نصوص أدبية

جسر غزيلة

صالح البياتيقبل سفري الى العاصمة لعلاج والدتي، قطعت على نفسي عهداً بمعرفة حقيقة نبوءة العراف، برؤية المكان الذي ستدور فيه معارك طاحنة، حتى تصل الدماء لركاب الفارس، كما جاء في النبوءة، والشيء الآخر زيارة الكنز برا* زهرون، أب صديقي الدكتور هلال، ولما كان الشايخ كاظم الموحان قد حسم رايه، فقال كذب المنجمون وإن صدقوا، لذا حزمت أمري للذهاب لمسرح الحكاية، لأرى بنفسي المكان (جسر غزيله)، عسى أن أستطيع فك اللغز المحير لتلك النبوءة المرعبة، التي يعتقد بها بعض الناس، ومصدرها عراف  مندائي، ارتبطت طقوس قومه منذ القدم بالمياه الجارية، فأينما كان الماء يكونوا، شيدوا بيوتهم بانسجام وعلاقة حميمة مع الماء الجاري الذي يسمونه (يردنه)، وليس بعيداً عن النهر تقع مطحنة الحاج الكيال، حيث تصطف بيوت متقابلة، منكفئة على نفسها، مشيدة من الطابوق المحلي، متراصة كما لو أنها تحتمي ببعضها، أبوابها الخشبية مهترئة، وستائرها القماشية بالية وقذرة، تحجب النظرعن قبح أفنيتها الداخلية، لتسترها عن أعين المتطفلين والمتلصصين، وعندما تحركها الريح المتسللة من شقوق الأبواب، أو يزيحها جانباً، الداخل اليها أو الخارج منها، تكشف عن مجازات ضيقة تفضي الى باحات مكشوفة للسماء مباشرة. بيوت كئيبة، مطبقة على ساكنيها، عمياء بلا عيون، تطل على الزقاق المترب، وقريبة من ضفة نهر الكحلاء، كان أولاد المحلة يهربون من حرارة الصيف اللاهبة، بالسباحة فيه، أو اللهو في حديقة البلدية، المغروسة بأشجار الكالبتوس، وأسيجة الآس القصيرة المشذبة، ومساكب أزهار الجعفري وعرف الديك وحلق السبع، وعباد الشمس، والقرنفل والجوري.

في صباح يوم  ربيعي دافئ، قضيت شطراً منه في البيت أتحدث مع أمي حول تفاصيل السفر الى بغداد، رفضت في البداية، قالت انها لا تريد الذهاب الى أي مكان، لكنها اقتنعت اخيرا، بعد ان قلت لها بأني استأجرت شقة صغيرة في مدينة الكاظمية، وقريبة من باب المراد، فتمتمت بكلمات لم أسمعها، وقلت لها اني أخبرت عمتي فطم بموعد وصولنا، ارتحت أخيراً لموافقتها، وبعد الظهر جاءت أم سعيد لزيارتنا تحمل طعام الغداء، اكتفيت بشيء قليل، وخرجت انتظر السيارة التي استأجرتها للذهاب الى جسر غزيله، جاء السائق وقت العصر، صعدت بجانبه، وبعد أن عبرنا نهري الكحلاء والمشرح، انطلقنا على الطريق الترابي، سألني السائق:

" هل انت يا استاذ من المصدقين بحكاية المندائي!"

" لا. ولكن أحب أن أرى المكان، لي ذكريات قديمة هناك.

" تقصد الرحلات المدرسية للفكه."

" نعم  في الربيع، كانت هذه المناطق جميلة ورائعة."

" ولكنها تغيرت الآن، فليس فيها شيء يذكرك بالماضي."

وحين صلنا للمكان، ترجل السائق ومشى قليلاً، ثم اختفى في حفرة ليقضي حاجته، نزلت وانتصبت كشاخص وسط أرض منبسطة، نظرت حولي كأني أبحث عن شيء مفقود في تلك البرية الواسعة، أحاطت بي دائرة الأفق، كخيمة غطت المكان، شعرت بان قدراً محتوماً يحبس الأرض والمخلوقات، يحيط بالمكان من كل الجهات، في تلك الساعة في البرية الموحشة، استوحيت من عبارة " دارت رحى الحرب" فتخيلت اني أرى رحى حجرية عملاقة، نزلت من السماء، وحطت على الأرض، تديرها أيد خفية، بسرعة جنونية، سمعت صرير وانين ونحيب، عويل ونشيج، ولولولة وبكاء، ورأيت اللحم والعظام والجماجم، والأعصاب والعيون، والأظافر والشعور تهرس بين شقي الرحى، وتنبثق منهما نوافير الدماء، تشهق لعنان السماء، ثم تهبط  للأرض، فتكون بركة متلاطمة الأمواج، في تلك اللحظة قطع نباح كلاب بعيدة سلسلة الصورالمتلاحقة؛ المنثالة امام عيني.

كانت الجبال في أقصى الشرق، رأيتها مرات عديدة، تبدو الآن أكثر دكنة، اشبه بدخان رمادي، يتصاعد للسماء ببطء، قبل الغروب، بعدها أخذت الشمس بالأفول، وبينما كنت مستغرقاً ومتأملا؛ صاح السائق:

" سيهبط الظلام قريباً، لنعد  قبل أن تهاجمنا الضواري."

" أتعيش هنا في هذه البراري الموحشة؟"

" بقي القليل منها بعد اختفاء الغزال بشكل مستمر."

" لماذا؟"

" القنص كان السبب في هروبها واختفائها، بالكاد تجدها الآن في هذه الفيافي المقفرة."

" تقصد الخليجيون.."

" استعملوا بنادق صيد حديثة، وكانوا يكثفون صيدهم في الربيع، موسم التكاثر."

" أكنت تراهم بنفسك؟"

" نعم كانوا ينصبون خيامهم هنا."

"وهل كانوا يحصلون على ترخيص؛ موافقة من الحكومة المحلية في مدينة العمارة؟"

" لا أدري، ولكنهم كانوا ينصبون خيامهم هنا، ومعهم صقور مدربة لقنص الحباري والحجل والقطا والغزلان، يستخدمون الصقور والكلاب السلوقية المدربة، وبنادق خاصة، يطاردونها بسيارات جيب سريعة."

أيدت ما قال السائق، فقد كنت أراهم يأتون في أوائل الربيع، يعبرون جسري الكحلاء والمشرح، في قافلة سيارات غريبة، مع عبيدهم وخدمهم، وكل ما يحتاجونه من لوازم ومؤن.

"أيمكثون طوال الربيع؟"

"حوالي الشهر أو أكثر احياناً، اعتمادا على سقوط الأمطار، فإذا كانت غزيرة، امرعت الأرض بالعشب وحشائش الحلفاء، وظهرت الغدران، فتتحول الفكة والطيب والشيب ودويريج الى مراع وحدائق غناء، زاهية بالزهر البري المتنوع الألوان، فينشط الصيد."

" يقولون إن البراري كانت غنية بالكمأ"

"صحيح لمن يبحث عنها."

"يقولون ايضا إنها تنبت في التربة، عند سقوط المطر، بعمق خمسة الى خمسة عشر سنتمترا، حين يخطف ضوء البرق صفحة السماء، وعندما يسمع صوت الرعد في الهواء."

"كان ابي يقول ذلك أيضاً، ولكني ما كنت أصدقه."

"أكنت تأتي معهم؟"

" مع من؟"

" مع الصيادين.."

" سأحدثك عن ذلك، ولكن بعد ان نعود الى السيارة قبل هبوط الظلام."

قبل مغادرة المكان، ألقيت نظرة أخيرة على الجبال البعيدة، التي اصطبغت لحظة المغيب بحمرة قانية، شعرت بحزن مفاجئ..

" هيا بنا لنعود."

وفي الطريق للسيارة، وقفنا على جسر غزيله، المكان الذي ستدور فيه معارك طاحنة، وأنه سيمتلئ بالدماء حتى تطال ركاب الفارس، نظرنا تحت الجسر، كان مجرى النهر الصغير جافا، وبعد أن جلسنا في السيارة، شرع السائق يحكي عن تلك الأيام الخوالي، كان الدخان الذي ينفخه من فمه في فضاء السيارة يرسم دوائر متلاحقة تتناغم مع ذكرياته، حينما كان لا يزال صغيراً يرافق أبوه في تلك الرحلات المدهشة.

كان الأب دليل صيد، يرافق شيخاً كويتياً، يأتي لهذه الأماكن كل سنة، عند حلول الربيع، لطم السائق جبهته، التفت اليَّ وقال نسيت اسمه، وحين يجئ الى مدينة العمارة؛ يبعث الى بيتنا أحد عبيده، وإسمه محبوب، ولما رآني ابتسم، بادلني الإبتسامة، قلت في نفسي لقد فطن الآن لسبب ابتسامتي، زفر من منخريه كمية من دخان سيجارته، ونظر نحوي ليتأكد من مدى اهتمامي بحديثه، ولما وجدني مستمعاً جيدا، تابع كلامه ...

كان هو أول من يخرج، فيرى امامه رجلاً اسودا ضخماً عملاقاً، وزمرة من الأطفال متحلقين حوله، يحملقون به، باندهاش ممزوج بالخوف، عندما يفتح الباب، كان محبوب قد تنحى جانبا، بعد الطرقة الثانية، وكانت الجارات يختلسن النظر اليه من وراء ستائر الأبواب، بشيء من الفضول والحسد المكبوت، كان محبوب يسأله عندما يراه، "أبوك في البيت يا ولد؟" فيجيبه وجلاً وبهزة من رأسه "إي موجود" وبصوت أجش تخرج من شفتي محبوب الغليظتين؛ كلمتين فقط "روح ناديه"، يظل خائفا، متسمرا في مكانه، يأمره بحركة من كفه الضخمة "روح ناديه، الشيخ يبيه"، يعود للبيت يخبر ابيه، يخرج الأب ويسلم على محبوب، ثم يقوم مع ابيه بمليء عربة الصهريج والزمزميات والجيركانات بالماء، وبعد ان يفرغا من ذلك، يذهبا للسوق لشراء بعض اللوازم الضرورية للرحلة، يضعانها بسيارة البيك أب، ثم يصعد ابوه إلى سيارة الجي ام سي الأمريكية، ويجذبه من ذراعه فيصعد ويجلس على يمينه عند النافذة، تنعطف السيارة من زقاق لآخر، حتى يفضي بهم الدوران لشارع بغداد، وفي أثناء مرورهم..

توقف السائق برهة عن سرد ذكرياته القديمة، مج بعصبية دخان سيجارته، أمسك بالعقب، بين أصبعيه المصبوغتين بصفرة داكنة، وقال بزهو موجع، لقد عرض الشيخ على أبي الجنسية الكويتية، وسكت برهة، فسألته، "هل رفضها!"  وبنبرة تنم عن ندم وغضب في آن واحد، قال "بل اعتذر، لأنه لا يحب مفارقة الوطن والأصحاب" قلت: "أنا أعرف المرحوم والدك" اكتفيت بذلك، لم أذكر شيئاً عن ماضيه السياسي، تذكرته عندما كان مقاوما شعبيا في عام 59، ومتحمساً في المظاهرات للزعيم أثناء فترة حكمة القصيرة، ولكنه في عام 63 انظم للحرس القومي، بعد انقلاب 8 شباط وإطاحة الزعيم وقتله، ولو أنه بقى حياً لأنظم الآن للجيش الشعبي، كان والده يتماشى مع كل الاتجاهات السياسية المتقلبة، مثله مثل السمكة التي تسبح في كل المياه، ولكن الأبن كان ساخطاً على ابيه، وصب جام غضبه عليه لسبب آخر، لأنه لم يتجنس كويتياً، فسألني: "هل ما فعله أبي يا أستاذ نوح كان صحيحاً!" قلت لا أدري، فقال: "لا تترحم عليه إذن، كان غبياً وقصير النظر، تصرفه دمر حياتنا، ولو بقى الانكليز في العراق لكان حالنا أفضل بكثير عما نحن عليه الآن، وقال: ولكي أبرهن لك ما قلت، أذكر اننا مرة، توغلنا كثيراً، واجتزنا الحدود لعدة كيلومترات داخل الأراضي الإيرانية، فأوقفتنا دورية حدود، اقتادونا لمخفر الشيب الايراني، وعندما عرف مأمور المخفر بوجود شيخ كويتي معنا، أتصل حالاً بالمسؤولين، وهيأ أماكن مريحة للشيخ وحاشيته، بينما رمانا أنا وأبي كالكلاب في غرفة الحجز، نمنا على أرضية كونكريتية قذرة و باردة، وفي صباح اليوم التالي أطلق سراح الشيخ وحاشيته، أما نحن فبقينا أكثر من شهر ثم افرجوا عنا، لكن بعد ان اخذ القمل يدب على جلودنا، ومنذ ذاك الوقت، لم يعد الشيخ يأتي للصيد، وانقطع مورد هام وهدايا كنا نتلقاها منه.." لم أقل شيئا، بقيت صامتاً حتى وقفت السيارة أمام بيتنا، ترجلت مودعاً السائق، وجدت الخالة الدهلة ام سعيد عند باب المنزل حييتها، ودخلنا معا، فوجدت امي تصلي العشاء، بدت ملاكاً تحت ضوء المصباح، بثوبها الأبيض، وبعد أن فرغت من صلاتها، رفعت يديها بالدعاء، كان قلبي يسمع كلماتها دون حاجة لصوت، ظلت جاثية برهة ولما رأت الدهلة معي، حاولت النهوض أسرعت اليها الدهلة، وألقت يداها على كتفها وأجلستها بهدوء، ثم قبلت رأسها، كانت أمي قد استحمت قبل الصلاة، فشمت صديقتها رائحة صابون الغار يفوح من شعرها، قالت لها قومي لأمشط شعرك، ساعدتها على الوقوف، ثم أجلستها على بساط صوفي باللونين الأبيض والأسود، زاخر بصور على هيئات آدمية وحيوانية، ورؤوس لطيور اسطورية، بدت لعيني كأنها كائنات هابطة في مركبات فضائية، سألت الدهلة أمي:

" هل أخضب شعرك بحناء الفاو التي جلبتها خصيصا لك."

" لا. لم تعد بي حاجة للتخضيب."

جلست وراء ظهرها وبدأت بتسريح شعرها الأبيض، بمشط خشبي، فَرَقَته من وسط الرأس، ومسدته بأصابعها وضفرت لها جديلتين، القتهما على صدرها، ثم لفت عصبة سوداء حول رأسها، أخرجت امي من جيبها قارورة عطر، ضمخت يدها ومررتها على جيدها، وناولتها للخالة للتطيب بها.

نقلتُ منقل النار من الطارمة الى الغرفة، بعد أن توهج الجمر وصفى تماما من الدخان، وضعت ابريق الشاي عليه، أخذت المرأتان تستمتعان بالدفء، وجلست على مقربة منهما، أرى وأنصت، لما يدور بينهما، لم تتكلما عن المرض، لئلا ان يكون الحديث عنه مؤلما، كأنهما تستنكرانه وتنفيان وجوده، وتستهجنان اقتحامه الأهوج وحشريته الفجة والفظة والمؤذية في حياتيهما، وكانت الخالة وهي تنظر الى أمي تستذكر مواقفها النبيلة، أيام الشدة يوم جاءت تبحث عن مأوى، وعندما سجن سعيد وانقطع المورد الذي كانت تعيش منه، قالت لها امي حينذاك "لا تبالي سنقتسم رغيف الخبز بيننا، هاتان المرأتان عاشتا معا في بيت واحد، حفنة سنوات كالجمر، لم تكن أمي تعاملها كنزيلة ومستأجرة، بل أخت تشاركها الحياة في السراء والضراء، والآن ترى أم سعيد العدو المتمثل بالمرض، يداهم صديقتها على حين غرة، وتخشى خطورته على العلاقة الحميمة التي توشجت بينهما منذ سنوات طويلة، وهي تعرف، إن سألتها عن صحتها، ستحمد الله وتثني عليه، وتقول لا تقلقي عليَّ، أنا بخير، سألتها أمي عن ابنها الذي اختفى، فلم تجب، تشاغلت بالنظر للجمرات التي اكتست طبقة خفيفة من الرماد، أعطاها ذلك التضاد الأبدي الرومانسي الحزين، بين النار والرماد، والحب والكراهية، تلك الثنائية التي بدونها تبهت الألوان، وتصبح لوناً واحدا منفراً، نظرت الدهلة لصديقتها عبر منقل النار، فتراكم في قلبها جبل هائل من الحزن المشبوب بالتحدي، وتسربت من أعماقه مشاعر عفوية ونبيلة، أعلنتا رفضهما للمرض الطارئ والمشاكس، وعدم الاستكانة للضعف والخوف، كانت الحياة التي مزجتهما وصبتهما في قالب واحد، صنعته مئات الطعنات، أقوى من الموت، وهي انشودة العذاب الذي تحترقان في سعيره المقدس.

رفعت الدهلة رأسها من نار المنقل.

" لا أدري أين هو الآن، حي أو ميت.."

تدخلت لأخبرها

" آخر مرة رأيته كان في بغداد، لكن سمعت انه التحق بالأنصار في الشمال."

سكتت تغالب عبرة خنقت صوتها المتهدج ثم قالت:

"أختي ادعي له، دعاء الانسان عند المرض والشدة مستجاب."

رأيت أمي تفتح قبة صدرها وترفع يديها، وقد أشرق وجهها بوهج النار.

" يامن رددت يوسف ليعقوب، رد سعيد لحضن أمه يارب العالمين."

نظرت أم سعيد في عيني صديقتها وأدامت النظر فيهما، دون أن تنبس، حتى أني سمعت صوت أنفاسهما أثناء الصمت، كانت تريد البوح بشيء، ولكنها آثرت الصمت، كانت دموعها محبوسة، تكاد تطفر من عينيها التي اطبقت عليها الجفنين، وفجأة انفجرت باكية، بعد ان تحرك الحزن الذي أثقل قلبها، وحرك مشاعرها، وقد أربكها مرض صديقتها، وأطاحها بضربة ترنحت من شدة قوتها.

كم هي قاسية الحياة، عندما تمد حبلها على الغارب، وتغرر بالخلق، وفجأة تمسكهم من خناقهم، وتصفعهم صفعة مدوية، يطيش لها صوابهم، وتفقدهم توازنهم، تأخذهم أخذ عزيز مقتدر، فلا يملكون لأنفسهم شيئاً، حقاً صدق من وصفها بدار الغرور.

رفعت الخالة ام سعيد راسها وقالت بصوت قوي، كأنه يأتي من سيد مطاع ومجاب:

"خذوني معكم حينما تذهبون الى بغداد، اريد ان أبقى معها."

وأضافت بعد برهة..

"  لن اضايقكم، سآخذ معي ما يكفي من النقود."

تأثرت من كلامها.

"أنت يا خالتي بمنزلة أمي، أنا أحبك ولا أتضايق إطلاقاً من وجودك معنا."

أقنعتها بصعوبة بأن ظروفنا لا تسمح الآن، كما ان العروسين لا يزالان في شهر العسل، وهما بأمس الحاجة اليها، توقفت قليلاً لأسترد سيطرتي على انفعالي، ولكني وعدتها اني سأعود لأخذها حالما تحين الفرصة، فصدقتني على مضض، ومع ذلك شرعت تبكي لإحساسها بالهزيمة، فتوسلت أن تكف عن البكاء، لئلا تتأثر أمي، التي هي بحاجة لمزاج نفسي معتدل، مراعاة لحالتها الصحية، لكنها لم تستطع كبح جماح نفسها، وأدركت ان طلبي مستحيل، لأن بين هاتين المرأتين نوعاً من الاتصال الروحي الوجداني، لم أكن حتى تلك اللحظة قد فهمته، أو سبرت غوره، فوجدت أمي تنخرط في بكاء مرير، تناثرت الدموع وتساقطت من عينيها الصغيرتين المليئتين بالحزن العميق والأسى المجهول، كان علامة ذلك الجيشان العاطفي، الذي اعتدت عليه دائماً في حالات كهذه، احمرار أنفها، الذي تمسحه بطرف شيلتها بين الفينة والأخرى، مختنقة برعدة تنفثها لهيباً حارقاً من صدرها المكلوم، الذي بدأ المرض الخبيث ينفث سمومه القاتلة فيه، وينهش لحمه، دون ان تكترث له، استخرجت من السفط المصنوع من الصوف الملون والقش الذي كان يرقد فيه عطرها المفضل، التقطت أصابعها حلية صغيرة على شكل مكعب ذهبي، مزخرف بالميناء السوداء ومشبك بداخله قرآن صغير الحجم، وفي عروته دبوس صغير، وضعته في كفها، ولمسته ملياً، ثم قبلته، وقالت وقد ارتسمت ابتسامة أضاءت وجهها الأبيض.

" هذا القرآن كان على صدر نوح خذيه واحتفظي به لحفيدك، ضعيه على صدر المولود، قولي عين الحسود بيه عود.."

احتضنتها الدهلة وقبلت راسها، وكانت الخالة في تلك اللحظة ممتنة لصديقتها السخية، تركتهما يبثان ما في نفسيهما من أسى وغدر الأيام، أدركت مدى الحب الذي تكنه الخالة لأمي، وكم هي الحياة تافهة وجافة وعديمة المعني بدونه، وما أن ابتعدت عنهما، حتى سمعت موجة نحيب ورنة جرس صوتيهما ترتفعان وتنخفضان تدريجياً حتى تلاشيا كموجة تتكسر على الشاطئ.

ذكرني بكاء الدهلة، بيوم آخر، يوم ترك سعيد العمل بالمطحنة، واشتغل سائقاً، وألقي القبض عليه بسبب نقله بريد الحزب الشيوعي، أودع  سجن مديرية أمن العمارة، ذهبت مع الخالة الدهلة، لمقابلة رئيس عشيرتها ليتوسط لإطلاق سراحه، جلست الدهلة على أرضية غرفة الاستقبال المفروشة بالسجاد الكاشاني الفاخر، وجلست أنا على أحدى قنفات الصالة، وانتظرناه طويلاً، ولما يئست من حضوره، سألت أحد خدمه، فقال لها أنه مشغول جداً هذا اليوم، تعالي غداً، وعدنا للبيت، وفي الغد ذهبنا معاً، ولم يخرج لنا رئيس العشيرة، وتكررت محاولاتها الفاشلة لمقابلته عدة مرات، وفي المرة الأخيرة ذهبت معها، بكت مترنمة بنعاوي الريف الحزينة، التي تفطر القلب، وأعولت وناحت، كحمامة جريحة، وعندما حاول الخدم طردها تشبثت بالكراسي والكنبات، ونزعت عصبتها السوداء ورمتها، عندها خرج الشيخ مجبل، جلس في الكنبة المخملية الوثيرة الحمراء، وأرخى كفه اليمنى المكتنزة على ذراعها المذهب، قامت لتقبيل يده، أشاح وجهه، حاول ان يسحب كفه، لكنها تمسكت بها، قابضة عليها بأصابعها اليابسة، وبكفها الموشوم للمعصم، فلم يستطع الرجل أن يحرر يده من قبضتها الفولاذية، قال غاضباً "إتركيها. قولي ماذا تريدين؟" هو يعرفها جيداً، امرأة تعادل عشرة رجال، بشكيمتها، أرخت قبضتها، فسحب كفه المضغوطة بسرعة، وأخفاها بين فخذيه الممتلئين، ورغم معرفته بسبب زيارتها، تظاهر بأنه يتجاهل الموضوع الذي جاءت من أجله، وكرر تساؤله واستغرابه من وجودها في بيته، وتبجح أمامها أنه شخصية هامة، وأن ليس لديه وقت، فهو على موعد بعد قليل مع المحافظ ومدير الأمن، لم تفوت الخالة تلك الفرصة، وتوسلت اليه أن يتوسط لإخراج ابنها الموقوف، استهزأ وتهكم بها، وتظاهر أنه لا يعلم شيئا عن تهمة ابنها، فقالت: "مصير ابني سعيد بين يديك،" فقال: "يا عجوز السوء، لست أنا سليم الخماش، إذهبي اليه أن كانت لك حاجة عنده" كانت تعرف مدى تأثيره ونفوذه، لكنه أمعن في إذلالها وشتمها، ونعت ابنها بالشيوعي العميل، والكافر الملحد، وانه يستحق الأعدام" دافعت الخالة عن ابنها بشراسة، وسألته :

" من قال إنه كافر!" رد عليها "هو كافر ومهدور الدم، بنظر الدين وفتوى المرجعية، توسلت اليه بوجع الأم التي تخاف على ابنها من غدر أقوياء اليوم، شاكية له، إن لم يساعدها وهو يمتلك الآن السلطة والنفوذ، فلمن تذهب:" ألست رئيس عشيرتنا! قال "عودي لبيتك الآن، وسأخرجه، ولكن ليس من أجلك، وإنما لا أحب ان يلوث سمعتنا" وعندما خرجنا من ديوانه، سألتها ونحن في طريقنا عائدين للبيت:

" ألم تلاحظي يا خالة كفة الكبيرة، لقد ضاعت كفي تماماً فيها عندما صافحته فكيف استطعت عصرها!"

"كانت منفوشة مثل شليله صوف كبيرة وناعمة، ولكنها رخوة."

ضحكنا بجذل طفولي، ونحن نستعيد الأحساس بملمس الكف الإسفنجي لشيخ العشيرة المتغطرس.

وبعد تلك الزيارة، أُطلق سراح سعيد، وكانت الدهلة قد طبخت طعام الغداء بهذه المناسبة، فدعتني وأمي، وقبل الطعام، ثار جدل عنيف بين سعيد وابن عمته كاظم الذي كان آنذاك طالب يواضب على الدرس الديني، حاولت الدهلة تهدئتهما، ولكن لم تفلح، كاد الجدل بينهما ينتهي بعراك، لولا تدخلها القوي، الذي حسم الموقف، لعنت الشيطان الذي تعتقد انه وراء كل خصومة تنشب بين الناس، وتلعنه هكذا: " العنوا ابو مره."

ومع أنهما جلسا هادئين بانتظار الطعام، لكنهما خاضا مرة أخرى بموضوع حساس فسعيد يشعر بمرارة وغضب جراء ما تعرض له من تعذيب قاس كان يصفه بالمهين، فقد أفقده التعذيب إنسانيته، عاملوه كحيوان محبوس في قص حديدي، يجلد بانتظام بالكيبل، ويبصق في وجهه كلما أراد الذهاب للمرحاض لقضاء حاجته، لقد ثلم التعذيب شيئاً من رجولته يخجل البوح به، ربما مارسوا معه ما هو أبشع من قلع الأظافر، الخازوق العراقي، وهو قنينة مكسورة الراس يقعدون عليها السجين..

تحدث عن رفيقه الشيوعي المندائي الموقوف معه، والذي كان يستهزئ بهم بعد ان أن يعيدوه من التعذيب، ورغم انه كان يتألم بصمت لم تند له صرخة، حتى أن سعيد راح يشك بأنهم ربما كانوا لا يعذبونه بنفس القسوة كما يعذب هو، فسأل مرة أحد الجلادين، لماذا تعذبونني أكثر منه! ضحك الجلاد وسخر منه قائلاً:

"لأن رفيقك ابن كلب، أما أنت فابن سطعش كلب."

شعر سعيد أن كاظماً، لم يكن سعيداً بإطلاق سراحه، فالرجلان كانا على طرفي نقيض، وعندما أنحى سعيد باللائمة على المرجع الديني الذي أفتى بهدر دم الشيوعين لأنهم برأيه كفرة ملحدين، دافع كاظم عن المرجع الديني، وأيد الفتوى واعتبرها صحيحة، غضب سعيد جداً، وتساءل، هل انحاز الله الى جانب البعثيين ضد الشيوعيين، وأعطى الأذن بقتلهم، أم أن المرجع هو الذي إعطائهم الضوء الاخضر..

نهرتهما الدهلة، وأحضرت لنا الطعام، قالت اذكروا اسم الله حين تشرعون بالأكل، لن اسمح لاحد بالكلام، وقالت شيئاً أتذكره الى الآن، ابتهلت الى الله أن يعاقب كل من كان سببا لهدر دماء الأبرياء، وإن كان المرجع الديني، وأن يظهر حوبتهم به وبأبنائه.. رد عليها كاظم مستنكراً، تجاهلته وتوارت في عتمة الحجرة، لإحضار شيء طرأ على بالها تلك اللحظة..

كان الجدل السياسي يحتدم حتى بين أفراد الأسرة الواحدة، نتيجة للتقلبات السياسية المتعاقبة.. الناس منقسمون دائماً، تساءلت الدهلة " قولوا لي ماذا يريد ابن آدم من هذه الدنيا؟" انتظرت فوجدتهم صامتين، لم يحر أحد منهم جوباً، نظرت لكاظم، توقعت منه أن يقول شيئاً بإعتباره سيكون قريبا رجل دين، لكنه ظل صامتاً.. أكملت الدهلة.. “اليس كل ما يحتاجه، هدم يستره حياً، وذراعين من خام ابيض لكفنه ميتاً!"

علقت ضاحكاً..

"أما عاشور المخبل، فيكفيه ذراع واحد يا خالة.." ضحكنا جميعاً كالأطفال.

الدهلة أم سعيد التي شاكستها الحياة كثيراً، شبكت كفيها على رأسها المعصوبة بعصبة سوداء، كأنها أرادت أن ترى مدى تقبلهم لما قالت قبل قليل، لقد وضعت كفيها فوق ذلك الجرح النازف منذ القدم، عبرت عن رؤيتها لحياة الأنسان، ببساطة وعفوية وصدق، أحسن من بعض أئمة الجوامع الذين يرفعون عقيرتهم بالصراخ، الذي يصم الآذان، من دون أن يقولوا شيئاً قيما ومفيداً للناس، وكأن الدهلة ام سعيد لم تستطع أن تكمل كلامها، فتقول: " ولقمة تسد الرمق غير مغموسة بالدم، وقبر يرقد فيه الميت، ولكن لا يدفع اليه دفعاً..

كنت تلك اللحظة من الزمن الماضي، أريد أن أدخل تلافيف مخها، لأفهم ما تفكر به، وأعرف هل أن العري الذي نخجل منه، هو عري الجسد أم عري الروح، وعري الحقائق المتلبسة بالأوهام المتساقطة كأوراق الخريف..

انشغل الجميع بالطعام، ولكن سعيد كان يقرب اللقمة من فمه ويتوقف طويلاً، ربما لأنه يتذكر بمرارة إهانات السجان المتعمدة خاصة عند تقديم الطعام في مديرية أمن العمارة.

 

صالح البياتي

..................

حلقة من رواية: بيت الأم

تنشر لأول مرة على صحيفة المثقف

* جسر غزيلة: بحسب نبوءة العراف، المكان الذي تدور فيه معارك طاحنة، وتسيل فيها الدماء حتى تصل الى ركاب الخيال.

يتبع

إنتهى الفصل الثاني

شكرا لمتابعتكم

 

في نصوص اليوم