نصوص أدبية

هيلا

صالح البياتيفي ليلة عيد ميلاد السيد الرئيس.

 داهم رجال سليم الخماش منزل الأستاذ مقبل، يقودهم ضابط الشرطة فاخر خريبط، فجاءت هيلا ترتجف خائفة لتخبرني، أسرعت فوجدتهم أمام المنزل، والخالة ام سعيد تقف فاتحة ذراعيها على جانبي الباب، تحاول منعهم من الدخول، دفعها أحد عناصر الأمن.. صرخت فيهم، ابتعدوا عن بيتي، ماذا تريدون ؟!

رد الضابط:

" جئنا لنأخذ هيلا لمخفر الشرطة، للتحقيق معها." فإعترض زوجها

" ما تهمتها...! أسألوني وأنا أجيبكم."

لم ينفع اعتراض الزوج، فالضابط كما عبر عن واجبه، مأمور بإحضارها للمخفر، ولم يفصح عن أي شئ  يتعلق بالأستجواب، ولما دافع الزوج عن حقه بمعرفة تهمة زوجته، زجره الضابط، لأن القضية لا تخصه كما قال، وإذا اراد ان يعرف فليأتي معهم للمخفر، وهناك يعرف كل شئ ، وأمره ان يجلب معه وثيقة جنسيتها.

قديما.. كان الضابط  فاخر خريبط  زميلي في المدرسة المتوسطة، إنتحيت به جانبا، أحاول اقناعه بالعدول عن اخذها الآن، فمن غير اللائق جر سيدة من بيتها ليلا، خاصة وأنها مُدَرِسه،  تعهدت بإحضارها لهم غدا صباحا ، لم يستجب لرجائي، وطلب مني عدم التدخل، وقال ليس عندنا استثاء لأحد..

أخذوهما.. جلس مقبل في الوسط، و التصقت زوجته الحامل، منكمشة بباب سيارة البك- أب، بينما توزع عناصر الأمن على مصطبتين على جانبي المركبة وأسلحتهم مرفوعة أمامهم، أقنعت الخالة أن تبقى في بيتها أو تذهب لبيتنا، تجلس مع امي، وطمأنتها أنى سألحق بهم فوار، وصلت لمخفر شرطة الخيالة، هناك توقفت أمام البوابة الحديدية العالية، وترجل الجميع..

فكرت بهيلا التي فقدت أباها طفلة، وعانت مرارة اليتم والوان الحرمان، حينما، لم تحتفل مرة واحدة بعيد ميلادها، وتجهز الآن ملابس واحتياجات طفلها الذي سيولد، ربما هي تحلم به الآن، وربما بعيد ميلاده الأول بعد اكثر من سنة، وسيدخل الطفل الأول الفرح الى قلب الأبوين، ويمسح غلالة الحزن التي وشحت أيامها..

لابد أنها قلقة وخائفة على زوجها، وتمنت أن ينتهي معها الاستجواب سريعا، فتعود معه للبيت ويندسا في الفراش الدافئ، وربما يتماحكان حول تسمية الطفل، كما يحدث عادة بين الزوجين، خاصة للمولود الأول.

في نفس الليلة التي قبض فيها على هيلا وزوجها، كان الرئيس يحتفل بعيد ميلاده الثالث والأربعين، وقفت هيلا وزوجها مقبل أمام سليم الخماش، وكان الاحتفال ينقل على شاشات التلفاز، وكان الرئيس منتشيا ببدلة الأنيقة البيضاء ، ومن فرط انتشاءه لم يشعر بأحد غيره، وكان الليل يزحف ثقيلا على بغداد، التي بدأت تستعد لمأتم طويل.

كنت معهما أثناء الاستجواب، سألها سليم الخماش عن اسمها وأسم أبيها.. فأجابته، ثم طلب شهادة الجنسية العراقية، فقدمها مقبل له، نظر فيها لحظة ثم رماها على مكتبه دون اكتراث، صوب نظرة احتقار وازدراء الى السيدة هيلا، وقال بنبرة استهزاء واستخفاف:

" أنت اجنبية.."

لم تجب هيلا، أسرع مقبل يرد عليه

" بل هي عراقية.."

ربما كان يريد أن يقول.. رغم أنفك.

زجره أحد ضباط الأمن وأسكته، كرر سليم الخماش، " أنت  اجنبية " وأضاف ومن التبعية الإيرانية، وثار جدل بين سليم الخماش ومقبل، حاول الزوج عبثا أن يدافع عن زوجته، ان يدحض قوله، بأدلة واقعية ملموسة: كتلقيها التعليم الابتدائي والثانوي في مدارس المدينة، والجامعي في بغداد، وأنها مولودة في العراق من أبوين عراقيين، وأن هذا كله مثبت في وثائقها الرسمية الصادرة من الحكومة.. وأنها تخرجت من الجامعة قبل سنتين، وحصلت على شهادة البكالوريوس في علم الفيزياء، وتُدرِسُ هذه المادة حاليا، في إعدادية البنات، وختم دفاعه كماحم يقوم بواجبه، اليس كل هذه الأدلة كافية على عراقيتها..

رد عليه الخماش

" أبوها ايراني.."

" كيف يكون إيرانيا وهو مولود في العراق ومسجل مع أفراد اسرته في كل احصاءات السكان السابقة؟!"

" الا تفهم.. أبوها إيراني.. من التبعية الإيرانية."

ومرة آخرى، جرفت مقبل موجة الحماس، وشعر أنه إذا لم يدافع عن زوجته بشراسة، فهو مقهور ويائس، مهزوم أمام جبروت هذا الرجل العاتي، الذي يعرف الحقيقة، ولكنه يزوغ، ينكر، ويحيد عنها، ويجحدها لأسباب سياسية.

 اضاف مقبل بعد ان يئس من اقناعه، أن أمها السيدة حليمة حاتم، امرأة عربية ميسانية، لم يقنع ذلك كله سليم الخماش. وأن ما قاله مقبل ليس له ادنى اهمية عنده، ولما سأله مقبل، ما الشئ الهام عندك، كان جوابه، التسفير الى ايران. هنا انفجر مقبل يائسا:

"ومن أمر به؟!

" السيد الرئيس.."

" أذن سفروني معها"

كنت اتابع كل كلمة قيلت بين الأستاذ مقبل ومدير الأمن، عند هذه النقطة، ماذا تتوقع ان يكون جواب المديرعلى طلب مقبل..

" لا انت عراقي وهي اجنبية " 

لم يكتفي بذلك بل امره ان يطلقها ويقبض مكافأة الرئيس لمن يطلق زوجته الأجنبية، واذا رفض فعقوبته الفصل من الوظيفة، ماذا تتوقع ان يكون رد مقبل على هذا العرض المجحف..

عندما نظرت الى هيلا، شعرت أن قدميها ترتجفان، ولا تقويان على حملها، فهمست للضابط الجالس جنبي أن يسمح لها بالجلوس، فنقله للمدير، الذي أومأ لها بالجلوس، جلست على كرسي مسند على الحائط  قرب الباب، شعرت بالراحة عندما استردت سكينتها وهدوئها، وأنها لم تشك لحظة واحدة بما سيختار زوجها، فهي تعرف أنه يحبها بجنون، حتى لو أغروه بكنوز الدنيا، فلن يتخلى عنها..

كنت شاهدا على قصة الحب العنيفة والطويلة بينهما..

حكى لي مقبل عن تلك اللحظة الرائعة التي وقع نظره على هيلا أول مرة. قال:

 لقد جمعنا الحسين على أنبل شيء في الحياة، ولن يفرقنا سوى الموت..

 خفق قلبه، عندما التقت عيونهما أول مرة، أصابه دوار لذيذ، كان وجهها المرسوم قمرا، في سماء ليل عباءتها، قد سلب عقله، كانت تقف بين النسوة المتشحات بالسواد، ليلة استشهاد الحسين، كما ينتصب تمثال ربة جمال في معبد إغريقي، وكانت مواكب العزاء تواصل مرورها في الشارع، وأضواء الهوادج تحيل ليلة العاشرمن محرم نهارا، ولكن جاذبية عينيها وسحر وجهها، كانا طاغيان على كل تلك الأضواء الساطعة، كان جمالها الفاتن، يفوق كل وصف، أسرت قلبه الى الأبد، كانا يلتقيان سرا، وفي قلبيهما وهج حب عذري لا ينطفئ، ثم خلا لهما الجو، عندما التحاقا بالجامعة.. كانت امه الدهلة في البداية، تعارض زاوجهما بشدة لنزعة عنصرية لم تكن قد تخلصت منها بعد، لكنها مع الأيام لانت ورضخت أخيرا، بتأثير الشيخ كاظم الموحان، وإصرار ابنها المطلق، وتأثير سعيد ونزعته الأممية، وأخلاق البنت الحميدة، التي حطمت حواجز العرق، فأحبت الدهلة هيلا وتعلقت بها بقوة، وأغمضت عينيها عن أسطورة الأنساب الكاذبة..

صرخ سليم الخماش، فبدد ذكرياتي الجميلة عن العاشقين:

"ها ماذا قررت؟"

انتشلني صوت سليم الخماش من حلم جميل، ليلقيني في جحيم كابوس مرعب.

أجابه مقبل بصوت خافت مرتعش من شدة الغضب والانفعال والإحباط..

" أنتظر قليلا.."

رفع مقبل رأسه الى صورة الرئيس المعلقة على الجدار، فوق رأس سليم الخماش..

توقعت ما يدور في راسه الآن، فخفت أن يجرفه تيار غضبه ويأسه، فيقول شيئا عن الرئيس، لا يحمد عقباه.. فقد كشف لي مرارا عن رأيه به، مستندا بذلك على التاريخ كمرجع هام، لمعرفة استبداد الحكام، الذين تعاقبوا على العراق، كان معظمهم حسب ما يعتقد،  قد غدروا بحلفائهم، كما غدر الرئيس الجديد برفاقه في الحزب، بعد استيلاءه على السلطة، كان مقبل يرفع رأسه وينظر الى صورته المعلقة على الجدار، فوق رأس سليم الخماش...

كان يقول لي، كمدرس للتاريخ، مطلع على احداث الماضي:

(الأقوياء دائما، ينكلون بأعوانهم، ويحطم بعضهم البعض، كما تحطم الجرار الخزفية بعضها، وأن الحاكم المستبد يرتعب من الموت أشد الرعب، ويظن أنه سيكون بمنجاة منه بمجرد أن يتخلص من إعداءه المقربين ..

جال في خاطري وأنا أنظر لمقبل، ما توقعت أن يحدث، فقبل بضعة أشهر، عندما أستُدعي للاستجواب بخصوص اختفاء أخيه الشيوعي سعيد، المطارد من جهاز سليم الخماش البوليسي، كانت صورة الجنرال العجوز (الرئيس السابق المُقال) وصورة نائبه الرئيس الحالي، يراهما المرء في الدوائر الحكومية، جنبا الى جنب في كل مكان.

خفت أن يخطر على بال مقبل الاسم البديل، الذي أطلقته الدهلة على الرئيس، فيجهر به أمام الحاضرين، فتكون الطامة الكبرى، سمعته بعد أن أنزل نظره عن صورة الرئيس، يتكلم هذه المرة بثقة واطمئنان، وبنبرة قوية، رن صداها في أرجاء الغرفة قال:

" أعلن أمامكم.. أنا مقبل، المُدَرِس في إعدادية العمارة.. أنني سأطلق زوجتي هيلا مظلوم، المُدَرِسة في ثانوية العمارة.."

 سكت قليلا يلتقط أنفاسه المتلاحقة، والتفت الى زوجته، وتبادلا نظرات طويلة ثم نظر للمدير، وأكمل كلامه..

" بشرط واحد.."

أنتفض المدير صارخا:

" أي شرط.. من أنت يا كلب حتى تشترط "

لم يعر مقبل اهتماماً لسليم الخماش، واصل كلامه، دوى صوته كالرعد:

" بشرط أن يطلق الدريع زوجته القبيحة.."

أنتفض المدير غاضبا.

" شنو.. منو الدريع؟"

قام ضابط الشرطة فاخر خريبط من مكانه، ودنا من المدير، ودار حول كرسيه، وهمس في أذنه.

قلت لنفسي، لقد أخبره الخبيث بمعنى الكلمة.*

هذا اللقب اختارته الدهلة للرئيس، لاعتقادها أنه يليق به. لقد سمعتهم يتداولونه في بيتهم عندما يأتي ذكر الرئيس، أو يشاهدونه في التلفاز..

أستوى سليم الخماش واقفا منتفضا، أندفع كالملدوغ، خبط بسبب هياجه طاولة في وسط الغرفة، أنقض كالمجنون على مقبل، صفعه بقوة على وجهه، فطارت نظارته الطبية في فضاء الغرفة، وارتطمت بالجدار وتشظت.. رد مقبل صفعته بأقوى منها، نزلت مدوية على عيني سليم الخماش، فطار الشرر منهما..

صرخ المدير متألما، قام الضابطان، ومعهما المفوض فاخر خريبط، وانهالوا على مقبل يضربونه بوحشية، حتى ترنح وهوى على الأرض، فاخذوا يركلونه وهو ينزف ويتلوى من شدة الألم، حتى خيل لي أنه هالك لا محالة بين أيديهم.. كانت هيلا تصرخ وتبكي، تسمرت في كرسيها من هول المفاجأة، لا تطيق حراكا..

سمعت في تلك اللحظة صرخة مكتومة خرجت من حنجرة هيلا، لم يسمعها أحد سواي..

" انكسرت أيديكم.."

أمسكت يدها وساعدتها على الوقوف، وقدتها برفق خارج الغرفة.. فوجدت أمها تبكي عند الباب.. لم أستطع ان أفعل شيئاً لهما، سوى التعاطف، وقد ندمت على مجيئي، وأنبت نفسي في السر، وقلت في نفسي، إذا كنت عاجزا تماما عن فعل اي شيء، فلماذا أتيت.!

احتضنت الأم أبنتها، وراحتا تبكيان بمرارة، فدفعهما شرطي الى غرفة حجز النساء، نظرت من وراء قضبان نافذة صغيرة في أعلى الباب، كانت هناك نسوة كثيرات مع أطفالهن، ينتظرن إبعادهن الى أيران..

 

صالح البياتي

حلقة من رواية : بيت الأم

....................

- الدريع: تعني باللهجة الميسانية، الشخص الفارغ، السخيف، الناقص العقل

يتبع رجاء

 

في نصوص اليوم