نصوص أدبية

مفاجأة..!

صالح البياتيكنت أفكر بتلك المزارات والعتبات المقدسة، وارتباطها العاطفي والنفسي مع شقاء وعذابات الفقراء على امتداد أزمنة الظلم والجور، التي تعاقبت على البلاد.. جاءت سيناء تسألتني، وكنت غارقا في لجة أفكاري:

"بم كنت تفكر؟"

كنت على وشك أن أقول لها بكِ، لكني لم أحب ان أكذب في أمر جدي،  يتعلق بحبي ومشاعري تجاه سيناء، قلت:

" بشيء لا يتعلق بنا."

" عدت تقول أشياء لا أفهمها، لا أدري كيف كنت تدير مصرفاً مشهورا، بأفكار غريبة!"

"على فكرة سيناء، ذكرتني، لم تعد بي حاجة بعد لتمديد أجازتي، سأقدم استقالتي هنا في بغداد، وسأتفرغ للأعمال الحرة، كما أنى سأترك الحزب أيضاً، عندما نستقر في بغداد"

 لم تقل سيناء شيئا، سألتي:

" ما هذه الورقة التي على شكل قائمة بأشياء وأدوات كهربائية ومنزلية وأشياء أخرى كثيرة، وجدتها في المطبخ!"

" أوه، نسيتها على أحد الرفوف، هذه أشياء جردتها في أحد محلات بيع الأثاث المستعمل، في مدينة الحرية، دخلته صدفة ، لأسأل صاحبه عن منزل صديقي يوسف، كان المحل يغص بهذه الأشياء المدرجة بالقائمة، التي كانت قبل أيام في بيوت المسفرين الى إيران"

حكيت لها عن الرجل.. كان اليوم جمعة، وقدعرفته، فهو نفسه البواب في مستشفى الطب الذري، لا يسمح بالدخول لأحد من المرافقين للمرضى، ما لم يعطيه شيء من النقود، سألته إمراة أثناء وجودي في المحل، عن الأشياء التي أوصته بها، أهي موجودة، أجابها كلها جاهزة لتستلمها، عدا ماكنة الخياطة برذر، وأكد للمرأة انه سيعثرعليها في احد منازل المسفرين، قال لها " اطمئني، إعتبريها من الآن في بيتك، ثم التفت الي وقال " عفواً، سأغلق المحل الآن، حان وقت الصلاة، لا أريد أن أتأخر وتفوتني صلاة الجمعة، فسألته انا عن صديقي يوسف، فدلني عليه، وهو يغلق المحل، ويسرع راكضا للجامع، عندما رأيت يوسف سألته عنه، فعرفه، وقال ان اردت سآخذك حيث يصلي، وستراه في الصف الأول، ابنه يدير المحل طوال أيام الأسبوع عدا الجمعة، عطلة الأب من العمل في المستشفى، يعود بعد انقضاء الصلاة، ويبقى حتى حلول الظلام، يتاجر بأثاث المسفرين، وعندما يدخل بيتاً لتصفيته، لا يترك وراءه سوى جدران عارية، حتى الصور الشخصية المعلقة ينزعها من إطارتها، يذكرني بسمكة العجوز سانتياغو، التي نهشتها القروش حتى استحالت لهيكل عظمي، فتركها على شاطئ البحر ليراها الناس.

" أحصيت في هذه القائمة التي تركتها على أحد رفوف المطبخ، مائة مادة مختلفة إلا واحدة، المادة الوحيدة التي لم أدونها في ذيل القائمة، أتعرفين ما هي يا سيناء!"

" لا.. ما هي؟"

"الوطن يا سيناء، المادة الوحيدة التي لا تباع ولا تشترى، هل علمت الآن لماذا كانت غير مكتوبة!"

" كيف استطعت أن تذكرها كلها!"

" انطبعت صورها في ذاكرتي، وعندما اختليت بنفسي تذكرتها ودونتها في القائمة." 

صباح يوم الأحد، ذهبنا لمستشفى الطب الذري، كان ذاك آخر موعد، وكان الصيف في بغداد لا يطاق، الهواء خانق، والناس متوجسون من شيء خطير، يتوقعون حدوثه قريبا، ففي ساعات الصباح ، كان المجهول يتربص بمصائر الناس، أفاع سامة تزحف ببطء ولكن دون هوادة.. ورغم ارتيابي من حقيقة نبوءة المندائي، وبأنها كشف للغيب، ولكني في ذاك الصباح الصيفي البغدادي، الذي لن أنساه أبداً، استعدت في ذهني ما قاله الشيخ كاظم الموحان، عندما تكلمنا لأول مرة عن الحرب،  في جامع النجارين.

لا زلت أتذكر كلامه عن المشيئة الإلهية وعدم تدخلها  في شؤون البشر، إلا بعد فشل محاولاتهم المتكررة، وعجزهم عن منع ودفع الشر أو الظلم الذي يحيق بهم، ولكن إذا بقوا مكتوفي الأيدي؛ فسينزل الله بهم عقاباً صارماً، حروب وفتن داخلية..

 ولكني أتساءل الآن، حتى يحين الوقت ليتدخل الله، كم من الأبرياء سيهلكون، في حرب ستكون طاحنة، وسيتصاعد لهيبها بضراوة، حارقاً كل ما يعترضه من بشر وحجر وشجر ومدر، لمجرد كسر إرادات وتصفية حسابات قديمة.

أهذا حقاً ما يريده لله لعباده..

وعندما عدنا للشقة بعد الجلسة الإشعاعية، وكانت أمي تعاني من إرهاق شديد، بدا واضحا على محياها، ولكنها على الرغم من ذلك، أصرت على إنهاء حكايتها، ولم يفد احتجاجي بتأجيلها حتى انجلاء الأمر، ولم تصغ لي أو تلتفت لكلامي، عندما قلت لها أن حدثا خطيرا داهما، يوشك أن يحدث، وأنه أخذ يطرق الأبواب بقوة واندفاع، مستندا على مقدمات غريبة، مستله من كتب التاريخ المزورة، ومتذرعا بأسماء حروب قديمة، جمرة الحرب توشك أن تتوهج، من تحت رماد قرون موغلة في القدم، بمجرد نفخة بسيطة.

 كانت سيناء وابوها خارج البيت، أخبرانا عندما خرجا صباحاً، أنهما سيعودان عند المساء، كانا مدعوان على الغداء عند قريب لهما في مدينة المنصور.

سألتني أمي:

"أين وصلنا في المرة السابقة يا نوح؟ "

"لا أتذكر"

" الله يلعن الشيطان والنسيان، فهما سبب البلاء في الدنيا، وعكسهما الذكر والأيمان هما شيء واحد، وبهما تطمئن القلوب."

" اليس النسيان نعمة كما يقال!"

" نعمة إذا كنت تنسى أخطاء الأخرين وتسامحهم، أين نحن.. أين وصلنا ...؟"

فجأة.. صاحت

"ها  تذكرت الآن.."

البنت المسكينة كانت تريد دمية الصبر، هدية من الأمير، ولما قال انه لم يسمع بدمية بهذا الاسم، قالت له: لا عليك ياسيدي، أسأل عنها في السوق وسوف يدلوك على البائع وهو يعرف ما أريد..

سافر الأمير مع زوجته الحسناء، وقضى أسعد الأيام في ضيافة ملك بلاد الخزامى، أغدقوا الهدايا على عروسه الجميلة، وقبل يوم عودتهما، تذكرالهدية التي وعد بها خادمته، ذهب بنفسه الى السوق ليشتري الدمية، دلوه على الدكان الذي يبيعها، سأل البائع هل لديك دمية الصبر، أندهش البائع ولكنه أجاب الأمير، نعم عندي يا سيدي الأمير، ولكن استميحك العذر، لمن يريدها سيدي الأمير، قال لخادمتي، قال البائع، ولكن ياسيدي يجب أن تراقبها وهي تحكي قصتها للدمية، قال الأمير سأفعل، ودفع ثمنها، فلفها البائع بقطعة قماش وأعاطها للأمير.

 قاطعت أمي لأخبرها، أن موسى الكيال نقل سند ملكية بيته في السبع قصور، هبة بإسمي، منذ عدة سنوات، وأن السند وصك مصرفي بعشرة آلاف دينار،  وجدتهما داخل الرسالة، التي لم أفتحها إلا اليوم، لا كما وعدته أن أقرأها يوم عقد قراني على سيناء، وعلى كل حال، غدا كما تعلمين سنحتفل بهذه المناسبة، كانت مفاجأة بالنسبة لي، لم أتوقعها أبداً، ولا أدري ماذا أفعل، هذه أمانة وعليَّ الحفاظ عليها حتى يعود، ولكني سمعت أخيراً أخبارا مقلقة عن المسفرين، تتحدث عن  موت أطفال صغار، ورجال مسنين ومرضى ، بعد ان رموهم كنفايات على الحدود، والبعض قتلوا بالغام مزروعة في الأرض، أثناء إجتيازهم الحدود مشيا على الأقدام، وأخشى إن كان الكيال من بينهم، وسواء مات في الطريق قبل وصوله الى إيران، أو لم يمت، فلا بد أن أحتفظ بهذه الأمانة، ولا اتصرف بشيء منها، حتى اسلمها له، أو لولده الدكتور ممتاز في لندن.

" قولي ماذا أفعل يا أماه ؟ "

"هذا ميراث."

" ماذا تقصدين. أي ميراث!"

لم ترد عليَّ، كررت عليها السؤال، فسمعت شخيرها المتقطع، نامت قبل ان تجيب على سؤالي المحير، أخذت مروحة يدوية وحركتها فوق رأسها..

في الصباح، كنا جميعاً على مائدة الطعام، أعدت لنا سيناء إفطاراً شهياً بيض مقلي بالزيت والثوم والبصل، وقشطة رائعة من حليب الجاموس الدسم، مربى المشمش والصمون الحار، بالإضافة للشاي الذي أعدته بطريقتها المميزة، إفطار يليق بمناسبة هذا اليوم، الذي سيعقد فيه قراننا، كنا نأكل بشهية، ولكن أمي كانت ترفع قدح الشاي بأصابع مرتعشة، لأول مرة أراها بوضع كهذا، نظرت اليها وقلبي يتقطع من الألم، وهي ترتشف الشاي الساخن رشفاً، وتنزل القدح من يدها ببطء للطاولة الصغيرة.. وكانت نظرة سيناء لأمي تشف عن حزن وألم، وهي تطيل النظر الى وجهها الشديد الشحوب، كنت قد أخبرت سيناء في المطبخ أثناء إعدادها للطعام، عما تضمنته رسالة موسى الكيال، وما قالته أمي عن ميراث، لا أعلم عنه شيء، ولم أفهم ماذا كانت تقصد، شيء حيرني، وأطار النوم من عيني ليلة البارحة، همست سيناء بإذني، تمهل عليها قليلاً، ترفق بها، ربما هو المرض الخبيث الذي أخذ ينهش بها، جعلها لا تعي ماذا تقول، قلت، أتقصدين أنها بدأت مرحلة الإحتضار، قالت سيناء هامسة، لا أدري. قلت:

" ماما هل تشعرين بألم، لماذا يدك ترتعش؟"

" لا شيء مجرد صداع خفيف، لا تقلق عليً ، أمك قوية."

" ماما.. ماذا كنت تقولين أمس عن أمانة موسى الكيال؟"

"هذه ليست أمانة، هذا جزء من حقك في الميراث". صرخت:

"ماذا تقولين أي ميراث!؟"

" حصتك من ميراث أبيك."

" ماذا، أبي من أبي!؟

ساد صمت ثقيل، وتوقف الجميع عن تناول الطعام، كنا ننزل أستكانات الشاي من ايدينا، ونضعها ببطئ على المائدة، وينظر بعضنا دون كلام لبعض.

وبدلا من التوضيح الذي كنت أتحرق لمعرفته، راحت تتذرع بضرورة إيصال القصة الى نهايتها، وكلما ألححت عليها واجهتني بحزم.

" إصبر، وستعلم كل شيء، نهاية قصة الفتاة لها علاقة بقصتنا.."

"يا ألله، ميراث من بحق كل الأنبياء والرسل، ماذا كان يريد الكيال أن يبوح به لك عندما اراد توديعك، ولم يستطع، ما علاقته بنا ولماذا يعطيني أمواله؟ نظرت اليً سيناء نظرة فيها شيء من التأنيب، تعاتبني على نزقي وقلة صبري. وقالت:

" أكملي حكايتك خالتي، كلنا متلهفون لسماع نهايتها."

واصلت أمي حكايتها عن الفتاة والدمية..

 أعطى الأمير الدمية للفتاة المسكينة، فشكرته، ودخلت غرفتها، وجلست الفتاة أمام مرآة وأجلست الدمية بينهما، وبدأت تقص عليها قصتها.. يا دمية الصبر، يا شقيقة عذابي، أسمعي قصتي، وكان كل ما تحكيه الفتاة، يظهر على المرأة، كانت سلسلة الأحداث التي مرت عليها تتوالى في الظهور على صفحة المرآة، منذ أن كانت تعيش تحت سيطرة امرأة أبيها القاسية، ثم هروبها والتجائها لقصر العجوز الساحرة، وكلما مضت شوطا في قصتها، أنتفخ بطن الدمية شيئا فشيئا..

 صرختُ:

" يا لله.. كفي، وأخبريني، ما صلته بنا! "

توقفت عن سرد القصة وقالت:

" آن الأوان، من حقك يا ولدي أن تعرف الحقيقة، يجب أن أخبرك بها قبل أن أموت.. موسى الكيال هو أبوك."

صرختُ من وقع المفاجأة التي أبكمتني، فلم أحر نطقاً، قمت وحدقت في مرآة الصالة التي كانت أمامي، تخيلت أني أرى شبحا من وراء ظلام الماضي الكثيف، يحدق بي بعينين مطفأتين، خارجا من غياهب المجهول، ليعاقبني، ويقلب حياتي رأسا على عقب، وعندما استعدت شيئا من وعيي، عدت لمكاني، قلت:

" ماذا تقولين، موسى الكيال أبي، هل هذه قصة من قصص الأفلام الهندية، هل كنت متزوجة منه قبل أبي فرحان، الست أنا الذي كان أسمي إجباري سابقا، ونوح حاليا، ابن فرحان عبد الله زوجك! قالت:

" كلا.. أبوك ليس المرحوم فرحان عبد الله، زوجي القتيل في حرب الشمال، أنت أبن موسى الكيال، هو أبوك الحقيقي وأنت ابنه، وممتاز والمرحوم منيرهما أخواك من أبيك."

" ومن تكونين أنت! "

" من أكون أنا! انا أمك.. عندما توفيت المرحومة أمينه، أمك، شقيقتي الصغرى، أخذتك من الكيال الذي كان متزوجا من امرأة بغدادية، تستنكف العيش في مدينة العمارة، هي أم  ممتاز والمرحوم منير، أنا الذي ربيتك عندما كنت لا تزال في القماط، أتريد أن تتنكر لي الآن.. بعد أن عرفت الحقيقة!"

صرختُ وهويتُ على يديها وقدميها، ألثمهما وأبللهما بدموعي:

" انت أمي وحبيبتي وحياتي.."

بكت سيناء بحرقة، ودمعت عينا العم سبتي وكان طوال الوقت ساكتا لا ينبس بكلمة واحدة، قلت في نفسي ربما هذا الرجل يعرف كل شيء ولكنه ساكت كأبي الهول لا يتكلم..

أرتفع صوتها كأنها لم تسمع شيئا مما قلته، واصلت حكايتها كما لو أنها في سباق مع الزمن..

كانت الفتاة تسرد حكايتها للدمية، وكلما مضت شوطا، كانت الدمية تزداد انتفاخا ويكبر حجمها، حتى أصبحت بحجم الفتاة، كان الأمير ينظر من شق وراء الباب الموارب، أندهش وأنتظر متحفزا، ماذا سيحدث.

قاطعتها، توسلت اليها تأجيل الحكاية لوقت آخر، قلت:

" فكما ترين يا أمي كل شيء قد تغير الآن، فها قد حدث المكروه، وقامت الحرب وأصبحت سيدة الموقف، وحكايتها سوف لا تنتهي وشيطانها أخذ يعربد مزمجرا، متوعدا بالويل والثبور، والدمار والخراب، كل شيء مؤجل الآن إلا الحرب يا أم نوح، فهي سيدة الموقف بلا منازع، توقفي يا أمي لقد قامت قيامة الحرب، وسوف تقيم قواعدها التدميرية على شفا حفرة من نار الجحيم."

" الحرب قائمة دوماً يا ولدي، متى قعدت حتى تقوم الآن!"

" لقد فاجأتني بقصة الكيال، رغم الشكوك التي كانت تساورني عنه، والشبه المذهل بيني وبين المرحوم منير ولكنني، لم أفكر بأنه أخي، وأن الكيال أبي، ما يحدث لي الآن يفوق الخيال، أو أبعد من الخيال."

استأذنت العم وسيناء، وأمسكت يد امي وأوصلتها لسريرها، ثم عدت لهما :

" لقد سمعتما ما قالته أمي، شيء هام، شيء جديد طرأ على حياتي، وسيناء في حل الآن، إن شاءت، من الالتزام الذي كان بيننا.."

قال العم سبتي:

" أنا على علم بذلك، علمت به منذ زمن بعيد، أخبرني به الحاج الكيال، وطلب مني ألا أبوح به لأحد، كان سرا بيننا، ائتمنني عليه، واليوم كشفته أمك."

 وقالت سيناء:

" وأنا أتمسك بك أكثر، فأنت ستكون زوجي وشريك حياتي منذ هذه الليلة."

 قال الحاج

 " سآتي بشيخ لعقد قرانكما مساءً، ولنفرح جميعاً بهذه المناسبة السعيدة."

 عدت لغرفة أمي، قلت لها:

" اتفقنا المساء على عقد القران"

 أخرجت أمي من حنجرتها شيئاً أشبه بالزغردة، بالكاد سمعته أنا، الذي كنت أجلس على مقربة منها، وعلى سريرها، سمعنا العم سبتي وسيناء، يتناقشان حول لوازم حفلة الليلة، اتفقا على الذهاب لسوق الشورجة لشرائها، فنبهتني أمي الى وجوب دفع ثمن ما يشترون من حاجات الحفلة، خرجت من غرفتها لأقول له ذلك، ولكنه ابتسم، واحتضني بمودة وحب بين ذراعيه، معبرا عن فرحه بكلمات بسيطة وقليلة، ولكنها نابعة من قلب اب سعيد بزوجنا..

ودعتهما عند باب الشقة، خرجا وأغلقا وراءهما الباب، سمعت صوت أقدامهما وهما ينزلان السلالم للشارع. عدت لأمي، كنت متأكدا أنها متلهفة لإكمال حكايتها، بعد أن خلا لنا الجو.

" نحن الآن وحدنا، قولي لي متى بدأ نظرك يضعف يا أمي؟"

 حاولت أن أُزيحها قليلا عن الحكاية؟ فبدأت بحكاية جديدة، ولكن هذه المرة كانت عن نفسها، أبتدأتها بوفاة امي الطبيعية، حينذاك كانت هي تعاني من الصداع النصفي الشديد، وكانت اعراضه تختلط مع الماء الاسود في العينين، ولم تنتبه لذلك إلا بعد ان اخذ العمى يزحف ببطء الى عينيها، فكانت آخر مرة رأتني فيها بعينين سليمتين، عندما كنت في الخامس الثانوي، وذكرتني اثناء حكايتها بغرق اخي منير، سألتني اتذكره؟ فأمأت برأسي حزينا، كان يحبها وتعلقت هي به واحبته،  كان يأتي في الصيف للسباحة معي في نهر الكحلاء، ويبقى في بيتنا طوال ايام العطلة الصيفية، وقد بكت عليه كما تبك الأم على ابنها، لا أدري اكانت تحبه لأنه يشبهني كثيرا!

"بعدها ضعف بصري، والآن كما ترى لم يبق منه إلا بصيص من نور، وسينطفئ قريبا.."

" كيف عرفتي أنه الماء الأسود، أو ما يسميه الطب ارتفاع ضغط العين؟"

" الماء الأسود شخصه الطبيب اليهودي داود كباي، عندما كان لا يزال يعيش في مدينة العمارة، أما الشقيقة فشخصها طبيب مصري قبطي، جاء الى العمارة في العهد الملكي، وكانت عيادته في شارع المعارف...

 قاطعتها: حكيت لها عن ذكرياتي عندما كنت تلميذا في المدرسة المتوسطة..

فكان يوجد آنذاك مدرسون مصريون أيضاً، أحدهم درسنا اللغة الإنجليزية، في متوسطة الماجدية، وكان قبطيا أيضا، طويلا نحيلا وأشقرا، يضع نظارة طبية انيقة على عينيه واسمه جرجس، سأل تلميذا فقيرا، عن الواجب البيتي، وكان اكثر تلامذة صفنا من الفقراء المعدمين، فأعتذر التلميذ وبرر تقصيره بأنه لم يجد الفرصة قائلا.. أنا يا أستاذ انسان فقير وكادح، أشتغل لأعيل أمي وأخوتي الأيتام الصغار، أدور بعد الانصراف من المدرسة، في الأسواق، أبيع البزر على رواد المقاهي الشعبية، ولا أجد فرصة لعمل الواجب البيتي، رد عليه المدرس مستهزئا، والحمار ايضا حيوان كادح، ولكنه يؤدي عمله المكلف به.

"اتعرفين من هو يا أمي؟"

" لا من هو؟ "

" هو ضابط الأمن فاخر خريبط، الذي داهم بيت الخالة الدهلة أم سعيد، وشارك في ضرب الأستاذ مقبل في مخفر الدبيسات." سألتني:

" هل عندك أخبار عن مقبل ؟"

  " لا أعرف شيئاً عنه، يقال إنه معتقل في الاستخبارات العسكرية؛ الشعبة الخامسة، المكان الذي نمر به  قبل عبورنا جسر الائمة باتجاه الأعظمية وبالعكس، يقع عند استدارة كبيرة لنهر دجلة، ومحصن جيدا." 

" أراك هذه الأيام تعانين من الصداع النصفي، ألم تخبريني بأنك شفيت منه تماما؟!"

"صحيح.. اختفى مع تقدم العمر، ولكني أعاني منه الآن، ربما بسبب الإشعاع، الحمد لله على كل حال، يمرضنا ويشفينا، وكلاهما حسن، المرض يأتي ويروح، وكل مرض يأخذ معه الذنوب التي اقترفناها بالحياة، فهو يغسل ذنوبنا، كما يغسل الماء الوسخ عن أجسامنا."

" الأ يصيبك ذكر الموت بالقشعريرة.؟"

" لماذا.. الموت آخر دواء لأمراض البدن، يأتي فيمسح بأنامله كل الآلام."

عادت سيناء والحاج، لم يتأخرا كثيرا بإحضار لوازم الحفلة، ركنت سيناء الأشياء في إحدى زوايا الصالة، ودلفت للمطبخ أدخلت الكعكة المغاطاة بالكريمة البيضاء وحبات الفراولة الحمراء بالثلاجة، وأعدت طعام الغداء، ثم زينت الصالة بالبالونات والشرائط الورقية الملونة، ونزعت الورق عن باقتي الجوري، كان لون إحداهما أبيض مشوب بخضرة، والأخرى زهرية اللون، وضعتهما في آنيتي زهر من الكريستال، على طرفي مائدة الطعام وسكبت فيهما ماءً قليلاً لمستوى الربع، ارتحت كثيراً، لأن كل شيء قد تم بسرعة، تدل على ذوق رفيع، قلت في نفسي، الحمد لله، تم كل شيء قبل أن تأتي المدعوة عمتي أم بدور، التي كثيرا ما تحشر نفسها في مثل هذه المناسبات، فيفسد ذوقها تناسق الأشياء وجمالها.

يتبع ..

شكرا لمتابعتكم، ابقوا معنا رجاء، نلتقيكم بحلقة جديدة.

 

صالح البياتي

.........................

حلقة من رواية: بيت الأم

 

في نصوص اليوم