نصوص أدبية

الطريق الى بغداد

صالح البياتيفي يوم السفر صباحاً، جاءت الخالة أم سعيد تودعنا، عانقت أمي عند الباب وبكت، ثم سكبت طاسة ماء عندما تحركت السيارة قليلاً، كانت عيناي لا تفارقان النظر لهذه المرأة الرائعة التي أحبت امي حبا صادقا، فهما اختان وإن لم تنجبهما ام واحدة..

وقبل عبورنا نهر الكحلاء للجهة الثانية، إلتفت لجهة اليسار، حيث كانت هناك مدرستي الأبتدائية، على مبعدة مسافة الرؤية الطبيعية، لا استطيع القول عندما نظرت ولم اراها:

" أثر بعد عين"

عبرنا الجسرالثاني فوق نهر المشرح، وكأي مسافر الى بغداد اتجهنا شمالا، قبلة المندائيين، إستقبلنا فضاءً مفتوحا، ومملاً  للغاية في آن، لرتابة المناظر التي لا  تتغير، عدا رؤية البلدات الصغيرة، الواقعة على جانب الطريق الايسر، المحاذية لنهر دجلة العظيم..

نظرت لوالدتي بجانبي، رايتها نائمة، قلت ربما لم تنم البارحة، فكرت بالشيخ المندائي الذي حطم غرور سليم الخماش وكسر كبرياءه وصلفه، وقلت في نفسي، سأزوره بعد عودتي، وخطر على بالي ما ذكره القاضي عبد الهادي إجباري عن الحلاق أبو أنور، فكرت أنه ربما تورط  مع الحكومة، فقد إعتاد في الآونة الأخيرة على الاستماع للإذاعات المعادية، يلصق راديو الترانستور الروسي الصنع على إذنه، ويدور قرص المحطات، كلما اختلى بنفسه، عندما يخلو المحل من الزبائن، وهم قلة الآن، الشباب يفضلون اليوم صالونات الحلاقة العصرية، محله بقى محافظا على طابعه القديم، حتى الصورة التي رأيتها أول مرة، لا تزال معلقة  في مكانها على الحائط، أفراس نهر، لا يظهر منها فوق سطح الماء سوى رؤوسها الضخمة، وأشداقها المرعبة المفتوحة، والأسنان الكبيرة المخيفة، وعلى مقربة منها قارب يقف في مؤخرته رجل أفريقي اسود؛ عاري الصدر، ومفتول العضلات، يقبض بكلتي يديه على عمود طويل اشبه بالمردي، وصبي في مياه النهر، عيناه مفتوحتان برعب، يكافح يائسا للوصول للقارب ..

قلت في نفسي، لقد كبر الحلاق العتيد، ولم تعد يده ثابتة، تستطيع التحكم بأدوات الحلاقة الكهربائية الجديدة، تذكرت ابنه أنور، كان تلميذا مشاغباً، ولطيفاً في آن، ناعماً حين يريد شيئا، كفتاة مغناج، يأخذه بسهولة، قلت في نفسي سأمر على محل الحلاقة لأتأكد بنفسي من صحة ظنوني، وضعت شريط كاسيت في مسجلة السيارة، وخفضت الصوت، وفتحت الشباك بجانبي ونظرت مرة آخرى لوالدتي، وقلت في نفسي، لأدع دفتر مذكراتي يقلب اوراقه القديمة، بينما استمتع بصوت فيروز الملائكي وامي تنام مطمئنة بجانبي.. انظر بإنتباه الى الطريق امامي، وأبطئ السرعة عند الإقتراب من نقاط السيطرة المنتشرة على طول الطريق. كي اتوقف للتفتيش.

ومن وراء ستار الماضي الكثيف، خرج اصبعان، سبابة وإبهام :  يتصفحان دفترمذكراتي القديم ، يقلبان الأوراق برفق .. وهناك في كل صفحة، حكاية تسرد إثر آخرى..

بيت الشيخ زهرون

كان ولا يزال في مكانه، مقابل النهر، أما مدرستي السلام،  فلم يعد لها أثر، كما إختفت دار البلدية، وبعدها المحكمة (التي غيرت اسمي فيها من إجباري الى نوح) كانت مدرستي لا نظير لها بين مدارس المدينة، ينعكس طابقيها على صفحة النهر، ومن بين أغصان الكالبتوس يرقص قرص الشمس، فوق ساحتها، والمرسى النهري يلاصقها، هناك كانت ترسو اربعة سفن بخارية كنوارس بيضاء..

تراءت لي صورة المدرسة، وأنا أنظر أمامي للطريق رحت استذكر تلك الأيام الخوالي..

كنا نمد اصابعنا الصغيرة، من بين قضبان سياج المدرسة الملاصق لحديقة المرسى لنخطف الصمون من ايدي البحارة، كان هلال يمرر يديه ويخطف صمونتين من الشعير، قاسيتين كالحجر، نلتهمهما في فترة الإستراحة الكبيرة، بشهية عجيبة، كانت مدرستنا الرائعة، قريبة من جسر الكحلاء الحديدي المتحرك، الذي بناه الأنكليز، ايام احتلالهم للعراق.

التفت لوالدتي، رأيتها نائمة، وقد أرخت عصبتها السوداء لتحجب شمس الظهيرة عن عينيها الكليلتين، لا يزال الطريق طويل، ووقت الوصول الى بغداد مبكر، على الأقل ساعتين حتى نصل الى مشارفها..

اوراق المذكرة تنقلب صفحة تلو الآخرى، وانا استمتع بصوت فيروز، وبشمس ربيعية دافئة، أمي مستغرقة بنوم عميق، وسماء زرقاء صافية فوقنا..

يوما ما.. في تلك الأيام الجميلة، أُشيعَ خبر كاذب، عن سقوط مدرستي، لا يقل غرابة عن  نبوءة المندائي،  كنا في الرابع الابتدائي ...

حدث شيء غريب، في ضحى يوم شتائي بارد، تجمعت نسوة متلفعات بعباآتهن، ظهرن فجأة، كغيمة سوداء حطت على الأرض، نظر المدير من نافذة مكتبه المطلة على الشارع الهادئ، أستغرب وجودهن في هذا الوقت، وبهذا العدد غير المتوقع، قبل موعد انصراف التلاميذ، خرج اليهن ليستطلع الأمر، وعاد مسرعا لمكتبه، ثم خرج  ثانية، وطاف على صفوف الطابق الأرضي، ثم أرتقى السلالم للطابق العلوي، وكان نادرا ما يفعل ذلك لسمنته المفرطة، التي ينوء تحتها في حركة بطيئة، وعاد الى مكتبه، وبعد قليل تجمع حوالي العشرين تلميذا امام غرفة الأدارة، خرج بهم  للنسوة وصرفهن واولادهن بهدوء، دون أن نعرف أي شيء عن الموضوع، بعد عودتي للبيت، علمت من أمي أن الحكاية، اختراع ساحرة، أرادت تمرير سحرها بإفتعال سقوط المدرسة، أجلستني أمي على الأرض، وقرأت المعوذتين، راسمة بكفها اليمنى، دوائر صغيرة فوق رأسي لطرد الأرواح الشريرة، وإفساد سحر الساحرة المجهولة ..

وفي اليوم التالي، تباينت الحكايات،  لكن خيطها كان ينتهي بالساحرة التي أشاعت الخبر، ورغم عدم سقوط المدرسة، فقد دب الخوف في قلوب الآباء والآمهات، وسرى سريان النار في الهشيم، وامتنع بعض الأهل من إرسال أولادهم، فاضطرت أدارة المعارف، الى إرسال لجنة من مهندسي البلدية، لمعاينة البناية، رأيتهم يحملون أجهزتهم ويدققون النظر في الجدران والسقوف، يفحصون الفطور والشروخ الكبيرة والصغيرة، وبعد إنتهاءهم من الطابق الأرضي، صعدوا للطابق العلوي، ودخلوا جميع الصفوف، وكان المدير يرافقهم، لم يتركوا زاوية في المدرسة، دون أن يدسوا فيها أنوفهم وعيونهم وأجهزتهم الغريبة، التي جذبت أنتباه التلاميذ، وبصعوبة بالغة وبشق الأنفس، تمكن المدير أن يصعد معهم الى السطح العالي، وهناك غابوا وقتا قليلا، كنت أنا وهلال نرمقهم من تحت بنظرات الأعجاب والدهشة، بعدها هبطوا للطابق ألأرضي، يلهثون تحت ثقل أجهزتهم، والمدير ينوء بأنفاس متقطة، تحت كتلة لحمه، يلعن ذاك اليوم النحس.

جلسوا يستريحون في مكتبه عند المدخل الرئيسي للمدرسة، وغادروا بعد ان ارتشفوا أستكانات الشاي، مودعين من المدير، الأستاذ أبو عوف، وبعد إيام قليلة، ظهرت نتيجة الكشف الهندسي، عن صلاحية البناية، بتقرير مفصل،  قرأه المدير، أمام التلاميذ، وبعض أولياءهم الحاضرين، طمأنهم عن متانة أسس المدرسة، وبنيانها القوي الراسخ، وأكد لهم أنها لا تزال يافعة، لم يمض على تشييدها سوى عقد من الزمن، وانها ستعمر إن شاء الله خمسة عقود أخرى، وستُخرجْ أجيال من التلاميذ النجباء، الذين سيخدمون مملكة العراق الفتية، تحت ظل جلالة الملك المفدى؛ فيصل الثاني؛ عاهل العراق..

التفت ثانية لأمي النائمة، ونظرت للطريق أمامي، قلت في نفسي، ألازلت تذكر يا نوح الأهزوجة التي أنهى بها المدير كلمته المقتضبة، رفع يده اليمنى ملوحا بها في الهواء وبالكاد استطاع ان يحرك قدميه، وصاح بأعلى صوته:

(يادار السيد مأمونة..)

لم أكن حينها أفهم معناها، ولكن بمرور الزمن الجنوبي المتثاقل البطيء، أدركت أنها تعني الديمومة والبقاء لمملكة العراق ولملكها الشاب، الهاشمي النسب.

توقفت عند نقطة سيطرة، نظر الجندي الى أمي النائمة، واشار بيده  الى الطريق اشارة " تحرك"

وفي دفتر المذكرة الذي يحمل اسم :

"كنزي الثمين للزمن القديم"

انقلبت الأوراق على صفحة جديدة..

انقضى ذاك الزمن قبل ما يقارب العقدين وسنتين، وانقرضت معه المملكة الفتية، وماتت معها الى الأبد، أمنية مدير مدرستنا بدوام بقائها..

يحلو لي عندما أسترجع ذاك الزمن، أن أسميه:

" زمن الاسترخاء الطويل والاغفاءة الناعمة اللذيذة "

فأنت في حالة كهذه، لست بالنائم ولا الصاحي، بين اليقظة والحلم.. ولكن عندما تنفتح عيناك على العالم، وترى اضطراب ما يجري حولك، يبدأ:

" زمن التشوش والاندهاش "

وبسببه تصيبك فجأة رعدة الخوف والتوجس من المجهول، فينتابك  شعور داهم بالمعاناة وفقدان الأمان، وربما الصدمة..

ها هو الآن:

" زمن الترقب والتربص "

زمن الرئيس الجديد، وجهازه البوليسي المرعب..

وتحت تأثير تلك النبوءة الغامضة، التي كسر هلال يوما ما، أختامها، وأخرجها من كثافة الظلام الى شفافية الضوء، كنا آنذاك، لا نعرف ما الحرب وما أهوالها، كان همنا آنذاك، أن نستمتع بطفولتنا البريئة، على ضفاف الكحلاء، نراقب السفن الشراعية تعبر من تحت جسره العتيد، جسر الملك فيصل، الذي يرتفع آليا من وسطه، ليسمح بمرورها، في ذاك الزمن كنا نستعذب مرارة الفقر، ممزوجة بحلاوة الأمان، نحتمل قرصته الموجعة، فنتعذب ولكن بكبرياء.. لا نشكو لأحد فقرنا، لأننا نؤمن أن الشكوى لغير الله إذلال للنفس. والله قد حبانا نفوسا كريمة، ويحب أن تكون ابية..

كانت تلك الغفلة الساذجة، اشبه بالوله المقدس، الذي يغمر روح الأولياء، ويجعلهم ساهمين عما يجري حولهم، من ضجيج الدنيا، كما كانت مدينتي غافية على أكف أنهر ثلاث، أحدهم ( الدجلة ) من انهارالجنة..

كان سعيد، الذي عرفته في زمن الإغفاءة الرخية؛ والأحلام السعيدة، يتطلع من خلال دخان الماضي؛ لمستقبل، يرنو اليه خجلا حينا؛ أو خائفا حينا آخر، قد أدرك أنه عاش حتى تلك اللحظة، مغفلا ومخدوعا، حينما صدق أن ورع الكيال نابع عن إيمان حقيقي، وبهرته أول مرة رآه، هالة الوقار، ولقب الحاج، فأعتقد أنه حقا رجل متدين، ممتن وشاكر لنعم الله، ولكنه فطن بعد ذلك، أن كل تلك الهالة محض سراب، وأن كل ما هو مرفوع أو متعال، كالآيتين المعلقتين في مكتبه، ما هي إلا زينة، وسيلة لخداع  البسطاء أمثاله، أفاق من نومه، فثار على الكيال، ووقف منافحا عن موقفه، ومناصرا لعائلة صديقه العامل القتيل مظلوم، فترك مطحنة الكيال، وإمتهن نقل المسافرين من مدينة العمارة الى بغداد وبالعكس، يقود سيارة شيفروليه 58، جديدة، يبرق لون معدنها بوهج اسور تحت الشمس، فتخطف الأبصار، عندما تسير في شوارع المدينة، أشتراها أحد تجار المدينة من الوكالة، في نفس السنة التي سقطت فيها الملكية، كان يريدها لخدماته الخاصة، ولكنه مات فجأة بالسكتة القلبية، قبل تدشينها بيوم واحد، فتشاءمت العائلة، وسلمتها لسعيد، بعقد عمل خاص أتفقوا عليه.. هم يقبضون أيراد أسبوعي، ويقبض هو أجر شهري.

جاءني يوما بعد الإنتهاء من امتحانات البكالوريا،  يريدني أن أسافر معه غدا صباحا الى بغداد، قال تعال معي، ليس معنا سوى مسافر واحد، استأجرني لنقله الى العاصمة، ولأني أديت الأمتحانات وأرهقت نفسي كثيرا، فرحت بالعرض ولكني تطايرت من اليوم، فغدا سيكون الثالث عشر من تموز.. طمأنتني أمي قائلة: أن الأيام كلها واحدة في روزنامة الله، ولا فرق بين يوم وآخر، والأرقام لا تعني شيء، سوى أنها مواقيت، لأن الأنسان هو الذي أخترعها، فهي ليست ضاره ولا نافعة.. فاطمأنت نفسي، وزال عنها هاجس النحس من رقم 13 وحلمت تلك الليلة قبل السفر بشوارع بغداد، وجسورها الحديدية على الدجلة، وأضوائها الصارخة المتألقة ليلا، وبشارع الرشيد، أطول شارع فيها، وفيه مخزن تسوق كبير، يدعونه أور زدي باك، ودور سينما مغلقة ومكيفة، ركس وروكسي وغيرهما، وشارع أبي نؤاس، لؤلؤة بغداد المتألقة على نهر الدجلة، حلمت بهذه الأماكن الجميلة وغيرها، انطلقنا صباحا ساعة الشروق، كما انطلقنا اليوم بنفس الوقت، عبرنا الجسرين فوق النهرين، وفي غضون دقائق قليلة، غادرنا المدينة، وصرنا خارج أسوارها المائية، وغابات نخيلها الحارسة، اجتزنا القناطر السبع القديمة، التي ينتهي عندها خط السيول، متقاطعا مع طريق السيارات، بعدها راحت السيارة تنهب الطريق غير المعبدة آنذاك، وسحابة غبار  خلفها. كان شبح الأفاعي التي يجرفها السيل تسيطر على مخيال من يلتفت لجهة الشرق، تقفز فجأة ، ربما تزجية للوقت وتخلصا من الملل.

استذكرت ما قاله المسافر معنا، في أول رحلة لي الى بغداد، أشار بيده صوب الشرق؛ نحو الجبال البعيدة، التي تبدت قريبة وواضحة، بانت أشبه بدخان أزرق كثيف، وقد رأيتها منذ أكثر من ساعة عندما اجتزنا جزءا من الطريق..

قال : " لقد حمل السيل قبل سنوات، أعدادا كبيرة من الحيوانات النافقة، خنازير برية، وحصان، وجثة إمراة قتيلة، رماها  كلها حيث انتهى..

كنت أحب الجغرافيا أضافة للأدب العربي، وأردت ان ألفت انتباهه، أذكر أني قلت: تنحدر السيول بقوة، من جبال أيران، عند هطول الأمطار الغزيرة، الى الأراضي المنخفضة في لواء العمارة، تكتسح بعنف كل ما يعترض طريقها، حتى تنتهي عند القناطر السبع، الأفاعي وغيرها من الحيوانات التي يجرفها السيل، موجودة أساسا في أراضينا.. فقال المسافر: يقولون إنها خطرة وسامة جدا.. “

كان سعيد طوال الوقت يلوذ بصمته، مهما حاول المسافر جره للحديث، حتى أدركنا الغروب، ودخلنا بغداد قبل هبوط الظلام، نزل التاجر عند مكتب الشركة، وبتنا ليلتنا على سطح فندق الأمين المقابل لمكتب الشركة، أضطجع كل منا على قريولة من حديد مطلية بلون أبيض، كالتي تستخدم في المستشفيات الحكومية، لم أستطع النوم حتى ساعة متأخرة من الليل، بسبب الحر، وأضواء النيون، الموزعة على أرجاء السطح، وصخب الشارع تحتنا.

في صبيحة اليوم التالي، أستيقظنا على صوت انفجارات، وأعمدة دخان تتصاعد من جهة الغرب، وحينما هبطنا للشارع لنستطلع الأمر، ألفينا رصيفه محتلا من الجنود، كانوا يرتدون خوذا حربية، وبكامل أسلحتهم وذخيرتهم، كأنهم في ساحة معركة.

كان ذاك اليوم 14 تموز عام 1958 ، أكان إنقلابا عسكريا أم ثورة!

حدث شيء ما كان بوسع المندائي أن يتنبأ به، ولكن كان مقدمة منطقية ومعقولة لنبوءته..

قامت الثورة، وبدأ يومها الأول، مستعراً بنيران تموز الحارقة، كان المندائي قد تنبأ "بطرقاعة " اشبه  بالصاعقة، تحدث على أرض مدينة العمارة وليس في بغداد، لا أحد يستطيع أن يؤكد متى ولدت تلك النبوءة، أفي العهد العثماني أم قبله، أم عند احتلال الإنكليز لبغداد، هل تخصبت نطفتها برحم الزمن أو خارجه..

ولكن بالتأكيد، كانت قبل أن يوضع حجرواحد، في أساس دار السيد، التي تنهار وتهوى أمام أعيننا الآن، وهي لا تزال فتيه، لم تعمر سوى ثلاث عقود أو أكثر قليلا، وذهبت أماني مدير المدرسة، في مهب الرياح..

تخيل أنك تزور عاصمة بلدك لأول مرة ، وبالكاد تعرف في اي شارع أنت وأين يقع  فندقك، وفي أول صباح لك، يحدث انقلاب، يقلب المدينة رأسا على عقب، هكذا كان حظي مع بغداد، كحظ التاجر العماري، الذي أشترى سيارة جديدة، فوافته المنية، وحرمته من تدشينها، فسافرنا نحن فيها : سعيد، وأنا ومسافر آخر..

تخيل أنك غريب في مدينة كبيرة، هي عاصمة البلاد، تجرفك الزحوف الهائجة، حيث لا تدري الى أين؟! وترى بأم عينيك شيئا لم تره عين من قبل، ولن يتكرر أبدا..

لن أنسى ابدا ذلك اليوم الذي غاص في تلافيف العقل الباطن، كان نقطة تحول سياسي، هامة في حياتي، ضمن نقاط تحول آخرى، تبدأ دائما بهذا السؤال الحائر: لماذا...؟

لم تأفل شمس ذاك اليوم ، ما زالت جمرتها تلسع حدقتي عيني حتى هذه اللحظة التي أسافر فيها الآن الى بغداد مع امي المريضة، على الرغم من مرور عقدين وسنتين..

رأيت أجنحة الخوف الكئيب الأسود تنتشرعلى طول البلاد وعرضها.

أوراق المذكرة تنقلب، كأن ريح خيفة مستها برفق ..

كان يساورني شعور مأساوي قوي، في تلك اللحظة النادرة من زمن الثورة، حين كانت بغداد في نوبة جنونها، رأيت عيون الجموع الهائجة محتقنة بالشر، لا تشبه عيون أهل مدينتي، سائرة بموكب جنائزي، تسحل جثة بلا رأس ولا أطراف، تماهى في ذاك اليوم، المقدس والمدنس..

حدث كل ذلك في شارع، كنت أجهل أسمه، ولكني عرفته فيما بعد.. (شارع الرشيد) العتيد، الذي حلمت به قبل ليلة من سفري الى بغداد، لقد كان ذاك اليوم الذي غاص في تلافيف العقل الباطن، نقطة تحول هامة في حياتي، ضمن نقاط تحول آخرى.

كانت الدجلة تجري متهادية، وغير مكترثة، لا تأبه بما يحدث، على بعد أمتار قليلة.

مرت سنوات عديدة، لم تمح من ذاكرتي ذاك اليوم العظيم، رغم كل متناقضاته، كان رهيبا رغم جلاله، من شوه وجهه وملأ نهاره قيحا، ومسخه وحشا دمويا؟  ستجيبك الأيام حتما عن كل تلك التساؤلات المحيرة..

وكما أنتج ذاك اليوم، قبل عقدين وسنتين من الزمن ، دورات متعاقبة من الجنون والطيش.. فالقابل من الأيام سينتج عنفا اكثر، لا يعلمه إلا ألله،

لطاما كان الطريق الى بغداد، (الذي قطعته من قبل مرات عديدة  لا تحصى)، يذكرني دائما بدرب آلام المسيح، يؤرقني كثيراً، كلما سلكته ذاهبا أو آيبا..

وها أنا اليوم، أسافر عليه ومعي أمي المريضة.

وقبيل منتصف النهار كنا عند جسر ديالى، توقفنا عند آخر نقطة سيطرة، فأشار لنا العسكري بيده بالتحرك بعد أن ألقى نظرة سريعة على والدتي، ها نحن على مشارف العاصمة.

يتبع

 

صالح البياتي

.........................

حلقة من رواية: بيت الأم

 

في نصوص اليوم