مع إنك عراقي، أكان أجدادك أغوات، سباهية، تجار، قطاع طرق.. من أين أتى أجدادك وأي طرق سلكوا ليحطوا رحالهم اخيرا على أرض المنفى والبلوى والسبي والكرب.. لماذا لم يولوا وجهوهم شطر أرض أخرى، ترحم من يلتجأ اليها طلباً للأمان والاستقرار والازدهار!

ومع أن الكيال لم يكن يسمع بالطبع ما قلته، لكنه كان يشعر به، كان حتى تلك اللحظة الزمنية القاسية حياً يرزق، كاسم علم في سجلات القيد الرسمية، إلا انه في الواقع، فقدَ هذه الصفة التي تمنح الأنسان الرغبة بالاستمرار بالحياة، يخيل اليَّ وأنا أفكر به، أنه ينظر الآن الى ملفات حياته، من خلال كوتين صغيرتين، خلف جمجمته المعطوبة، كلاهما أكثر عتمة من حاضره المعاش، إحداهما تفضي الى دنياه، التي عاشها ردحاً من الزمن منعماً، سعيداً وسيداً، واخرى يطل عليها من ثقب ضيق، الى قبره و آخرته، مصير يجهله، لا يرى فيه بصيص أمل، دنيا جذبته بقوة وأغرقته بين أكياس المال، وأخرى حاول أن يشتريها بثلاث حجات، تصور أنها مبرورة تمحي ذنوبه القديمة والجديدة ..

أباح لي ذات مرة، ما يرقد في نفسه من لوعة وندم، في آخر مرة ذهب حاجا لبيت الله الحرام، وضع خده على الركن اليماني، كما فعل من قبل، نثر دموعه، بلل الحجر الأسود، وفي غمرة انفعاله، تخيل أن دموعه الغزيرة اختلطت بماء زمزم، فشرب الحجيج ذاك العام، ماءً أجاجا، فظنوا ان البئر ازداد ملوحة بسبب ذنوب الخاطئين، وفي آخر حج قام به بكى بمرارة طفل ضائع، اعترف بكل ذنوبه الصغيرة والكبيرة، التي ظن أن الله قد محاها من سجل اعماله، فعاد كما ولدته أمه بريئا نقيا طاهرا، كورقة بيضاء، اعترف أنه كان دائما يتذكر ذنوبه القريبة، ناسياً أو متناسيا البعيدة، أو متستراً عليها، ولكن حادثة مقتل عامل المطحنة التي طواها النسيان، قفزت من بين تلك الملفات، فرأى دمه يلطخ لباس إحرامه الأبيض الذي يلف جسده، فزع من رؤية إحرامه ملطخا بالدم، أثناء طوافه حول الكعبة، وتعجب حينما لم يلاحظ أحد ذلك، وكلما أتم طوافاً شعر بأنه اكثر ذنوبا، وعندما أكمل الشوط السابع ، انفلت من الزحام، وصلى خلف المقام ..

في تلك اللحظة من بوحه المرير، توقف عن الكلام، كي يلتقط أنفاسه المتلاحقة، ظل صامتا بوقار، تنير وجهة لحية بيضاء، وعينان ذكيتان رغم إنطفائهما، سألته لماذا توقفت، قال: "أخشى ان لا تصدقني، لان ما سأقوله لن يصدقه أحد" استغربت من كلامه، فسألته:

"ولماذا لا أصدقك، عهدتك صادقا دائما..أكمل سأصدقك، تابع بوحه بوتيرة اسرع وادعى للشفقة والأسى..

شعر وهو جاثم عند المقام، أن يدا حانية مست جبينه المحموم، ومسحت حبات العرق عن وجهه ورقبته، فشعر براحة نفسية عميقة، رأى أجنحة بيضاء كثيرة ملأت الحرم، أخذت ترفرف فوق رأسه، أحس برغبة عارمة للغياب عن العالم، أخذته خفقة وسن مفاجئ بعيدا، ورمته في حضن نوم عميق، تمنى ألا يفيق منها أبدا..

توقف الكيال يلتقط انفاسه المتقطعة، ثم تكلم كأنه غائب عن الوعي كالمنوم مغناطيسيا:

" كنت أريد في تلك اللحظة النادرة، ان أنام نومة الموت الأبدية، لكن جموع الحجيج ونداء: لبيك اللهم لبيك، أعادتني لوعيي، فكرت عميقا بشي أعلنه أمام الجميع، ثم صرخت بأعلى صوتي: ياناس، أنسبوني من أكون.. لأي دين أو ملة أو قوم أنتمي ؟!"

أشفقت عليه وقلت في نفسي، هذا الرجل يبحث يائسا عن الجذور، عن الأعماق الغائرة في النفس البشرية، من هو ومن أين اتى؟! تلك هي الحيرة التي يعجز عن معرفتها الأنسان، رحت اتقصى تاريخ اجداده الافتراضي، مستعينا بخارطة الهجرات المستوحاة من وحي خيالي، فكنت أثناء فترات توقفه عن الكلام، أحدث نفسي متأثرا بما يبوح به وبما يعتمل في نفسي ايضا.. أتساءل وانا انظر اليه، من أي أمة أو قبيلة تائهة أنحدر هذا الرجل؟ وأي سماوات أظلت أجداده الأقدمين، وأي نجوم أنارت طرق هجرتهم، على أي شواطئ  رموا نظراتهم الأخيرة، بحر الخزر، البحر الأسود.. أرحلوا عبر جبال البرز أو زاغروس الشاهقة.. أجاءوا مع الريح الشمالية الباردة، وسلكوا السهول الفسيحة؟ حتى لفحتهم رياح السموم العقيمة، الهابة من اتون الصحراء العربية اللاهبة.. أسئلة كثيرة، وحكايات تسرد حتى السأم والملل. عن حقيقة انتشال الذات من قعرها المظلم، ورفعها عاليا لترى النور الساطع، وبهاء الوجود المترع بالفرح والحبور، الأشياء التي لا تستطيع النقود أن تشتريها، ولكن الذين حط المهاجرون رحالهم بينهم، لا يعرفون هذه الحقيقة، يظنون ان  دافعهم للهجرة هو الفقر، وشظف العيش، والحاجة والعوز.. أو هو الانتقال من وعورة الجبال وبرودة طقسها، الى رحاب السهول الفسيحة الدفيئة الوسيعة.

وبعد فترة صمت طويلة، واصل الكيال الحديث، وتوقفت أنا عن الانزياح في تأملاتي البعيدة، قال إنه شعر بإلحاح لحظة استعادته لوعيه، بالحاجة الى تصفية حساباته القديمة..

بعد عودته من آخر حج، تمنى وداع الدنيا الفانية، وتنقية روحه من كدوراتها المتراكمة، تضرع لله أن يساعده على شطب ذنوبه، فتوقف برهة، مترددا عن المضي في الكشف، وتعرية الذات وفضح اسرارها، ولما رآني أتطلع اليه باستغراب، واصل اعترافاته، قال:

" ذهبت بعد عودتي مباشرة الى بيت العامل القتيل، طرقت الباب، خرجت لي بنت حلوة، سألتها من أنت يا بنيتي؟ قالت: أنا هيلا بنت مظلوم، سلمت عليها ووضعت في كفها مظروفا، وقلت هذا دين عليَّ ، قولي لوالدتك عندما تصلي ان تستغفر لي وتبرئ ذمتي، ودعتها وانصرفت "

أزاح الكيال باعترافاته الجريئة، شيئا لا بأس به من ذلك الماضي الذي أثقل كاهله، وكاد يزهق روحه، ولكنه لم يتحرر بعد من عقدة الذنب التي تلاحقه.. وبقي عليه ان يدخل المطهر فيحترق كليا، ويتوهج كالنار..

 

صالح البياتي

.....................

- المَطْهَرُ Purgatorium في العقيدة الكاثوليكية، يقابله الأعراف في العقيدة الأسلامية.

حلقة من رواية بيت الام، تنشر لأول مرة على صحيفة المثقف

شكرا لمتابعتكم

يتبع

 

 

في نصوص اليوم