نصوص أدبية

السيدة أم نوح

صالح البياتيفي اليوم التالي، ذهبنا بسيارة أجرة، وفي السادسة مساءً كنا عند ساحة التحرير، قلب العاصمة النابض، وعلى شاطئ الدجلة الأيسر، تناثرت حانات الخمرة، وشاعرها الماجن يرفع كأسه جذلا، يتأمل بانتشاء مغرق، عبثية الحياة، وشهريار على مقربة، يترقب نهاية لثرثرة شهرزاد التي لا تنتهي، اتجهت السيارة لشارع تنتشرفيه عيادات الأطباء، تغطي يافطاتها واجهات العمارات؛ كنسيج عنكبوتي بشع، مخيف ومحزن في آن، اعتراف فاضح، وإعلان صريح بانتصار المرض، أنزلنا السائق أمام عمارة جديدة، اخبرنا ان الطبيب الذي جئنا اليه، يمتلكها، صعدنا السلالم للطابق الثالث، (المصعد الكهربائي كان عاطلا) وكانت أمي تتكئ على كتفي، وأنا أحاول ما استطعت أن أخفف عنها مشقة الصعود، أجلستها في غرفة الانتظار المكتظة بالمرضى، وأطلعت السكرتيرة على موعد حجزنا المسبق، دخلنا على الطبيب، وبعد الفحص وطرح الأسئلة شخص المرض، وبحركة من رأسه؛ فهمت انه يريد الإختلاء بي، فخرجت بأمي واجلستها في غرفة الانتظار، عدت اليه، فقال أنها تحتاج لعملية جراحية لاستئصال الورم من ثديها الأيسر، ولما سألته لماذا لا يزيل الثدي كله، أوضح أن عملية إزالته، تحت التخدير العام تحتاج لوقت أطول، وينتج عنها فقدان كمية أكبر من الدم، وقد لا تحتمل صحتها كل ذلك، أعطاني رسالة للمستشفى الأهلي لإجراء الفحوصات اللازمة، ولحجز موعد لإجراء العملية، ولجلسات إشعاعيه في مشفى الطب الذري لكي يضمحل الورم ويصبح حجمه أصغر.

عدنا بسيارة أجرة، كنت أتطلع للشوارع شبه الخالية على غير العادة، فالساعة لم تتجاوز الثامنة مساء، شعرت أن الناس هنا في بغداد، يتوجسون شيئا خطيرا، سيحدث قريبا، وأن كل المؤشرات أخذت تؤكد حربا وشيكه، مسألة وقت لا غير، والوقت متوار في كهف المفاجأت..

عرف السائق أننا غرباء، لسنا من بغداد، وأننا جئنا اليها من أجل اطباء الأختصاص، فتمنى لأمي الشفاء، ثم بدأ يتذمر منهم، ونعتهم بالجشعين والمتكبرين، وعديمي الأنسانية، حاولت أن أخفف من غلواءه، قلت ما معناه، أنهم ليسوا هكذا كلهم، هم كغيرهم من البشر فيهم الأضداد، وأجدادنا وصفوا الطبيب بالحكيم، وذاك زمان ولى وهذا زمان آخر، كانت الحكمة ضالة المؤمن، اما اليوم فالنقود هي ضالة الناس أينما كانوا.

أشعل السائق سيجارة، وأطفأ زفرة حارقة، وقدم لي واحدة فاعتذرت، لزمت الصمت، حذرا من سواق الأجرة، فهم مشبوهون، أومتهمون بأنهم عيون السلطة، تساءل هل حقا أصبحت قاب قوسين او أدنى، اكتفيت بعبارة (الله أعلم)، ولكن يبدو ان جوابي لم يعجبه، فاعترض قائلا "الله طبعا أعلم بما حدث وما سيحدث، ولكن من حقنا أن نعلم، لان الموضوع يخصنا نحن"، فاكتفيت هذه المرة بكلمة " صحيح " فرد " المحطات العالمية، مثل البيبي سي ومونتي كارلو وصوت أمريكا وحتى إذاعة إسرائيل؛ كلها تتحدث عن اقتراب شبح الحرب، وكأنها شيء لا مفر منه، ونحن نقول ألله أعلم" فتدخلت أمي قائلة "ابني أدعو ربك أن يطفئ نارها بنوره " هذه المرة شعر السائق بالهزيمة فقال على مضض "إن شاء الله " واشعل سيجارة أخرى، من عقب سيجارته الضامرة، وأستمر يدخن ساكتاً، وهو يستمع لنشرة أخبار مونتي كارلو المسائية.. حتى وصلنا، كنا صامتين طوال الوقت، ولم تسألني أمي عن شيء، وحينما دخلنا الشقة ذهبت لتنام، تركت إخبارها عن العملية الجراحية لوقت لاحق، بعد الانتهاء من جميع الفحوصات الطبية المطلوبة، مع أني متأكد لو اخبرتها فلن يغير ذلك من الأمر شيئا، ولن تتأثر بشيء تافه؛ مثل إجراء عملية جراحية.

عندما اكتملت جميع الفحوصات المخبرية وجلسات الطب الذري، واطلع عليها الطبيب الجراح، أُدخلت المشفى وأُجريت لها العملية، استغرقت ست ساعات، بدأت من الساعة العاشرة صباحا وانتهت في الرابعة بعد الظهر، وعندما اخرجوها كانت أشبه بالميته، أستأصل الطبيب الجراح الورم الخبيث، ولم تفق كلياً من تأثير المخدر حتى حلول الظلام، فتحت عينيها لثوان ثم أغلقتهما، كانت شفتاها بلون الرماد، والوجه الذي كان أبيضاً ومشوباً بحمرة وردية، كان ممتقعا بصفرة مخيفة، كانت كأنها مقنعة بقناع الموت، وبعد برهة فتحت عينيها مرة آخرى، نظرت مندهشة لسقف الغرفة، قبلت جبينها، وقلت الحمد لله على سلامتك، تحركت شفتاها ولكن بلا صوت، لم اسمع شيء سوى تمتمة خافتة.

وفي صباح اليوم الثاني رفت على شفتهيها الذابلتين بسمة خاطفة، فأشرق وجهها بضوء، مشوب بغلالة ألم، افتقدت تلك البسمة الحلوة، التي كانت تنير وجهها، كعسل يشف من خلال اناء شفاف، رائقاً كالذهب، لم أفارقها لحظة اثناء رقادها في المشفى، الا عند الذهاب للنوم. جاءت العمة ام بدور لعيادة امي، ومعها ابنتها الشابة، تحملان اكياس الفاكهة، ابتسمت لهما عندما وضعتا الاكياس على المنضدة، فالمريضة كانت لا تزال على المغذي؛ المتصل بالوريد، وهما لا يعرفان قلة اكلها للطعام في حالتها الطبيعية...

عدنا للشقة في الزقاق المنزوي بقلب مدينة الكاظمية، وكأن الزمن قد توقف، وتقاطع الحاضر مع الماضي، لم ألتفت للمستقبل، فهو لا يزال في كنف الغيب، الماضي لاح للعين جزيرة خضراء وسط تيه رملي يغطي الأفق..

زرنا الطبيب أربع مرات خلال تلك المدة، أكد لي نجاح العملية، ونصحني بالتركيز على شيئين هامين في فترة النقاهة وما بعدها، التغذية الصحية الجيدة والجو الهادئ المريح، والابتعاد عن كل ما ينغص عليها الراحة الجسدية، والهدوء النفسي..

خلال مدة بقاءنا في بغداد، وبالتحديد في شقة صغيرة بأحد ازقة مدينة الكاظمية، اكتشفت ما يميز هذا المكان، فمن احجار منازله العتيقة يترشح عبق التاريخ، يمتزج برطوبة ماء النهر، يتعطر بقداح بساتين النخيل، ويسطع الذهب، يخطف الأبصار، في القبتين والأربع منائر العالية، يرتقع منها الأذان، كأنه دائم لا ينقطع، يتماهى ثراء الحياة الروحية مع صخب أصوات الباعة المتجولين، او المفترشين الأرصفة، تختلط مع صوت الآذان أوقات الصلاة.

في كلام الناس الكواظمة*، عند القسم أثناء البيع والشراء وفي حالات اخرى، مفردات ذات مسحة ايمانية عميقة، معبرة عن اصالة المشاعر الحميمية، او متكلفة مصطنعة، تطفح كزبد البحر على شاطئ الأيمان..

وفي أخطر مرحلة تمر بها البلاد، توجس العراقيون من حرب وشيكة، لا يعلمون كم ستطول..

كنت أنا أيضاً لا أدري كم سيطول مقامنا في مدينة الكاظمية، وطوال مكوثنا فيها أحببنا الجيران، وأصحاب الدكاكين القديمة، وباعة البضائع المعروضة على العربات، وأزقتها الملتوية الضيقة، التي لا تشبه شوارع مدينتنا المستقيمة، هذه المدينة التي تتباهى بإرثها الديني التاريخي، يترسب في الوجدان قبل البنيان، صار الوسيلة لتحريك القلوب قبل العقول، والبصائر قبل الأبصار..

صديقي يوسف الموظف بشركة التأمين الوطنية، في شارع باب المراد، القريب من مكان سكننا، كان يأتي بإنتظام لزيارتنا بعد نهاية الدوام، ليطمئن على صحة امي، ومنذ أن عرفته عليها، حافظ على تقبيل يدها احتراما لسنها ونسبها النبيل للبيت النبوي، وفي آخر جمعة قبل عودتنا، جاء ليودعنا، سلم عليها وسألها عن صحتها، وقبل يدها، كما فعل اول مرة في زيارته الأولى.

 "تشرفنا بك سيدتي" وترد عليه:

" تشرفنا بك أبني."

قمت لإعداد الشاي لضيفنا، وقدمته بثلاث أستكانات بلورية شفافة صغيرة، ودارت بيننا أحاديث في مواضيع مختلفة، بينما كانت أمي تستمع الينا، وبعد شرب الشاي الذي تحبه أكثر من الطعام، ذهبت لتستريح، حتى يحين المساء لزيارة مرقدي الأمامين موسى الكاظم وحفيده محمد الجواد.

 الزائرون القادمون من مختلف المدن، رأيناهم ينزلون الى الصحن، ويسعون للدخول لمرقدي الإمامين، وقفنا قليلا أمام البوابة الخشبية الكبيرة، كانت على جانبيها، صورتان كبيرتان لرئيس الجمهورية، أحداهما بلباس عسكري وغترة حمراء ملفوفة على رأسه، والثانية ببدلة مدنية، حاملا أبنته الصغيرة على كتفه، وكانت هناك على يمين المدخل سيارة لشرطة النجدة متوقفة، وفي الساحة الأمامية ينتشر افراد من الأنضباط العسكري، ذوي البيريات الحمر، مسلحون برشاشات كلاشينكوف، وأعداد غير معروفة من رجال الأمن المتخفين تحت ملابس مدنية، ينتشرون في كل مكان ويندسون بين الناس، امسكت يد امي اليسرى، اقتربت أمي من الضرفة اليمنى للباب، مسحت يدها ببقايا حناء متيبسة، والتحمت بها وقبلتها، ثم نزلنا درجات قليلة، أفضت بنا للصحن الخارجي الكبير والأروقة المحيطة به، صعدنا درجتين للرواق الداخلي حول الضريح، نزعنا أحذيتنا وأمناها عند الكشوان، ثم وقفنا لقراءة آداب الاستئذان بالدخول.

كان الازدحام شديداً عند الضريح، يتدفق الناس من أبواب أربعة عالية مكسوة بالذهب، ويتحلقون حول المرقد الشريف، أجلست أمي تحت الشباك المفضفض، فألصقت رأسها به، كانت الأضواء المنعكسة من المرايا الصغيرة التي تزين الجدران، تبدو كأنها أقمار صغيرة، وضوء أخضر كان ينعكس على وجه أمي، يأتي من وراء زجاج سميك داخل الضريح، انخرطت أمي ببكاء مرير، وأنا واقف عند رأسها، أما صديقي يوسف فتنحى جانباً يصلي، لم أسمع شيئا من بثها بسبب الضوضاء، ولكن عندما كنت أدني رأسي منها سمعتها تقول، جئتك.. وضاعت بقية الكلمات لارتفاع عويل النساء، سمعت الابتهالات والتضرعات تختلط ببكاء بعض الرجال وعويل النسوة، ولكن لم أسمع احدا يناشد الله أن يمنع الحرب، التي توشك أن تندلع قريبا، صرخة محبوسة في داخلي تستغيث: يا إلهي كلهم يبكون والدموع تنهمر من عيونهم، كأنهم جاءوا ليفرغوا خزين أحزانهم في هذا المكان، ويستسلمون لمصير مجهول، يسألون الأمام أن يتولى عنهم تصريف أمور حياتهم، ويحل مشاكلهم العصية على الحل، بعد ان عجزوا عن حلها بأنفسهم، يظهرون ضعفهم وهوانهم، واستكانتهم وعجزهم وقلة حيلتهم، يجأرون بالشكوى لأن حياتهم انقلبت الى مأساة حقيقية، ولم يعد لهم ملجأ الا المجيء لهذا المكان.. في تلك اللحظة صرخ أحدهم بصوت صاعق، كفى.. كررها ثلاث مرات، كأنه بهذه الكلمة الوحيدة التي سمعتها، وضاع ما سواها في الضجيج، فهمت أنه كان يحتج، أو ربما حدث بيني وبينه في تلك اللحظة نوع من الاتصال الروحي، كما يحدث في توارد الأفكار، فقلت لنفسي أيا كان الصارخ، فأني أستجيب لصرخته: كفى، أن أمة تبكي حري بها أن تودع الحياة، كانت صرخته وهو يطلقها في أرجاء المكان أشبه بسكين في الظلام، جرحت صمت الباكين، اندفع على إثرها رجال الأمن، اقتحموا الضريح، وأحاطوا بالرجل، ولم يعد أحد ير شيئاً من المشهد..

أيقظت صرخته الزائرين، كأنها انتشلتهم من نوم عميق، فساد سكون مريب، وأندفع الناس على أثرها هاربين، مذهولين الى الخارج، من أبواب عدة نحو الأروقة والصحن الكبير وفي دقائق لم يبق أحد منهم، بعضهم أنتظر في الخارج، ولكن الأغلبية غادروا المكان وتبخروا بسرعة في الأزقة القريبة.

حاولت مساعدة امي على النهوض، وحمايتها من أن تداس تحت أرجل المتدافعين، تشبثت أصابع يدي اليسرى بقوة بكرات الشباك الفضية، التي كانت قبل قليل مكانا محببا للثم والتقبيل، رفعتها من تحت إبطها بيدي الأخرى، وخرجنا حافيين، تاركين أحذيتنا عند الكشوان..

في صباح الجمعة، جاء صديقي يوسف، وحكى ما تناقله الناس عن الحادثة:

" يقولون إنها تمثيلية مفبركة من صنع المخابرات، لمعرفة ردود فعل الناس، وقالوا أنه مجنون " علقت ساخراً، " الحكومات دائما تحول الأبطال الى مجانين، وهكذا تقتلهم مرتين.."

خيم علينا الوجوم.. وجلسنا صامتين، حولت أمي الحديث الى موضوع آخر، وقبل الغروب ودعنا صديقي يوسف وتمنى لنا ليلة طيبة، وخرجت أودعه عند باب الشقة.

تحسنت صحة أمي وشعرتْ أن تلك الآلام التي كانت تنهش صدرها قد اختفت، وازدادت شهيتها للطعام، فكنا نتعشى في مطعم، ونشتري دجاجة مشوية مع الخبز توضع في كيس ورقي، نتصدق بها على إمراه فقيرة، تفترش الأرض عند بوابة الضريح الخارجية، كان طفلاها يلوذان تحت عباءتها، كنا نجلس في الصحن الكبير، فنرى الزائرين القادمين من المحافظات، بعضهم قد احتل حجرة للمبيت، وآخرون يتخذون باحته الكبيرة؛ مكانا لقضاء ليلتهم، يتوسدون أيديهم، وينامون على الأرضية المفروشة بالسجاد، كأنهم في بيوتهم..

يبتع

شكرا لمتابعتكم

 

صالح البياتي

..........................

رواية بيت الأم

 

في نصوص اليوم