نصوص أدبية

النهاية

علي القاسميقررتُ مساءَ أمس أن أُحدِّد تاريخَ وفاتي بنفسي، وأُشيِّع نعشي بنفسي، وأُسوي مراسم دفني بنفسي، وأدبّج كلمات رثائي الزائفة بنفسي. فقد استجدّ عصرَ البارحة ما جعلني أعقد العزم على ذلك.

قررتُ أن يرافق موتي صخبٌ لا يقلُّ عن الصخب الذي صاحب ولادتي، ودويٌّ لا ينقص عن الدويِّ الذي أعقب مجيئي إلى هذا العالم، دويٌّ مثل دويِّ طلقة بندقية صيد، مثلاً. فالموت، في تقديري، ليس بأهون من الولادة، والنهاية ليست أدنى شأناً من البداية.

أخبروني، عندما كنتُ طفلاً، أنّ صراخي عند الولادة فاقَ صيحات أُمّي أثناء طَلْقها، وأَنَّني واصلتُ البكاء والعويل والنحيب، بصوت عالٍ يحسدني عليه كثيرٌ من محترفي الغناء الذين لا يُطرِبون، مدةَ أربعين يوماً بليلها ونهارها، كأنّني كنتُ ألتزم بمدَّة حدادٍ رسميَّةٍ على فراقي عالم الرحِم الساكن الآمن، ونزولي إلى هذا العالم المضطرب الغريب.

أعترف أنّني لم أواظب على إحداث تلك الضوضاء في جميع مراحل عمري. فمنذ أنْ تقاعدتُ قبل ما ينيف على عشر سنوات، وأنا أعيش في هدوءٍ تامٍ وسكونٍ كامل أقرب إلى الخمول، في هذه الشقَّة الصغيرة الحقيرة، الواقعة عند مدخل هذه العمارة القديمة، الرطبة، القذرة، دون أن يتعرَّف عليّ سكّانها، ودون أن أتعرَّف عليهم. أعيش هنا منذ أزيد من عَقْدٍ كاملٍ من السنين، دون أن يَسمع الجيرانُ صوتي ولو مرَّةٍ واحدة.

تنوح وحدتي في أعماقي دون أن يسمعها أحد، وتئن جراحي بين ضلوعي من غير أن يدري بها مخلوق. فأنا لا أبوح لأيِّ شخصٍ بما يعتمل في داخلي، ولا أتحدّث مع الجيران في أمرٍ من أموري ولا أمورهم. بل قلّما رأوني، فنادراً ما أغادر شقّتي. وإذا ما حصل أنْ ذهبتُ إلى السوق لشراءِ بعض الطعام الضروريّ، فإنَّ وقت خروجي لا يتزامن مع غدوهم إلى أعمالهم في الصباح، أو عودتهم إلى منازلهم في المساء، فلا يلتقون بي ولا ألتقي بهم. وأنا، في واقع الأمر، لا أعرف أحداً منهم، وأشكُّ في استطاعةِ أحدٍ منهم أن يتعرَّف على وجهي أو هيئتي.

لا أخرج للتمشِّي في الشوارع، ولا أرتاد المقاهي. ليس ثمَّة ما يشجِّعني على ذلك، فوجوه الناس قد اغتسلت بنهر العبوس والكدر، وعيونهم تطلُّ منها التعاسةُ بلا استحياء، ولا أثر لبسمة على شفاههم اليابسة المطبقة. ويسرعون في سيرهم بطريقة تثير أعصابي، كأنَّ ريحاً عاصفةً تدفعهم من خلف، أو وحشاً مفترساً يطاردهم. وهم لا يتبادلون الكلام فيما بينهم. كلٌّ يهرول بمفرده في وديان الصمت، وهو ينوء تحت حمل ثقيل من الهمّ والقلق.

أقتل وقتي في مشاهدة التلفزيون، ومطالعة الصحف التي ألتقطها، بعد أن يرمي بها أصحابها. أستخدم سمّاعات الأُذنين عند مشاهدة التلفزيون، فلا يتناهى أيُّ صوتٍ إلى إنسان غيري، حتّى لو كان في الغرفة نفسها. ولهذا فالشقّة صامتةٌ ساكنةٌ، صمتَ المقابر وسكونها. غير أنّني لا أجد جديداً في ما أقرأ أو أسمع. الأخبار هي ذات الأخبار المكرَّرة المُحزِنة، الفرق الوحيد بينها يكمن في المكان أو الزمان، أمّا الموضوع فهو واحد: الأقوياء من البشر يأكلون الضعفاء، كما تأكل الضباعُ المتوحِّشة صغارَ الحيوانات في الغاب. والأغنياء يزدادون غنىً ورفاهاً، أمّا الفقراء فيُمعِنون في فقرهم وتعاستهم.

ولا أستطيع متابعةَ ما يُعرَض على شاشة التلفزيون بصورةٍ مفهومةٍ، أو استمتع به كما أروم. فإعلاناتُ بيع مساحيق الغسيل ومواد التنظيف، تقاطع البرامج بين وهلةٍ وأُخرى، كأنّها تذكّرنا دائماً بوساخة هذا العالم الذي نعيش فيه وقذارته. أضفْ إلى ذلك، أنّني غالباً ما تغشاني سكراتٌ من النعاس بين الفينة والأخرى، وأنا جالس على مقعدي قبالة التلفزيون.

لا جديدَ تحت الشمس ولا فوق الأرض. فكلُّ يومٍ نسخةٌ مكرَّرةٌ باهتةٌ من اليوم الذي سبقه. أتناول نفس الوجبات التي لا تتطلَّب طهياً ولا إعداداً. فأنا لم أتعلَّم الطهي أبداً. وليس لجسمي الناحل شهيَّة كبيرة، ولا يعرف الشره في الأكل والشرب. قطعةٌ من رغيفٍ مغموسة في زبدةٍ مع كأسٍ من الحليب تكفيني تماماً. ولهذا فمعاش التقاعد الضئيل يغطي مصاريفي، بل حتّى إنّني أستطيع ادخار قليل منه.

لا جديد في حياتي أبداً، إن كنتَ تسمّى وجودي حياة. لا جديد مطلقاً، سوى أنّني ألاحظ أنَّ الزمن أخذ يسلبني ما قد وهب. أُحسُّ تدهوراً في قواي الجسدية، وضعفاً في ذاكرتي. لم أعُد أذكر ما فعلته قبل يوم أو يوميْن، ربّما لأنّه لم يعُد مهمّاً بالنسبة إليّ. ولكنّني صرتُ أنسى كذلك أين وضعت حوائجي في الشقّة على صغرها، فأبحثُ عنها في كلّ مكان. وبانحطاط ذاكرتي التدريجيّ لم يبقَ لديَّ ما أواجه به الكِبَر. لقد أخذت ذكرياتي تختفي شيئاً فشيئاً، ولم يعُد ثمَّة ما يربطني بنفسي، ولم يعُد ثمَّة ما يصلني بهذا العالم، ماضيه، حاضره، مستقبله.

ويوماً بعد يوم، أشعر بتصلُّبٍ في أطرافي. فَقَدَ جسدي مرونَته وتخشّب. صار مثل جذع شجرةٍ مُعمِّرةٍ هوت بها ريحٌ عاصفةٌ وانفصلتْ عن جذورها. ويوماً بعد يوم، أُحسّ تضاؤلاً في رصيد لغتي. ربّما لأنَّني قلّما أستعملها. نعم، أتحدُّث مع نفسي أحياناً كي أشعر أنَّني ما زلتُ على قيد الألم. ولكنَّني لم أًعُد أجد الألفاظ التي تعبِّّر عن غايتي. المعاني تطير من فكري، والكلمات تجفّ على شفتيّ. كانت الكلمات تربطني بهذا العالم مثل حبال شراع السفينة، ولكنّها راحت تتقطَّع واحداً بعد آخر. ستتمزّق أشرعتي عند هبوب أوّل ريح، وستغرق سفينتي لا محالة.

اعْتَدتُ على رؤية جدران شقّتي الضيِّقة الحقيرة وأثاثها البالي، يوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر، وعاماً بعد عام. اعتدتُ عليها جداً لدرجة أنّني لم أَعُد أراها. السرير الذي لا رأس له ولا ذيل هو نفسه، والفراش الخالي ذاته، والوسادة الوحيدة المتّسخة هي هي، والصور القليلة التي أطّرْتُها وعلَّقتها على الجدران منذ عقود من السنين وفيها بعض أقاربي الذين ماتوا منذ زمن بعيد، لم تَعُد تعني لي شيئاً. تلك الصور تحتوي على أشخاصٍ آلوا إلى العدم، فهي، في الحقيقة، فارغة، لا تمثل صوراًلموجود، وإنّما للعدم الذي لا صورة له. وهكذا فأنا لا أراها حتّى إذا وقعت عيناي عليها. لا أُبصرُ فيها شيئاً. مجرَّد إطاراتٍ عديمةِ الشكل، خاويةٍ من كلِّ مضمون.

قررتُ أن أتولَّى دفنَ نفسي بنفسي، لأنّني وحيدٌ لا أسرة لي ولا أقارب، من قريبٍ أو بعيد. مقطوعٌ من شجرة، كما يقولون. لم أتزوَّج قطّ . لم أُرِد أنْ أكون مسؤولاً عن شقاءِ امرأةٍ أو عذابِ طفلٍ في هذه الدنيا. يكفيني ما أنا فيه من سأم وتعاسة. ترمَّلتْ أُمِّي أثناء حملها بي، فربَّتْني يتيماً. وقبل أن ألتحق بالمدرسة الابتدائيّة التحقتْ أُمِّي بأبي في عالم الأموات. فتحمَّل جيرانُها مشقَّةَ دفنها، وإرسالي إلى مدرسة للأيتام. ولهذا فأنا لا أريد أن يتحمّل جيراني عبءَ دفني. سأسوي أَمْرَ جنازتي بنفسي.

أمضيتُ زهاء أربعين عاماً في غرفةٍ شبه مظلمة يسمّونها ل" مكتب الضبط والوارد والصادر" في قبو الشركة التي استخدمتني قبل أنْ أنهي دراستي الثانوية.وكنتُ أضع الأعداد المتسلسلة على الخطاباتِ التي ترِد على الشركة والتي تصدر عنها. أستعمل الأرقام ذاتها في جميع الخطابات. لا يختلف عددٌعن عددٍ إلا في ترتيب الأرقام المكوِّنةله. الأرقامُ نفسها من الصفر المُصفَّر إلى التسعة التعيسة. وعندما أعود إلى شقّتي الحقيرة في آخر النهار، لا أجد فرقاً بين جدرانها وجدران المكتب الذي فارقتُه قبل قليل.

قررتُ أن أتولى دفن نفسي بنفسي، ولا أترك الأمر لأحد غيري، فما حكّ جِلْدَك مثلُ ظفرك، كما يقول المَثَل القديم، فكيف والمسألة هنا لا تتعلَّق بمجرَّد جِلدٍ وإنّما بجثمان كامل؟ سأتّصلُ بعد قليلٍ بشركة دفن الموتى، وأتّفقُ معهم على التفاصيل جميعها. سأختار المُرتِّلين بنفسي، وأحدِّد لهم مواضع جلوسهم حول الجثمان في هذه الشقَّة الحقيرة بنفسي. وأطلب منهم إسماعي مقدَّماً السُّوَرَ التي سيرتِّلونها والأدعيةَالتي سيتلونها على النعش قبل أن يحملوه إلى المقبرة. بل سأختار حتّى الكفن الذي يغطِّي جثماني. سأتحرَّر من لون الكفن الأبيض التقليدي. سأقلب الأشياء قليلاً، وأخرج عن المعتاد، فقد قتلني المعتاد سأماً طوال حياتي. سأختار اللون الورديّ لِكفني، واللون الأخضر الفاتح للتابوت. سأنتقم من اللونين الأبيض والأسود، ففي كلِّ يومٍ كنت ألبس في عملي قميصاً أبيضَ وبذلةً سوداء.

سأتولى دفنَ نفسي بنفسي. هذه الفكرة التي استهوتني انقدحتْ في ذهني مثل وميض البرق في ليلةٍ كالحةِ الظلمة، بعدما طرقتْ بابي أمس حارسةُ  العمارة المجاورة لتخبرني، وهي تنظر من فوق كتفي إلى داخل شقتي، كأنَّها تبحث عن شيء فَقَدَتْه، أنّ السيّد محمّد الصرّاح قد لفظ أنفاسه الليلة السابقة. واكتشفتْ هي الأمرَ بالمصادفة المحضة. لا أدري كيف استدلّتْ على مكاني.

ـ "ولماذا جئتِ إليّ أنا بالذات، يا سيدتي؟"

لقد رأتْه ذات يومٍ يقف على باب شقتي. كان مجرّد زميل لي في العمل، وأُحيل على التقاعد قبلي. ولم يأتِ إليَّ سوى مرة واحدة. جاء ليقترض بعض النقود. ولمّا لم يستطع تسديد الدَّين، ما عاد إليّ أبداً.

ـ " وماذا أستطيع أن أفعل من أجله، يا سيدتي؟"

أجابت، وهي تتلفتُ إلى الوراء، كأنّها تنتظر وصول شخصٍ عزيزٍ عليها، أنّني الوحيد الذي أعرفه، ولا بُدَّ من دفنه.

كان عليّ أمس ـ وبدافع من بقيَّة نخوةٍ، أو خجلٍ من حارسة العمارة ـ أن أكتري عربةً رخيصةً ليست مخصصةً لنقل الموتى، لحمل جثمان زميلي السابق إلى المقبرة. وكنتُ المُشيِّع الوحيد. فحارسةُ العمارة رافقتني حتّى باب العمارة فقط. وبقيّة السكان في شغلٍ شاغل. لا وقتَ لديهم لإضاعته في تشيع جارٍ لا يعرفونه. لقد فقدوا حتّى حبَّ الاستطلاع، فلم يُطلّوا من الشبابيك، على الرغم من أنني كنتُ أرفع صوتي الأجش بـ " الله أكبر. لا إله إلا الله…" وأنا أُخرِج قطعةَ الخشب التي سمَّيتُها تابوتاً من العمارة، يعاونني على حملها سائق عربة النقل، وكأنّه ينقل قطعةَ أثاث قديمة. ثم انطلقتُ معه ـ أقصد السائق ـ إلى المقبرة، وهو يدندن في الطريق بأُغنيةٍ عاطفيّةٍ شعبيّةٍ لا علاقة لها بالموت ولا بالحياة. لم أقرأ في الطريقِ سوراً من القرآن على روح الراحل. فأنا لم أحفظ شيئاً يُذكَر من القرآن. وما حفظته في المدرسة نسيتُه منذ زمنٍ طويل. ولا تضمُّ شقّتي نسخةً من القرآن، ولا من أيّ كتاب آخر. لم يكُن لي موردٌ كافٍ لأبدِّده في شراء كتبٍ لا أقرأها.

استأجرتُ حفّارَ قبورٍ وجدتُه في المقبرة المُجدِبة العارية من أيِّ نباتٍ، خارج المدينة. قام بعمله صامتاً كئيباً. لم يكُن صمته وكآبته حزناً على زميلي. لا شكَّ في ذلك. ربَّما أَورَثه عملُه تلك الكآبة، وأَملتْ عليه مهنتُه ذلك الصمت. فهو في شغله يتعامل مع صخورٍ وأحجارٍ وأموات.حفرَ جدثاً ضيّقاً وغير عميق. أَهالَ على الميت قليلاً من التراب لم يغطِّه تماماً. لم يعجبْه الأجرُ الذي دفعتُه إليه وقبضه قبل أن يبدأ العمل. لم يكُن لي خيار وليس له خيار، هو الآخر. انصرفَ دون أن يُلقي بالاً لملاحظتي عن عمق القبر، وعلامات السخط بادية على وجهه، وهو يتمتم بكلمات لم أسمعها. لا شكَّفي أنّها لعناتٌ صبّها عليّ وعلى الميِّت معاً. انتابتني نوبةٌ من الشهامة،فقمتُ باستكمال العمل بنفسي، فأهلتُ التراب على القبر، فقد خِفْتُ أن تأتي الكلابُ ليلاً، وتنهش الجثةَ شبه العارية. ولكن بعد أن انتهيتُ والعرق يتفصَّد من جبهتي وجسدي تساءلت: "وهل يَضيرُ الشاةَ سلخُها بعد ذبحها؟"

عدتُ إلى شقّتي مساءً، خائر القوى مكتئباً. وتهالكتُ على الأريكة الوحيدة. وفي تلك اللحظة قرَّرتُ أن أتولَّى ترتيب دفني بنفسي. فقد ادخرتُ مالاً يكفي لجنازة تليق بي. فإذا كنتُ لم أستطع أن أحيا حياةً لائقة، فَلْأمت ميتةً لائقةً، على الأقل. وعلى كلِّ حال، لمَن أخلِّف مدَّخراتي بعد موتي؟

اتصلتُ صباح اليوم ـ بالهاتف العمومي الكائن في الميدان ـ بشركةٍ محترمةٍ لدفن الموتى المحترمين. كانت إحدى سياراتها الجديدة قد استرعت انتباهي ذات يوم، وهي مطليّة باللون الأسود، وعليها آيات قرآنيّة بالخطِّ الكوفيّ، واسم الشركة ورقم هاتفها بخطٍّ أكبر.

أرسلتِ الشركةُ مُمثِّلاً عنها إلى شقّتي. ناقش معي جميع التفاصيل مدَّة ساعتيْن. اتفقنا على أجرة النقل، وعدد المرتِّلين ومكافأتهم. طلبتُ أن يكون عددهم سبعة. لا أدري لماذا يستهويني العدد سبعة. كنتُ أتفاءل به منذ صغري. وأطلعني ممثِّل الشركة على الآيات القرآنية التي سيرتِّلها المرتلون على نَعشي، قبل نقله من الشقّة، وكذلك بعد إنزالي في الجَدَث. لا أستحضر تلك الآياتِ حرفيّاً ولكنَّها أعجبتني. كانت مليئة بكلمات الجنة، والنعيم، والعيون، وحور العِين، والفاكهة، وأنهار الخمر والعسل. واتَّفقنا كذلك على مقاسات الجدث طولاً وعرضاً وعمقاً، وارتفاع شاهد القبر. سألني عن تاريخ الميلاد والوفاة التي يجب كتابته على شاهد القبر. تذكرت تلك الحكاية عن المدينة التي لا يسجِّل أهلها على قبورهم إلا عدد الأيام السعيدة التي عاشوها، فطلبتُ منه أن يكتبوا على شاهد القبر: : " هذا قبر جَبر، من رَحِم أُمّه إلى القبر." ودوَّن كلَّ ذلك في عَقْدٍ كان مُعدّاً سلفاً، ويشبه تلك العقود التي كنتُ أُضيف إليها رقماَ وتاريخاَ في شركتي القديمة. ووقّعنا ـ نحن الاثنين ـ على العقد، فأصبح تاماً نافذاً، وسلّمتُه المبلغَ المُتَّفَق عليه نقداً لقاء إيصال، وانتهى كلَّ شيء.

قال لي مُمثلُ الشركة:"في الحقيقة لم ينتهِ كلُّ شيء تماماً. إنّ العقد ينقصه شيء واحد فقط، هو تاريخ النفاذ." وتطلّع إليّ مُستفسِراً.

نظرتُ في عينيْه، وابتسامة ساخرة تحاصر شفتَيّ، وقلتُ له بلا تردُّد:

ـ " هذا أمرٌ في غاية البساطة. غداً صباحاً. يوم غد. فهو يومٌ آخر كبقيّة الأيام. لا فرق. ولنقُل الساعة الثامنة صباحاً، ساعة بدء العمل لديكم."

ـ "والمكان؟"

ـ "هنا في هذه الشقّة. وعلى هذا السرير بالضبط."

وسلّمته مفتاح الشقّة.

***

قصة قصيرة

بقلم: علي القاسمي

.....................

- نُشِرت هذه القصة في: علي القاسمي، أوان الرحيل (الدار البيضاء: دار الثقافة، 2010)  صص 135ــــ 146.

- علي القاسمي، الأعمال القصصية الكاملة ( بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، 2012) ص ص 303 ــ 309.

 

 

في نصوص اليوم