نصوص أدبية

ربيع حزين

صالح البياتيكانت رحلة العودة، قبل يومين من الأحتفال بعيد النوروز، ويسمونه في مدينتي دورة السنة،  يتحرر فيه الإله تموز من عالمه السفلي، و لسوء الحظ دارت تلك السنة  على حيوان؛ خنزير، ورغم تشاؤمهم، ذهب بعضهم الى البساتين القريبة، للأحتفال والترويح عن النفس، والبعض الآخر ذهبوا مشيا على الأقدام، او بالسيارات الى مرقد ولي، يختفي قبره بين اشجار النخيل الكثيفة، على شاطئ الدجلة الغربي، ومحبب زيارته في هذه المناسبة، لا يعرف أحد من هو، ومن أين أتى؟ ولكن قبره صار مزارا، وأُضفي عليه شيء من القداسة مع مرور الزمن، يأخذون اليه المجانين ويربطونهم بشباكه، وزعم البسطاء، انه حامي المدينة، فببركته لم تتعرض الى فيضان مدمر، أو زلازل وبراكين، باستثناء زيادة ملحوظة في مواسم الزود، تتولى الأهوار ابتلاعها، لذا قامت بعض النسوة بزيارته، يضربن الدفوف ويترنمن بكراماته، وهن يخترقن البساتين، حتى وصلن، ودخلن الضريح، وأحرقن البخور وأوقدن الشموع، خضبن اكفهن بالحناء المعجونة بالدموع، وطبعنهن على جدران المزار وأبوابه وشبابيكه، وطلبن منه المراد، شارة واضحة على منع الحرب، وانصرفن وقت العصر كما أتين، بعد ان أوفين بنذورهن القديمة، وعاهدنه بنذور جديده إذا تحقق مرادهن..

وعند غروب شمس اليوم الجديد، الأول من سنة الخنزير، تجمعن على كورنيش شاطئ الدجلة عند نهاية شارع بغداد، أوقدن الشموع على كربات السعف مزينة بأغصان الآس الأخضر العبق الرائحة، وأرسلنهن يتهادين على مويجات النهر، مودعات يوم جديد، دارت سنته على حيوان بري هائج، كالذي تعج به الجزر الكثيفة بالقصب والبردي في الأهوار، مستقبلات يوم آخر لا يعلم به إلا الله، هو وحده علام الغيوب..

 وفي يوم الأحد قامت مجموعة منهن من محلة القادرية بكنس وغسل باحة كنيسة ام الأحزان بمحلة التوراة بالماء، وأوقدن الشموع في المذبح تحت تمثال السيدة العذراء..

وعند العودة تفرقن لبيوتهن، ولكن اثنتين منهن من محلة السرية، التقتا بالمجنون عاشور، كنت هناك أقف معه، أريده يأتي معي، لأعطيه بعض الملابس المستعملة، وكانت أمي بين الحين والآخر تتصدق عليه بشيء من النقود، فقلت له:

" عاشور أريد منك أن تأتي معي الى البيت، وتسمعني دعاءً لشفاء أمي."

سألني بكلمتين لا كهما بصعوبة بين أسنانه المتفحمة من تدخين السجائر الرخيصة. سألني

" ماذا أقول؟"  

" قل لها حين تراها، ألله يشفيك.. كلمتان كررتهما عليه، فرددها بعدي عدة مرات.

اقتربت إحداهن منه، وضعت يدها على كتفه وقالت:

" عاشور، سأخيط لك دشداشة جديدة."

انحنى المجنون، رفع ذيل دشداشته الجوبان القصيرة، المتصلبة بالوسخ والعرق الى صدره، فبرز قضيبه منتصبا، أعتصره بين أصابعه، فصرخت المرأة مغطية وجهها بعباءتها.

"يبوي عليك.. عزه إلعزاك عاشور."*

وقالت الأخرى وهي تضحك:

"إصخام إصخمك عاشور."*

جاء معي، ولما رأى أمي جالسة على الكنبة، جلس تحت قدميها وقبلهما، ضحكت امي، وضعت يدها على رأسه الحليق المكور، بحجم جوزة الهند، سألته:

" شلونك عاشور؟"

" ماما أنا زين." سألته

" أتخاف من التسفير؟"  اجاب على سؤالها بسؤال

" أكو هناك مي، هوا، أكل؟"* ضحكت

" طبعا كلشي موجود"

    " ماكو مشكلة خلي يسفروني"

   ربط عاشور وجوده بوجود ثلاث اشياء هامة في الحياة: الماء والهواء والطعام، 

وسكت وظل جالساً في مكانه ينظر الى امي، قدمت له شيئا من التمر واللبن، وهما طعامه المفضل، وفي ولائم العزاء والأحزان، يأتي وبيده قدر متوسط الحجم، يملؤونه له بالأرز واللحم والمرق، ولا أحد يعلم لمن يأخذه.

في تلك الليلة رأيت في منامي حلما أفزعني.. استيقظت، أتثاقل بالنهوض من فراشي، جالت عيناي بسقف الحجرة، كأني أبحث عن تفسير لحلمي، حاولت أن أستعيد بعض اجزاءه، لكن من الصعب ترميم الحلم عندما يفقد تسلسله المنطقي، تتداخل الصور، لا يؤلف بينها نسق معقول، كأنها مشاهد مقتطعة من لقطات سينمائية مختلفة ومتباينة، ومن عدة أشرطة تداخلت مع بعضها، ألقيت نظرة في المرآة وتمنيت أن تعيد الي الصورالحلمية، كانت عيناي تحدقان في عمق المرآة، كمن يبحث عن شيء مفقود، أو أنه فوجئ بشيء غير متوقع..

ذهبت لحجرة أمي، لم تكن في سريرها، خرجت للطارمة فوجدتها هناك، ألقيت عليها تحية الصباح، وحكيت لها ما استطعت أن أتذكره من فتات الحلم..

أناس يتراكضون، تطاردهم نار هوجاء؛ ذات شعب ثلاث تحاصرهم من كل الاتجاهات، وفجأة ترتفع مياه أنهار المدينة الثلاث، الدجلة، الكحلاء، المشرح، وتلتحم كجدار يقف بوجه النار، تجبرها على التراجع. سألتني:

" هل أُطفئت النار؟"

"لا أتذكر بقية الحلم."

" خير أن شاء الله، رؤية الماء في المنام، فأل حسن."

صدقتها، تذكرت أنها اعتادت كل مرة، اسافر الى بغداد، حينما كنت طالبا في الجامعة، كانت تودعني بطاسة ماء ترشها خلفي..

نظرت لسدرة البيت، تنشر أفياءها وظلالها الوارفة في الأركان، اكتست أوراقا خضراء صغيرة وجديدة، استعدادا لموسم التزهير الربيعي، طارت فأخته من أعلى أغصانها، وعندما صبت أمي شاي الصباح، من القوري الفرفوري، في الإستكانات المعدة للإفطار، هبت سحابة أجنحة عصافير حنية اللون، صخبت أصواتها المزقزقة مرحة في الهواء، نظرت عبر ساحة البيت المكشوفة، على سماء صباحية ذات زرقة صافية كالبلور، كانت السدرة الشيء الحقيقي الوحيد تلك اللحظة، ذكرتني بالخريف عند بداية السنة الدراسية في أيلول، حين تنوء أغصانها مثقلة بالثمر الأخضر، يمتلئ كل غصن فيها بمئات الكرات الخضراء الصغيرة، التي تتحول مع قدوم الشتاء، ثماراً صفراء مشوبة بلون برتقالي، شهية جدا، كانت امي تقول عندما نتلذذ بمذاقها المزيج بين الحلو والحامض، انه أول طعام أكله ابونا آدم، عندما هبط مطرودا من الجنة، وعندما سألتها ضاحكا، وماذا اكلت امنا حواء، ضحكت امي وقالت، حين رأت حواء الشجرة اشتهت أن تأكل منها كما يحدث عادة للمرأة الحامل، فاعطاها من المباركة حفنة، فأكلتها بشهية، فسألها ابونا آدم : أي الشجرتين اطيب، سكتت ولم تجب بشئ.

 السدرة المباركة موئل الطير وبين أغصانها يهدل الحمام، وهي السدر المخضود لأهل الجنة، والمحرم قطعها لقدسيتها ..

وفي نيسان، تفتقت أغماد الجمبد، فنشر الجوري ضوعه الفواح في بستاتين عواشه، الجدة، وحدائق السبع قصور، في هذه الأيام الربيعية الجميلة، انبعث تموز إله الخصب من عالمه السفلي ، وصعد للسماء، واستمرت الحياة على الأرض في مسارها الأبدي، تفاجأ الناس بحملة تفتيش واسعة، قادها الجهاز الأمني في المحافظة، بالتنسيق مع المنظمة الحزبية، والجيش الشعبي، كانوا يطوفون على البيوت بعد أن يخلد الناس للنوم، يوقظونهم للتدقيق في وثائقهم العراقية، يحشرون الذين دونت اسماؤهم في قوائم التسفير، بسيارات البك أب مع أمتعتهم القليلة، يزجونهم بمركز الحجز والإبعاد، في مخفر شرطة الخيالة  بالدبيسات، يعزلون النساء والأطفال عن الرجال والشبان، في قاعتين كبيرتين متلاصقتين، حتى اكتظتا بأعداد كبيره من الأسر الميسانية، المنتظرة دورها للأبعاد على شكل مجموعات متتالية، عبر منافذ حدودية مشتركة بين البلدين الجارين.

كان سليم الخماش يشرف بنفسه على العملية..

كان يقول لهم  متشفيا، وهم يصعدون الحافلات التي تنتظرهم أمام المخفر.

"عودوا من حيث أتيتم.."

نقل لي احد الشهود حديثا دار بين سليم الخماش، ورجل من المسفرين، كان شاعرا معروفا، في الخمسين من العمر.

" الى اين تسفروني!"

فرد عليه سليم الخماش بعنف:

" إلى جهنم " فرد على مدير الأمن:

"وهل هناك جهنم آخرى، أحلى من هذا الوطن، الذي أنبتني  كعشبة شيطانية، وحرَّقني لهيب شمسه، فنضج جلدي، كما تنضج جلود المعذبين في النار، وفي كل مكان فيه، ثمة  آثار لأقدامي، أعيدوا لي أحلامي، وسفروني..

  كما أني سمعت أنهم داهموا بيت شاب، كان يدرس الطب في جامعة بغداد، أعترضهم ومنعهم من الدخول، فدفعوه ودخلوا عنوة، وكان يقودهم الضابط فاخر خريبط، ولما سألهم ماذا تريدون، قال له ضابط الشرطة:

" جئتم حفاة  من وراء الجبل وجئنا لنعيدكم اليه عراة.."  فرد عليه ساخرا

" سنعود، إذا عدت أنت للصحراء التي جئت منها."

هجم عليه عناصر الأمن وأوسعوه ضربا وركلا حتى فقد وعيه، ونقل على إثرها الى المستشفى بين الحياة والموت.. والأسوأ من ذلك، أنهم كانوا ينتزعون من المسفرين وثائقهم الرسمية، التي تثبت عراقيتهم، عند ترحيلهم..

عندما شاهدت او تناهى لسمعي مثل هذا الجنون، تساءلت..

هذه البلاد فقدت عذريتها منذ القدم، واستبيحت مرارا.. وكانت مصاربع ابوابها مفتوحة على رياح العالم الأربعة، فهي مفتوحة دوما، ألم يعش فيها الغرباء من كل لون ويصبحوا من اهلها.. 

  جرت في تلك الأيام وبالخفاء، قبل حملة التسفير، بيع الأثاث والأجهزة الكهربائية، أما الحلي والمصوغات الذهبية، فقد أُخفيت بطرق مبتكرة وذكية عن أعين الحكومة، ورجال سليم الخماش المنبثين هنا وهناك. تجتمع النسوة في البيوت المنكوبة، للمساومة على شراء شئ من محتويات البيت بأسعار زهيدة جدا، وتحصل بعضهن عليها مجانا من جاراتهن المسفرات، لقاء تأمين اشياء ثمينة معنويا كألبومات الصور، او الهدايا التذكارية، اما المتلكات غير المنقولة فقد وضعت الحكومة يدها عليها بالمصادرة.

 

صالح البياتي

...........................

- حلقة من رواية بيت الأم

- العبارتان في اللهجة العامية العراقية،  تعنيان الإستنكار من شئ معيب.

 

في نصوص اليوم