نصوص أدبية

موت الأم

صالح البياتياستأنفت أمي حديثها عن أبيها..

أما جدك فكان وكيل اعماله بتجارة الحبوب، ينقلها أثناء موسم الحصاد، من الحقول مباشرة لمخزنه، وفي ذاك الوقت، نمت وتوطت علاقة صداقة بينهما، وفي أحد الأيام وقعت عيني موسى الكيال على شقيقتي الصغرى أمينه، والدتك، وكانت صبية جميلة، اقل من نصف عمره بخمس سنوات، إذا افترضنا أنه كان في الأربعين، طلب يدها من جدك وتزوجها، ولكنها ماتت بعد ولادتك بحمى النفاس. ولم تمض سوى فترة قصيرة، على وفاتها حتى جاءت زوجته البغدادية، سألتها:

"هل عقد جدي، أعني أبوك، مع الكيال صفقة، وكم قبض منه! بالمناسبة لماذا لم ينطق لسانك باسم ابيك، ولا مرة واحدة طوال الحديث عنه.. لماذا لا تحبينه؟

" أنسيت ما حكيت لك عنه.. لا أحب ذكر اسمه. أما إن كانت بينهما صفقة!

لا أدري.. ربما، ولكن الكيال تكفل بالإنفاق عليك تحت وصاية جدك، لا أدري كم كان يقبض من نفقتك، ظل الأمر سراً بينهما، حتى أباح به جدك قبل وفاته بالجمرة الخبيثة، بعد ذلك أخذ يبعثها بيد زوجي، عندما كان الكيال يسكن مع زوجته البغدادية في بيته القديم، ذي الشنانشيل الزرقاء، مقابل دار البلدية قبل هدمها، وعندما قُتل زوجي في حرب الشمال، بعث لي من يخبرني ان استلمها من الحاج سبتي والد سيناء، أستمر الحال هكذا، حتى تخرجت أنت من الجامعة وتعينت موظفا حكومياً، فرفضت بعدها اية مساعدة منه.. هذا السر كتمته عنك..

صمتت هنيهة، ثم تنهدت وزفرت آهة حارقة من صدرها المكلوم الذي نهشه المرض الخبيث..

" ألم أقل لك أن جدك كان ظالما، وقد عاقبه الله فهلك بالجمرة الخبيثة، خرقت جمجمته، ونزلت على مخه فأكلته، والكيال أيضا سيلاقي حتما عقابا اشد وأقسى."

"ربما لاقاه وانتهى الأمر.."

" كيف!؟

" ربما هلك من التعب والجوع والعطش والمرض، أو انفجر به لغم أرضي، أثناء اجتيازه الحدود الى إيران.. لقد تناهي لسمعي أن عناصر الأمن المكلفين بنقلهم وخفارتهم، كانوا يرمونهم من الشاحنات العسكرية، على الحدود، كنفايات، ويطلقون فوق رؤوسهم وقرب أرجلهم النار، لإخافتهم كي يهربوا بأقصى سرعة، فيتخلصوا منهم بأسرع وقت، ولكِ أن تتخيلي أن بين هؤلاء المبعدين، اطفال وشيوخ ونسوة عجائز وفيهم المرضى.

 كنت اتألم وانا اتخيل منظرهم، يركضون خائفين، بلا حول ولا قوة، يحملون امتعة قليلة، يتعثرون بأحجار الطريق، ويسقطون بالحفر، أو يدوسون لغما ارضيا فينفجر بهم ويمزقهم أشلاءً.. كم هي مفارقة غريبة أن يموت ابي ذليلاً ومطروداً على الحدود.. ربما كانت آخر أمنياته أن يناديني يا بني.

"هل أنت حزين عليه يا نوح!؟"

" لا أدري يا أمي.. أحزنٌ ما اشعر به حيال مصيره البائس.. ام رثاء! لا أدري والله يا أمي، ولكن بقي لدي سؤال أخير، وكان طوال الوقت مؤجل.. ولكن لا.. لا داعي له، لم تعد له أهمية."

"ما هو.؟ "

" أسمي القديم؟ هل اختار ابي اسما  لي عند ولادتي؟ "

" نعم، أحب ان يسميك عمران على اسم ابيه، ولكني رأيت أن كل ما جرى لنا، لي ولك وللمرحومة شقيقتي، كل ما حدث قبل وبعد ولادتك، كان ضد إرادتنا، فسميتك اجباري."

"والآن حكيت لك الحكاية كلها... دعني أنام.. اشعر بوهن شديد، وصداع ينبض في صدغي.. أشعر بالتعب وأريد أن أنام.."

قامت سيناء وقبلت أمي، وخرجنا للعشاء، وبعد عودتنا وجدناها نائمة، جلسنا في غرفة الاستقبال نتابع آخر اخبار الحرب من التلفاز، حتى مجيء العم سبتي، جلس معنا، وأخبرنا عن حملة تسفير كبيرة طالت تجار الشورجة، لم أعلق على الخبر، أكثر من القول ان شيئا أقسى من هذا حدث لليهود في أواخر الأربعينات، وأطلق عليه آنذاك الفرهود، رافقته اعمال عنف وقتل، وحرق للممتلكات وانتهاك للأعراض ومصادرة للأموال.

 تمنيت لسيناء وابيها ليلة سعيدة، ودلفت لغرفة أمي، وجدتها نائمة، جلست قبالتها على الاريكة، أتطلع لوجهها، أُصيخ السمع لتنفسها العميق والمتقطع، كان تارة يعلو واُخرى يخفت، أدنو منها لأتأكد أنها لم تمت، كانت تساورني في تلك الليلة أفكار غريبة، عن حياتي بعد وفاتها، فأرى شبح الموت ينتصب جدارا أسودا بيننا، ملئ بالنتوءات والشروخ الغائرة، خاصة بعد أن عرفت حقيقة ابوة الكيال، فكرت به.. وفي هدأة السكون، كنت لا أسمع سوى صوت تنفسها الآخذ بالاضمحلال، كما أن ذكرى أبي اخذت تؤرقني مرة آخرى، فوجدت نفسي أثور على ذاك الماضي، الذي حرمني من أسم جميل في طفولتي، ومن ابوين حقيقين، وأخذ مني منير، دون أن أعرف أنه أخي، رغم أني كنت أتساءل عن سر الشبه الكبير بيننا.

 والان.. قامت الحرب ليس كما تنبا بها العراف، ولكن كانت ضحكة مجلجلة ساخرة اطلقها الشيطان في لحظة انتصار.. علمت بحجز جاسم أخ هيلا بمعسكر الرشيد، بعد إنهاءه لفترة التدريب العسكري في معسكر التاجي شمال بغداد، وكانت معه مجموعة كبيرة من الشبان خريجي الجامعات، جميعهم إبناء الاسر المهجرة، فكرت ان اتصل بصديقي المحامي حنا، واطلب منه ان يحصل لي على إذن بزيارته، وايضا يساعدني باصدار جواز سفر لسيناء، وعندما جاء لزيارتنا،  دار حديثنا عن الحرب التي كانت كفتها راجحة لنا، فالجيش العراقي أحتل أراض إيرانية على طول الجبهة، لكن حنا أبدى قلقا من عواقبها الوخيمة، وقال: الأمور بخواتيمها.. وإغتمنت الفرصة بعد أن عرفت انه لا يؤيد الحرب، تحدثت عن المسفرين الذين وصل عددهم الى نصف مليون، فقال: هؤلاء اكباش فداء.. ضحايا النزاعات الإقليمية، قلت: هؤلاء عراقيون ، ولاؤهم لوطنهم العراق..

كان الكلام المحبوس تحت لساني، ولكن المتعذر قوله، عن دور الرئيس في مأساتهم، على وشك أن يتحرر، ولكني آثرت الصمت، وقبل أن يودعني سلمني ملفاً، وطلب مني أن احتفظ به في مكان آمن، قلت: أفي الشقة، قال: لا.. ان كان بإمكانك أن تجد مكانا آخر.. وقال على وجه التحديد: إذا سألك أحد عن علاقتك بي، قل إنك استأجرت الشقة مني وسلمني عقد إيجار رسمي وموقع، وبعد أقل من أسبوع جاءني بالجواز، وبإذن الزيارة...

لبضعة أيام أخفيت الملف في السيارة، دون ان اعرف شيئا عنه، او ماذا يحتوي من معلومات، كنت أركن السيارة في ساحة قريبة من العمارة، لقاء أجر يومي.. أخبرت سيناء بكل شيء، فتوجست وخافت، طمأنتها بأني سأجد مكانا آخر نسكن فيه، ونتخلص من المشكلة.. وطلبت منها أن تطلع أبيها أيضا، وأخبرت أمي أيضا، وفي منتصف إحدى الليالي، جاء زوار الليل لشقتنا، فتشوها وكسروا قفل الغرفة الصغيرة التي تخص المحامي، وبعثروا محتوياتها، واستجوبونا، واطَّلعوا على عقد الإيجار، وجهوا الي أسئلة كثيرة، وفي النهاية، اتصلوا بجهة لا نعرف من تكون، وغادروا الشقة.. سألت أمي:

"هل أفزعوك؟"

" بالعكس أنا التي أفزعتهم."

" كيف!"

" لا أدري ربما رأوا ملك الموت يحوم فوق رأسي فارتعبوا منه.."

كانت سيناء خائفة، ولكن العم كان صلبا وشجاعاً.. اقترح علينا الإنتقال الى المنصور، لنسكن مع قريبه، وهو تاجر اقمشه، لديه محلين احدهما في سوق دانيال والآخر في شارع النهر، يعيش مع زوجته، وإمراة في الأربعينات تخدمهما، وتسكن معهم، حزمنا امتعتنا القليلة وانتقلنا هناك.

ذهبت لمركز الإحتجاز بمعسكر الرشيد، هناك احتجزوا عددا كبيرا  من الشبان، الذين سُفرتْ اسرهم ، ذهبت هناك لزيارة جاسم اخ هيلا، للإطمئنان عليه، واحضرت معي ما يحتاجه من أغذية معلبة وملابس وأشياء آخرى شخصية، كان جاسم  قويا ومتماسكا، رغم الألم والحيرة الظاهرتين بوضوح على وجهه ونبرة صوته، أخبرني أنه بعد ان علم بتسفير أهله، فكر بالهرب من مركز التدريب، ولكنه فوجئ عندما قُرئت اسمائهم في أحد أيام التعداد الصباحي، أن الضابط  امر كل من سُفرتْ عائلته بالخروج من الصف، فظن انهم يريدون ان يلحقون بهم ، وهذا ما كان يريده، عندما فكر بالهرب..

  يتسائل الى متى سيبقونهم محتجزين، أحتى انتهاء الحرب؟

اعتصر قلبي الألم عندما قال الى متى، فلم تكن هذه الـ متى للسؤال عن الوقت والانتظار، وإنما كانت شيء آخر، يدل على اليأس والإحباط والقهر وفقدان الأمل. عن الضياع الأبدي.. حكى لنا أشياء لا تصدق سمعها في مركز الإحتجاز.. عن أم منعوها من الذهاب لمدرسة ابنتها لأخذها من هناك، كانت تتوسل بهم حين داهموا بيتها، كان أولئك الذين حلت عليهم لعنة التسفير، يتركون طعامهم في مكانه، وملابسهم على حبال الغسيل..

كان جاسم ينظر الي بعينين حزينتين.. رأيت إثناء حديثه أحد الشبان المحتجزين، بالبيجاما، أشار اليه جاسم: هذا من مدينة الكوت، يخرج وقت الزيارة، ويظل يدور ويلف الساحة ينتظر أحدا ما يأتي لزيارته، وعندما تنتهي الزيارة، يصيبه اليأس فيرفع رأسه وينظر للسماء طويلا، وهو منذ احتجازه الى اليوم يقوم بذلك، أشك أنه قد فقد عقله.. لم أخبر جاسم بما حدث لمقبل وهيلا وامه، حتى لا أزيد من المه، على كل حال انتهت المقابلة عن طريق مكبر للصوت، وعند خروجي من باب النظام، كان الحارس عند البوابة ، يتفحص الختم الأحمر المطبوع على باطن رسغي الأيسر، الذي ختمه عند دخولي.

ضعفت أمي كثيرا، وتدهورت صحتها بشكل خطير، في حين ازدادت الحرب قوة وشراسة وعنفا، ايقنت أنها لن تعيش طويلا، وباتت أيامها معدودات، لقد تألمَتْ لجاسم كما تألمتْ لشقيقته هيلا..

كانت امي امرأة قوية الى آخر لحظة في عمرها، حتى في اسوأ أيامها، تحملت شظف العيش، والحرمان في أيام طفولتها المبكرة، وتحدت بصبر عجيب لم ينفد؛ آلام السرطان الفضيعة، في ايامها الأخيرة، كرهت الجزع واليأس، لأنهما ضعف لا يليق بامرأة مؤمنة، كما كانت تقول دائما، ولكن البكاء في نظرها، كان شيئا مقدسا، عاطفة إنسانية نبيلة، يغسل الحزن، ويخفف الكرب المكبوت في أعماق النفس، وبعد ان يؤدي وظيفته، ينسرب تلقائيا بهدوء، في مسارب الدموع والنعاوي الشجية الحزينة،  بصوت الدهلة المشحون بطاقة جياشة هائلة.

الأيام الأخيرة التي عشتها معها، كانت بالنسبة لي دروسا بليغة، في ضبط النفس والسيطرة على المشاعر، وفي نيل السلام الداخلي، اكثر فائدة من تأدية طقوس مرهقة للجسد، علمتني في فترة وجيزة، الشيء الكثير، الذي لا يتوفر للمرء أن يتعلمه، حتى لو دأب على ذلك سنوات طويلة، كانت تقول أن الحياة مدرسة مفتوحة، ما ان تلتحق بها في اي وقت، حتى تجد نفسك مستمرا ومواظبا على التعلم، وما دمت حيا وجادا، ستتعلم كل يوم درسا جديدا، قد تنسى الدرس القديم، الذي قبله، ولكن مع ذلك تبقى فوائده موجودة في الدرس الجديد، وهكذا تتابع تعليمك درسا يتلوه درس، دون هوادة .. حتى الدرس الأخير، الموت، فإذا لم تستوعب الدروس السابقة، ستجد نفسك أمام فراغ هائل وهوة سحيقة.. قد لا تتيح لك سنوات عمرك، خارج أسوار هذه المدرسة، إلا فرص قليلة، ومتناثرة، لتتعلم النزر الضئيل.. لماذا؟

كانت تسأل وتجيب على سؤالها بنفسها.

لأن الأنسان يصيبه التراخي، ويركن للخمول، كما أن طول الأمل يرديه في متاهات الغفلة، ولن يدرك أنه ملاحق بعدو لا يتركه ولا يغفل عنه لحظة واحدة، ليستريح أو يلتقط أنفاسه، يظل في لهاث محموم لا ينتهي، يدفعه دفعا نحو نهايته المحتومة، ومهما تشبثت رجليه في الأرض، أو ساخت أقدامه في عمقها، فأن دفعة واحدة كفيله ان ترديه الى القبر..

الموت الذي استحوذ على تفكيري، كنت أفلسفه لأخفف من وطأته على نفسي، أفكر ان غياب انسان عن ناظريك هو موت مؤقت، وأنت حين تغمض عينيك يموت العالم من حولك، وفي النوم نموت أيضا، ليس بمعنى انطفاء الإحساس والشعور، وخمود الحركة والتوقف عن التفكير، لا.. وانما لأن النائم يقصيه النوم عن تيار الحياة المتدفق، فشعاع الشمس لا يغمره، والهواء لا يداعب وجهه أو يحرك شعره وثيابه، ولا يثير ضوء القمر إعجابه، ولا تسحره نبضات النجوم المتلألئة في الليل.

وكما أن المخاض يسبق الولادة، فكذلك الاحتضار يمهد الطريق للعبور، لأولئك الذين يموتون حتف انفهم، نتيجة المرض او الشيخوخة، كانت امي تريد ان تستقبل الموت، كما يُستقبل الحبيب الذي طال غيابه، كانت كلما شعرت بدنو اجلها، او بعد صحوة غيبوبة غشتها، تحاول ان ترفع نفسها على يديها، لتنهض، ولكن المجهود الذي تبذله يحبط محاولتها،  شعرت انها لا تريد ان تموت مستلقية على ظهرها، كجذع شجرة منخور، طرحته ارضا ريح عاصفة، تخيلتها لو استطاعت الوقوف لفتحت ذراعيها كشراع واحتضنت الموت وابحرت معه الى عالمه المكتنف بالضباب والظلام.. هل كانت فعلا تريد ذلك، ام انها كانت تريد ان تقف امامه وجها لوجه، تدفعه عنها بكل ما تبقى من قوتها!

هذا التساؤل لا يزال يحريني..

 ماتت ولكن لم تمت كما يموت البعض، وهم يصارعونه بضراوة، فينتزع الموت ارواحهم بصعوبة، إنطفأت كشمعة بهزة خفيفة، دون نفخة هواء ضعيفة حتى..

لك الحمد أيها الاله الرحيم، لك الحمد لأنك مسحت كل آلامها مرة واحدة وبلمح البصر..

في ليلتها الأخيرة، احضرت لها عند العشاء، صحن الرمان الذي كانت تشتهيه، وضعته على منضدة صغيرة امامها، وكنت اريد ان أقطع واحدة لها، ولكنها سبقتني، أخذت السكين وقطعت الرمانة الى نصفين متساويين، قمت انا بعد ذلك بتفريطها الى حبات، واكلتْ واكلنا معها.. ونحن نضحك، كانت تمزح مع سيناء وهي تلتهم حبات الرمان بشهية:

" من بين كل أنواع الفاكهة أفضل الرمان، واحببت كل الناس، ولكن حب ابني نوح شيء آخر.."

وعندما استفسرت سيناء عن المقصود بالشيء الاخر، شرحت لها الفكرة، فهمت انها تعني حبا غير مشروط. وبنفس الروح الطيبة والنوايا الصادقة أحبت سيناء أمي، فأحبت في ساعة الوداع الأخيرة، ان تسألها عن مكانتها في قلب المرأة الكبير.

"احبك.. انت ونوح  بمنزلة واحدة قي قلبي."

 بهذه الكلمات الأخيرة؛ عبرت عن حبها النقي لسيناء، لم تقو بعدها على الكلام، بقيت صامته تحملق بسقف الغرفة، وكأنها ترى من خلالها السماء المرصعة بالنجوم وليلها المكتنف بالغموض والأسرار.

وقبيل الفجر غابت عن الوعي، وكانت سيناء طوال ساعات الليل راكعة عند السرير، تقرأ سورة ياسين بنبرة حزينة، تخنقها العبرات، وكان العم سبتي وانا نقف عند قدميها، ومن نافذة الغرفة المطلة على الحديقة الخلفية، لاح ضوء الفجر، اكتسحت خيوطة الناعمة عتمة آخر الليل، وانزاحت ببطء دكنة قمم الأشجار المنتصبة وراء سياج البيت.

 لفظت أنفاسها الأخيرة في بيت غريب، بعيداً عن الناس الذين احبتهم وأحبوها، وعن البيت الذي حمل أسمها، بيت أم نوح القديم، وعن البلدة التي ولدت وترعرعت فيها، وواكبت نموها حتى أصبحت مدينة من مدن الجنوب العامرة بالحياة. فتركت في قلبي لظى جمرة لن تنطفئ أبداً، كنا نحن الثلاثة فقط، الاحياء الشهود على وفاة أمرأه نادرة، من آخر جيل من النساء اللاتي اغدقت عليهن الحياة بكل ما تختزن من قسوة وعذاب، وستضيف الى الجيل الذي بعده مآس جديدة من هذه الحرب الدائرة الآن..

توفيت أمي في أوائل الشتاء، حيث أقبل تلك السنة مبكراً، بغيوم رمادية ورذاذ مطر وموجة برد قارس، كأنها صفعات لاسعة على الوجوه، وحل اول عيد أضحى احتفل به المسلمون، بينما كان القتال يشتد ويمتد من الجبل الى البحر، ومن الأرض الى السماء، ومع استمرار الحرب، كان عمود الحزن الاسود، يرتفع مثل جبل عال يوما بعد يوم، فانتشرت اللافتات القماشية السوداء، في كل المدن، على جدران المنازل والأسواق، والكنائس، والمساجد والحسينات، وستغطي مع استمرار الحرب، كل مكان تقع عليه الأعين، تعلق كرايات تعلن انتصار الموت بجدارة على الحياة..

قمنا بتغسيلها وتكفينها وتشييعها الى مثواها الأخير، لترقد بوادي السلام، استبدلت سيناء ثياب الفرح بالحداد، بكت وحزنت عليها كما تحزن أبنة على أمها.. وبكى الحاج متأثرا على ابنته التي انقلب فرحها الى حزن، ودعتهما بابتسامة حزينة، لأعود لمدينتي العمارة، لكي أقيم مأتم العزاء، وعدتها بالعودة بدون تأخير، وقلت سأتصل بها من هناك..

شعرت بانسحاق مميت، وبرغبة عارمة للبكاء، عندما قلت كلمة هناك..

وبين كلمة هنا وهناك.. ارحمني يا إلهي. فانت تعلم كم تعذبت نفسي، في جحيم المسافات بينهما..

***

صالح البياتي

............................

حلقة من رواية: بيت الأم

 

في نصوص اليوم