نصوص أدبية

الزيارة

صالح البياتيحالت الظروف دون القيام بزيارته للشيخ المندائي، ولما اتخذ قرارا بعدم العودة لمدينته، كان لابد عليه القيام بهذه الزيارة التوديعية، قصد داره في الظهيرة، استقبله الشيخ، قاده لحجرة الضيوف، على  الجانب الأيمن من المجاز الطويل، جلس على كنبة واسند ظهره على وسادة مريحة، احتفى ورحب بضيفه، وصديق ابنه القديم منذ ايام الطفولة، رد نوح ترحيبه الحار بتهنئته بعيد البنجة، وتساءل لماذا لم يبق صديقه الدكتورهلال مع العائلة، حتى انتهاء ايام العيد الخمسة، وكان في الحقيقة قلقا عليه، لأن نشرات الاخبار المسائية المتلفزة، للأيام الثلاثة الماضية، كانت تعرض صورا من الجبهة الجنوبية، المشتعلة بمعارك طاحنة، وكانت الموسيقى التصويرية تثير الاعصاب. قال نوح

" لندعو له بالسلامة."

"  الحي العظيم مبارك اسمه يرعاه."

قال ذلك واحتضن ضيفه، قبل وجنتيه، فغرق وجهه في لحيته البيضاء، الناعمة، وبنبرة حزينة مواسية عزاه بوفاة المرحومة امه:

"  لترتاح روحها الزكية في عالم الانوار مع القديسين الابرار، ويؤسفني جدا اني لم أستطع المجيء لبيتك لأعزيك.. البقية بحياتك."

"وحياتك الباقية."

رأى نوح ان يخبره بزواجه ليباركه، فتفاجئ ان صديقه هلال قد سبقه بالخبر، قام الشيخ من مكانه وقبله للمرة الثانية.

"واهنئك أيضا بالزواج."

" لتبارك زواجي أيها المبجل."

" مبروك ابني نوح، أكملت نصف دينك كما تقولون."

ابتسم، وتساءل مع نفسه، عجيب أكنت بنصف دين ولا أعلم! 

فقال يمزح ضاحكا:

"أ خشى ان مسؤولية الزواج ومشاكلي الأخرى تذهب بالدين كله، إذا لم انتبه."

" اهلا وسهلا بك ابني نوح، تشرفنا بزيارتك. خذ راحتك، انت في بيتك."

جلسا صامتين لبرهة، بدت لنوح طويلة جدا، حول بصره، وتطلع من خلال النافذة المفتوحة على الشارع، فرأى شمس الظهيرة، تضئ نهر الكحلاء، فيعكس الماء شعاعها للسماء، كمرآة صقيلة تلمع بوهج ساطع.

كان في تلك اللحظة يفكر بالمجنون.. ويريد ان يخبره بموته المجاني، ولكنه تردد، كي لا يفسد فرحة العيد، ولكن الغريب، ان الشيخ بادره بالسؤال عنه، وعندما لاحظ الاستغراب باديا على وجه ضيفه، قال كان يريد تقديم مساعدة للمسكين، الذي أصبح بلا اهل.

" استجد شيء.."

"ما هو يا نوح!"

 " قتلوه."

" من قتله!"

 أخبره.. أمعن النظر بوجه ضيفه، كانت عيناه تتحركان قلقتين، تبحثان عن شيء من المصداقية، في الخبر الذي سمعه توا، ولما تأكد أن ضيفه جاد فيما اخبره، امتقع وجهه وغشت عيناه سحابة حزن.. لم يقل شئيا، كان صمته تعبيرا عن شجبه لهذا العنف..

سيطر الوجوم على الرجلين، كانا صامتان، ينظران لبعضهما، دون ان يحاول احدهما ان يبدد الصمت الذي اطبق عليهما، اخيرا قال الشيخ بنبرة حزينة:

" قتلوا انسانا بريئا.. وديعا لا يؤذي احدا"

" وبدأوا حملة اعتقالات واسعة."

" يا للعار.."

نهض الشيخ، قطع حجرة الضيوف، وقف في وسط الغرفة، كعمود ابيض، بقامته المديدة، وثيابه البيضاء، ثم تحرك ونادى من وراء باب مغلق، يفضي على الباحة المكشوفة للسماء، تناهى لسمع نوح اجنحة طيور، وسمع أصوات أطفال، يلعبون ويتصايحون بمرح ، تخيلهم يدورن حول النخلة، التي رآها عندما كانت فسيلا، وصار بالإمكان رؤيتها من الخارج.

 فتح صبي الباب واطل برأسه، عرفه نوح، كان واحدا من احفاد الشيخ، امره الا يزعجونهم، وطلب منه ان يحضر لهما شرابا.. وبعد قليل جاء الصبي يحمل صينية وعليها كأسين من ماء الورد والعسل الطبيعي، قدمهما وخرج.

تحدث الشيخ عن الزمن الاول. غير البعيد كثيرا، والذي لا يزال أثره باق، ويحلو له ان يسميه زمن الخير.

انتهز نوح الفرصة النادرة، ليحفزه على الإسترسال في الكلام، كي يقارن بين الزمنين، الأول الذي افتقده، والثاني الذي يعيشه. فإختار سؤاله بدقة:

" اليس بالإمكان عودته "

" ممكن إذا توحدت جهود الطيبين، ولكنهم قلة وضعيفة، ومع ذلك هم كالأنبياء والصالحين، نور الله على الأرض، عندما يخيم الظلام على العالم"

" صحيح فلو خُليت قُلبت"

  فترة صمت تأملية.. ربما كان الشيخ يفكر بشئ يقوله لمحاوره. ولكنه رفع يديه داعيا:

" ارحمنا يا رب."

تناول نوح كأس الشراب صكت شفتاه عليه حتى ارتوى، أنعشه مذاقه الطيب، فامر الشيخ بالمزيد..

تجاذبا أطراف الحديث، وخاضا بسيرة الحرب الشيطانية، كان نوح يحب ان يسأل الشيخ عن قصيدة للشاعر المندائي سنيجر، الذي تنبأ عن الحرب، ولكنه اجل ذلك، كان هناك سؤالا آخر يلح عليه ان يطرحه، فسأله عن محنة الجنود المندائيين.

" أفكر بالذين قتلوا من ابنائكم وتعذر اخلائهم، ولم يحضوا خلال الأيام الثلاثة للوفاة، بمراسم دفن صحيحة حسب العقيدة المندائية..  قاطعه الشيخ، لم يجب عن السؤال وإنما على ما تضمنه من تساؤل:

" أتريد ان تقول، لماذا لا نطالب بإعفائهم من الخدمة العسكرية في الخطوط الأمامية؟

 لم يقل نوح شيئا، اجاب الشيخ عن سؤال يفترض ان يساله نوح " لماذا لا؟"

 "ومن يجرأ على طلب كهذا يا نوح!"

" الطيبون.. لنرجع اليهم يا شيخ، فهم ملح الأرض، وهم نورها المبارك كما قلت."

"  ماذا عندك عنهم؟"

" سأحكي لك قصة حقيقية، اعتقد انك تعرف الأستاذ مقبل، صديقنا المشترك، هلال وأنا."

" نعم.. سمعت انه معتقل."

" والله اعلم اين!"

- سأحكي لك عنه، عن ذاك الزمان الذي يحبه قلبك، عندما كانوا نزلاء في بيتنا، وكانت المرحومة امي تساعدهم، حينما تسمح الظروف، وخاصة عندما طرد الكيال سعيد الأخ الاكبر من العمل، واجهوا ضائقة خانقة، وذات يوم هاجمت امي نوبة شقيقة حادة، فقامت أم سعيد بالعناية بها، وشوت لها سمكة صغيرة للغداء، وقدمتها ملفوفة بالخبز، ولما عاد مقبل من المدرسة ظهرا، كان جائعا، ولم يجد شيئا يأكله، راج يبكى، وكان الولد لا يتحرج الذهاب لأمي، عندما يكون جائعا، كانت تحبه وتعطيه كل ما لديها.. وقف يحملق فيها، رآها تشد عصبة سوداء حول صدغيها، ظل واقفا عند الباب، لا يتكلم، فأحست به جائعا، ولا يوجد عندهم شيء من الطعام، وأومأت بيدها ان تعال، اشارت للمنضدة التي عليها الطعام، مد يده للسمكة الملفوفة بالخبز واخذها.. هذه المرأة التي احبت الناس، أتعلم ماذا كان جزاؤها؟

"ماذا ؟"

 " سرقوا خاتمها الذهبي."

" كيف..!"

حكى نوح ما حدث لها في مغتسل الموتى القريب من المقبرة، قامت واحدة من المرأتين بنزعه من اصبعها اثناء غلسها، كانت امي تريده تذكارا احتفظ به، خاتم ثمين، فصه شذرة زرقاء جميلة، وعندما سألتهما عنه، انكرتا علمهما به، ولكن سيناء فتشتهما، وجدته عند احداهما.. قالت سيناء، لا يستحقا ثوابا لا ماديا ولا معنويا، ولكني اعطيتهما اجرهما وزدته، وقلت : اتسرقا امكما!

قال الشيخ:

- ضاع المعروف..

 استلطف الشيخ الحكاية الاولى، وتألم على الثانية، وتحسر على ذاك الزمان البريء، الذي احبه كما يحب النهر القريب من بيته.

فإسترسل بالحديث عن النهر، والمياه الجارية، اليرد نا، المقدسة في العقيدة المندائية، فأفاض مسترجعا ذكرياته عن الزمن الجميل، عندما كانوا يقيمون طقوسهم في مياه النهر، قبيل الشروق، فيرى أرواح الأجداد ترف كأجنحة النوارس على صفحته الهادئة.

يتبع

 

صالح البياتي

.............................

حلقة من رواية : بيت الأم

 

في نصوص اليوم