نصوص أدبية

أجنحة طيور تائهة

صالح البياتيعندما خرجت الخالة أم سعيد، وهي مسرورة بالهدية الثمينة، سألت أمي فيما إذا اخبرتها اين يختفي ابنها، بهزة نفي من رأسها، علمت ان الخالة لم تقل شيئا، فتساءلت امي، ألم تقل أنه التحق بالأنصار في شمال العراق، فكان جوابي أنه مجرد توقع لا أكثر، وأني لست متأكد، بعضهم فروا للشمال، والبعض الآخر التجأوا الى إيران قبل سقوط الشاه، ليتم تهريبهم بعد ذلك الى الاتحاد السوفيتي، ومن لم يستطع الهروب وهم الأكثرية، بدأوا يلمونهم ويزجونهم بالسجون. ضحكت، فسألتها:

"ممَ تضحكين!"

  فراحت تتعجب من زماننا هذا.. يغرفون الناس فيه كالسمك من الماء، وتَذَكَرتْ زمنها، أيام الزره*، كانت البنات الحديثات*، يجمعن بثيابهن؛ صغار السمك الزوري، العالق بين الزروع، كن ينتظرن موسم  الفيضان كل عام لأنه يشبع بطون الجميع قلت بسخرية:

"الفرق بين الزمنين كبير جدا، في زمن سليم الخماش السمك أثمن من الإنسان، ولكن برأيك ماما، أي الزمنين أحسن؟"

" لست أدري، اسأل الناس وسوف تعرف."

وعيت منذ وقت مبكر، أن أمي كانت تريد أن تؤصل فيَّ فضيلة الصبر، لأنها تعتقد أن التحلي به؛ يمنح المرء قوة على احتمال ما في الحياة من مفاجآت مؤذية، وبه يستطيع الإنسان أن يحصل على فضائل آخرى، منها الحكمة، والشجاعة، وفوق كل ذلك الرضا، فالإنسان بحسب فلسفتها الفطرية، لا يأخذ أكثر ولا أقل مما يحتاج،وحكمتها أنك لوأخذت أكثر من حاجتك او ما تستحق، لوجدت أن الزيادة ستعود عليك بالضرر، وكانت تردد على مسامعي هذه العبارة "الذي لديه الكثيرلا يملك، والذي لديه القليل لا يهلك، إقتنع بما قدره الله لك من الرزق، ترح نفسك".

كانت تحكي لي عن معاناتها، ولكن دون شكوى، وعندما تراني اتقاعس عن عمل نويت القيام به، تحثني حتى انجزه..

 في ريعان الشباب فقدت الزوج، قُتل بمعركة بين الجيش والكرد، بعد بضعة أشهر من زواجهما.

تختزن في ذاكرتها حكايات كثيرة، لا أعلم من أين استقتها، في طفولتها المبكرة، ختمت القرآن في العاشرة من عمرها، وكانت منذ عهد قريب تمد حصيراً تحت الطارمة، وتفرش فوقه أبسطة من الصوف وتضع وسائد مريحة، وتدعو نسوة الزقاق، فتقص عليهن فاجعة الطف، فيرتفع النواح والأنين عالياً على السبط الشهيد، وكانت نساء الزقاق النائحات في هذا المأتم الحزين، يواسين زينب بأخيها الحسين.

 وكن يأتين الى بيتنا، في مناسبات آخرى غير الدينية، يعقدن مأتم بدون ميت، يتناوبن الأدوار في أداء سمفونية الحزن الجنوبي، تبدأ إحداهن فترنم النعاوي الشجية، ثم تعلو نعاوي الدهلة أم سعيد، كأنها القدر الصارم، ينشر كتائبه السوداء، تشكو بلسان حالها، متمثلة نفسها، واقفة أمام باب تطرقه فتجده موصداً بوجهها، فتتساءل هل تعود أدراجها أم تنتظر حتى يأتي من يفتحه لها، ولما يطول انتظارها وتيأس، تدرك أن السبب ليس غياب أهل البيت، بل هو إنقطاع حبل المودة، أو تتخيل نفسها في ترنيمة أخرى أن زائراً من الأحبة جاء يطرق بابها ليلاً، وحين تقوم متلهفة لفتحه لا تجد سوى ريح  كاذبة كانت تصفع الباب بعنف، فترجع خائبة ..

سمعت تلك النعاوي الحزينة، يتردد صداها في أرجاء البيت، تقطع نياط القلب، كأنها أجنحة طيور تائهة مهاجرة، تفتش عبثاً عن مجثم آمن تحط عليه، بعد رحلة طيران طويل ومضن، فلا تجده.

كانت الدموع تنهمر من عيني سخية ساخنة، كلما سمعت تلك السنفونية الجنوبية الحزينة.

أحياناً تحكي امي الحكاية التي لن تنساها أبداً، تبدأ بطفولتها فتسرد الحكاية:

لم أكن قد أكملت الثانية عشر، حين تطلقت أمي، فأخذني مع أختي الصغيرة ذات الأعوام الأربعة، أقاطعها مستفسراً: "أماه من أخذك؟" فتقول: "هو.. جدك الظالم " فأفهم أنها تقصد أبوها، لأنها لا تحب أن تلفظ اسمه، حتى أني كنت أجهل اسمه، فتكمل، أخذنا الى بساتين النخيل في البصرة، كان الصيف شديد الحرارة، وكان يعمل أجيراً لقطف التمور وكبسها بطرق بدائية، في أماكن رطبة، قذرة، يعج فيها الذباب والبعوض، كنت أطبخ طعامه، وأعد له الشاي، وأغسل ملابسه، وبنفس الوقت أعتني بأختي الصغيرة، وعند استراحة صلاة الظهر، كنا نجلس تحت ظلال النخيل، وفي الليل كنا نستتر داخل خص مبني من جريد النخل وحصير القصب، مكشوف لسماء تومض بنجوم بعيدة، مضاء بفانوس شحيح النور، وفي هذا المكان مرضت الصغيرة، أصيبت بحمى التيفوئيد، كانت امرأة عجوز تعمل لها شرابا من الأعشاب، وتسقيه للطفلة المحمومة، لم يجد العلاج نفعاً، وفي ليلتها الأخيرة، فقدت وعيها وماتت بين يدي عند الفجر. منعني من البكاء، دفنها بعيداً عن المخيم، تحت أصل نخلة وغطى قبرها بالسعف اليابس.

لم تنس أمي تلك الحادثة، التي لم يستطع الزمن الطويل أن يُدَثرها بنعمة النسيان، كانت تعيدها على مسامعي المرة تلو الأخرى، بنفس الوتيرة من الحزن والألم، كأنها حدثت بالأمس القريب، فتقول كل مرة، عندما تنهي الحكاية، كتمت صرختي في صدري تلك الليلة، ولا تزال مكتومة كل تلك السنين الطويلة، وعندما أسألها:

" أماه ألم يحن الوقت لتطلقيها من سجنها!" كانت تقول:

" مصيبتي لا شيء، بالنسبة  لمصيبة السيدة زينب."

وحين أتساءل:

" أماه، ألا تنسين تلك الحكاية!" تقول:

" كيف أنساها!، صحيح النسيان فيه شيء من الراحة للإنسان، ولكن فيه أيضاً شيء من الإهمال وعدم الوفاء لمن نحب."

فجأة وجدت نفسي أُوقف شريط تلك الذكريات، مندفعا لحجرتها، أسألها عن حناية جارتنا القديمة، قالت مستغربة:

" من ذكرك بها الآن!؟"

" تنورنا الخامد منذ سنوات.."

"هاجرت الى بغداد، وإنقطعت اخبارها، لا اعرف عنها شيء.."

استلقيت على سريري، فتحت كتابا، لمجرد أن أكبح جماح أفكاري، انزلق الكتاب بين ركبتي كنت أنصت لصوتها عند التسبيح، تخافت فلا يُسمع سوى طقطقة خرزات المسبحة بين أصابعها، تنتهي من تدويرها، فتعيد الكرة، المرة تلو الأخرى..

أنا الذي أدمنت التأمل، أعتقد أن الأفكار أحيانا تكون عدو للإنسان، ويجب الحذر منها، ففي المثلث المنكوس على رأسه المسمى وطنا، تنتحر فيه الأفكار عندما تلامس الواقع، فتموت كمدا من تلقاء نفسها، وكلما كنت أندفع شوطا في تأملاتي، أزداد خوفا، وأتمنى أن أكون مثلها بهذا القدر من الأيمان والتسليم، فأرتاح من التفكير، الذي أورثني الاضطراب والقلق، واضطرني لأخذ الحبوب المنومة، للتغلب على الأرق الذي لازمني  منذ مرضها، لم أعد أحلم بشيء جميل، لأن الأحلام احترقت هذه الأيام كفراشات هائمة حول اللهب، في مدينتي التي لا تثير أنتباه العالم، لا يحق لأحد من أبناءها أن يحلم، أو يرسم صورة خيالية لمستقبل يتمناه، او يمني النفس بتحقيقه، أو يكتب قصيدة غزل تشعل النار في دمه، أو يموت ويدفن بجوار من يحب .. ممنوع عليك أن تقرأ كتابا يخالف اديولوجية الحزب الحاكم، منذ أن تسلم الرئيس الجديد السلطة، ليبقى الى الأبد..

في هذا المكان الشرس، ثمن الأنسان عدد الرصاصات التي تقتله، الأنسان في هذه الأرض مخلوق بائس، جاء للحياة صدفة، أوهو كأي عود يابس، يحطب عن الحاجة، لا تستطيع كائنا من تكون، أن تقول لسليم الخماش أنا أختلف معك بالرأي، لأنك قبل أن تلفظ تلك الكلمات، ستقول لنفسك طز.. من أنا! من أكون، وماذا يساوي رأيي مقابل رأيه..

تجادلت يوما مع نفسي، حينما نلت درجة الماجستير بمرتبة الشرف، وأخذت أخطط لنيل الدكتوراه، وإنضممت الى الحزب الحاكم، لأن الإنضمام اليه من ضمن الشروط للحصول على بعثة دراسية، تساءلت بمرارة، هل عليَّ أن أفرح لأني سأنال درجة علمية عالية، يتمناها الكثيرون، أم انها لا تستحق كل هذا العناء والتعب والدراسة، في بلد فيه يد العالم مغلولة ويد الجاهل مطلقة، وما قيمة شهادتي الجامعية في بلد لا قيمة ولا كرامة فيه للعلم وللعلماء، كما في بلدان العالم المتقدمة والمتحضرة.

سمعت أمي ترفع صوتها بعد ان أنهت أورادها وتسبيحاتها: الحمد لله، رددت وراءها بلا وعي.. الحمد لله والشكر لله على كل حال ومآل..

 

صالح البياتي

..........................

الهامش

- حلقة من رواية: بيت الأم، تنشر لأول مرة على صحيفة المثقف

* (الحديثات)، بلهجة الريف الميساني، تعنى البنات الشابات.

* (الزره)، موسم تكاثر السمك، و(الزود)، يعني ارتفاع منسوب المياه في الأنهر

يتبع

شكرا لمتابعتكم

 

في نصوص اليوم