نصوص أدبية

ترويج نبوءة العرّاف

صالح البياتيقبل سفري الى بغداد، ذهبت لموسى الكيال لأودعه، فوجدت عنده صديقه القديم الحاج سبتي الزبون، تاجر الأقمشة المعروف، لهذا الرجل المحترم، مودة خاصة في نفسي، لما قام به قديما، من عمل طيب معي، لا زلت اتذكره عندما اراه امامي.

 كانت أمي تفكر بهدية تقدمها لي، بمناسبة تخرجي من الجامعة، واستقر التفكير أخيرا على قطعة قماش، بدلة التخرج، أعطتني عشرة دنانير، وقالت، اذهب لمحل القماش الحاج سبتي واختر ما يعجبك، وبمساعدته انتقيت قماشا صوفيا فاخرا، ازرقا فاتح اللون، مقلما بخطوط طولية زرقاء افتح قليلا، علامة العلمين الأنكليزية المشهورة، لم يقبل الحاج أن يأخذ مني الثمن، ولما وجدني مصرا على الدفع، قال سآخذ منك خمسة دنانير فقط، ولكن ستكون خياطة البدلة على حساب المحل، ثم أتصل بالخياط وأوصاه أن يعتني بفصالها ولا يأخذ شيئا مني، بعد أن وضع سماعة التلفون، قال مبروك أبني على التخرج.

صافحتهما، وتبادلنا تحيات المجاملة التقليدية عن الصحة والأحوال، وسألت الحاح سبتي عن سير العمل  فحمد الله وشكره، جلست وقلت مع نفسي الحمد لله، هي بلسم شاف لكل مشاكلنا مهما عظمت أو كانت مستعصية، فهذه الكلمة مفتاح السر للراحة النفسية، ما لم تتحول الى مخدر، يقتل فينا العزيمة والجرأة والإقدام والاقتحام.

كنت في صالة الاستقبال، أبتسم لأن الرجلين كانا يضحكان بعفوية، والكيال كان متحمسا ليطلعني على ما دار قبل يومين في مكتب سليم الخماش، حينما استدعاه للمرة الثانية، ليسأله عن العراف المندائي، فسألته:

" وماذا قلت!؟"

" لم أقل شيئا، انت تعرف أنا لا أصدق أساساً بوجوده."

وراح العجوز يسرد بالتفصيل كل ما رأى وسمع ودار في مكتب مدير الأمن، إبتداءاً من استدعاء ضابط الأمن فاخر خريبط، والسؤال عن المندائي الذي يتناقل الناس اسمه هذه الأيام، فزوده الضابط بالمعلومات التي جمعها عنه، وأضاف أنه كان شخصيا مهتما بالأمر، وينتظر ان يهتم مدير الأمن بأمره ايضا، سليم الخماش نفسه، ولما سأله المدير:

"ولماذا اهتم به ، ولأي شيء؟"

" الموضوع سيدي يتعلق بالحرب."

" أي حرب!"

 " الحرب التي ستشتعل قريباً."

قاطعت الكيال مستفسراً عما حدث بعد ذلك؟

"غضب الخماش، وصرخ بعجرفته المعروفه بوجه الضابط: نحن الذين سنحدد متى وأين ستشتعل، نحن نختار المكان والزمان"

 ثم أمره، أن يذهب ويلقي القبض على العراف، ولما قال الضابط "أنه غير موجود، عاش ومات في اواخر الدولة العثمانية" غضب الخماش وهوى بكفه بعصبية على المنضدة، مستنكرا إهتمام الناس بعراف مات منذ سبعة عقود من الزمن، فكر وهو يعبث بشاربه الأسود المسترخي على شفتيه، وأمر الضابط ان، يذهب فورا ويحضر له الشيخ زهرون، شيخ الطائفة المندائية.

   وقبل ان أغادر بيت الكيال، أحطت علماً بكل التفاصيل.. رسمت صورة خيالية، مزجت فيها ما شاهده الكيال واقعياً، وما استوحيته من سرده المفصل، فكانت كالآتي:

الشيخ مَثُلَ أمام المدير في خلال نصف ساعة، وحكى له عن سر تلك الحكاية القديمة، قائلاً "ان المندائي سنيجر، المنسوبة اليه تلك النبوءة الكاذبة، تنبأ بمعركة تندلع بين عشيرتين في اعماق الهور، وسماها "طرقاعة"، وهي بلهجته الميسانية تعني مصيبة، تصيب عدد محدود من الناس، بينما أهوال الحرب أعاذنا الله من شرها، تصيب الشعوب.."

استغربت من دقة تفاصيل الكيال، فلم يترك شاردة ولا واردة، حتى ملاحظة الابتسامة الساخرة التي كانت تعلو شفتي الشيخ المندائي، وهو يوضح لمدير الأمن، الفرق بين الحرب والطرقاعة، وينسب الحرب للشيطان البارع في تأجيج نيران الحروب بين البشر..

قلت:

" سليم الخماش هذا أنا اعرفه إنسان متعجرف؛ وغريب، ولا يعرف شئ عن تاريخ مدينتنا، وأن ما شاهده الكيال، من انقلاب مزاج المدير، وإربداد وتجهم سحنته، انما هو تمثيل.. واصفا المشهد، كما لو أن الخماش قد رُشِقَ بحفنة رماد حار في وجهه، وكان سبب ذلك، عندما تطرق الشيخ زهرون لذكرعالم  فيزياء مشهور من أبناء طائفته ومدينته العمارة، من دون أن يفصح عن اسمه، قال عنه: إنه رفع اسم العراق عالميا في الأوساط العلمية، وأنه كان تلميذاً وصديقاً  لأنشتاين..  وكيف ان الخماش  قاطعه بخشونة، "لا تكمل.. نحن نرفع شأن من نريد ونحط  حظ من نريد، افهمت!"

فهمت سبب غضبه، لأن الشيخ كاد أن يذكر أسما لامعا ً لعبقري عراقي من أبناء طائفته، وسليم الخماش لا يطيق سماع أسماء لامعة لرجال مشهورين، تخطف الهالة المصطنعة حول الرئيس.

خاطبت نفسي، إذن يا نوح لهذا السبب اسكته، لأن الخماش لا يعترف بعبقري آخر غير سيده، وعندما وصل سرد الكيال لهذه النقطة المثيرة في حديثه، اراد ان يلفت انتباه صديقة الحاج سبتي، فطرح عليَّ سؤالا عن قصة  قلم الحبر الذي اهداه انشتاين الى تلميذه المتفوق عبد الجبار عبد الله، فأدليت أنا بدلوي، وقلت لهما هذه قصة مؤلمة أخرى، فالقلم الذي كان يعتز به الدكتور جدا، ولا يستعمله الا نادرا، يوقع به شهادات التخرج، كان في جيبه اثناء اعتقاله، وسُلب منه عندما كان محتجزا في معتقل النادي الأولمبي عام 63، كما وأنه أُهين وأُجْبرَ على تنظيف المراحيض. وأن الذي نقل لي هذه الحادثه، واحد من المعتقيين معه، قال ان البروفيسور عبدالله، تألم كثيرا، ودمعت عيناه عندما شتموه واخذوا القلم عنوة منه.. أليس هذا شيء مؤلم.!، حين ختمت كلامي بتلك العبارة،  تساءل الحاج سبتي مستنكرا، عن ذاك الحقيرالذي تجرأ عليه بهذه الوقاحة، فقلت للأسف يا حاج، واحد من طلابه الفاشلين في الدراسة..

مؤلم جدا...

 "عندما تكثر الطعنات يا حاج،  يصبح الألم اشبه بالدغدغة.. فنضحك بدلا من البكاء."

تألمت للشيخ زهرون، الذي كان تلك اللحظة، في أشد حالات الحرج.. وفكرت بما كان يعتمل في نفسه، لا بد أنه كان مرتبكا وخائفا.. مطرقاً كالأسير في  قبضة آسره.. اثناء تبجح سليم الخماش كعادته بالرئيس.. أكد لي الكيال انه عظَّم سيده، حتى كاد يرفعه الى مقام الإلوهية، والعياذ بالله..

عرفت ان سليم الخماش بدون الرئيس لا يسوى عقب سيجاره، ولهذا السبب يعظمه، ومن خلاله يعطي لنفسه قيمة وأعتبارا، لا وجود لهما، وأهمية لا يستحقها.

وصف لي الكيال التوتر الذي خيم تلك اللحظة.. وكيف استعاد المدير هدوئه والسيطرة على انفعاله بسرعة فائقة..

فهو حقيقة، كما وصفه الكيال،  يغضب بسرعة ويسيطر على غضبه بسرعة أكبر، وأنه بعدما أستعاد هدوئه، أراد أن يسترضي الشيخ ويقنعه، بترويج نبوءة العراف بين الناس، رغم تكذيب الشيخ المندائي لها، ولكن بقلبها رأسا على عقب، يا له من ماكر..كان يريد أن يوهم الناس بأن المندائي تنبأ بأن الحرب هي إرادة إلهية، وعندما تنتهي سريعا، سيكون النصر حليف الرئيس..

خرج الشيخ المندائي من مكتب سليم الخماش، ولم  يعد  بشيء، تصرف كما ينبغي أن يتصرف الحكماء، في موقف كهذا مع رجل سلطة، كان الشيخ  أثناء هذر الخماش  وهذيانه، وهياجه، ينود برأسه بحركة خفيفة، هادئا وقوراً، لم ينبس بكلمة، كانت لحيته الطويلة البيضاء تهتز فتلامس صدره وتقبله.. كأنها تبعث رسالة رفض واضحة، ولكنها غير مفهومة، لأولئك الذين لا يفهمون إلا لغة القوة والغطرسة والعنف، ربما ألتبس الأمر على المدير، فهمها خطأ، على أنها تعني القبول، وعند توديعه حذره من تجاهل الموضوع، وأغراه بالمكافأة، ولكن الشيخ المندائي رمقه بنظرة لا تنم عن الخوف، فيها شيء مزيج من الشفقة والاستهزاء..

ختم الكيال كلامه:

"هذا كل ما دار في مكتب المدير قبل يومين"

لم يترك الكيال شاردة أو واردة، في ذاك اليوم، الذي سبق دورة السنة الجديدة، دون أن يقصها بالتفصيل.

استأذن الحاج سبتي، ودعنا وذهب، قال  الكيال وهو ينظر مباشرة في عينيَّ، مع ابتسامة خجل ترف على شفتيه:

" أبني نوح، الحاج سبتي، أرمل مثلي ماتت زوجته منذ سنوات، وعنده سيناء ابنته الوحيدة، شابة جميلة، صحيح هي أصغر منك، لكن فرق العمر ليس مشكلة، الرجال غالباً يتزوجون من نساء أصغر منهم سناً، أكملت تعليمها الجامعي بكلية البنات، وتدرس اللغة الا نكليزية في اعدادية البنات، منذ أربع سنوات، أبوها يخاف أن يضيع مستقبلها بالتسفير، وهو يحبك، توقف الكيال برهة، وركزنظرته على عينيَّ، وأتم كلامه، "الأب يرغب بتزويجها لك قبل فوات الأوان.." قاطعته:

"انا اعرف الحاج سبتي رجل طيب، وانا احبه ايضا.. وابنته سيناء يتمناها كل شاب، ولكن انت تعرف يا حاج سبب إعراضي عن الزواج، والآن أُضيفَ سبب آخر، مرض امي، قل للحاج، ألا يضطر لتزويج ابنته الوحيدة بهذه الطريقة، من واجبه كأب أن تكون معه، ان يحميها اينما ذهب، مستقبلها ان تتزوج في ظروف أحسن، أنا مستعد لمساعدته، لكن ليس في هذا الموضوع."

" لن أقول له شيء، سنترك الموضوع لوقت آخر بعد عودتك من بغداد، لعل في التأخير خير إن شاءالله."

عدت لمنزلي أفكر بسيناء التي بات مصيرها متعلق بالتسفير، وفكرت بموسى الكيال الذي ناداني لأول مرة بكلمة ابني، لم أستغرب، لأن ذلك شيء متعارف عليه في مخاطبة الكبارلمن هم دونهم في السن، رحت أحدث نفسي، فلو أنني قبلت العرض، فسوف لن يكتفي التاجر بذلك، سيحملني مسؤولية أكبر، ممتلكاته وامواله، ولكن لا، لم يعد بإمكان  التبعية أن يتصرفوا بممتلكاتهم بالبيع المباشر، أو عن طريق توكيل الغير، لقد أُغلق هذا الباب بوجههم أيضا ً، ربما هو يفكر، بأن أمواله في حالة زواجي من ابنته ستكون لنا ولأبنائنا الذين هم أحفاده، وبذلك يخلص البنت من التهجير القسري والأموال من المصادرة.

كنت عند عودتي للبيت، أريد ان أطرح الموضوع على والدتي، ولكن ليس هنالك متسع من الوقت لأي شيء، الأفكار تزدحم برأسي، والتوتر السياسي يتفاقم يوما بعد يوم، بين البلدين الجارين بوتيرة متصاعدة، بسبب الخطب النارية، والتهديد، والإعلام العربي والغربي. لم يبق سوى يومين على السفر، وكان آخر شيء أتمناه إذا أُتيحت لي الفرصة، زيارة الكنزبرَّا زهرون*، قبل السفر.

يتبع

 

صالح البياتي

حلقة من رواية: بيت الأم

.............

* اكنزبرَّا: أحد طبقات رجال الدين عند الصابئة المندائيين.

 

 

في نصوص اليوم