نصوص أدبية

التفاحة المحرمة

علي القاسميكان الجوّ بينهما مُكهرَباً، فنظراته مشحونةٌ بشهوةٍ مكبوتةٍ ورغبةٍ دفينةٍ، وعيناها الهدباوان خفيضتان منكسرتان باستسلام، كما لو كانتا تتأمَّلان لونَ حذائه البنيّ اللامع، بحيث أُتيحت لعينيه الحريّة الكاملة لترتعا في ملامح وجهها الجميل، وخريطة جسدها الفارغ الرشيق، وفستانها الحريريّ الطويل الذي بدا له مثل ستارة مُنسدِلة، لولا النهدان البارزان بقوّة وعناد، ولولا تقلُّصٌ عند الخصر كأنَّ نسيماً عليلاً قد ثناها في وسطها.

ليست هذه المرَّة الأُولى التي يجتمعان فيها على شاطئ البحر، وقد لا تكون الأخيرة؛ فقد دأبا على الالتقاء في مطعمٍ من المطاعم الراقية، أو في مقهى من المقاهي الفارهة، في أماكن قصيَّة عن المدينة. منذ أزيد من عام وهما يلتقيان هكذا مرَّة أو أكثر في الأسبوع، كلّما عَنَّ له أن يهاتفها ويضرب لها موعداً، مُحدِّداً الزمان والمكان بملءِ إرادته.

وعندما يلتقيان، يتبادلان تحيةً مقتضبةً، ثمَّ يسود الصمت وتتعطَّل الشفاه. ينظر إليها ويطيل النظر، ولكنَّ عيونهما لا تلتقي أبداً، فحالما يُحسّ بأنَّها سترفع وجهها المليح إليه، يُشيح ببصره نحو أمواج البحر الهائجة طوراً، الهادئة المنسابة بأناةٍ طوراً آخر. وتفعل هي فعله كذلك، فكلَّما وجّه نظراته إليها وهي تتأمَّله، تُسرِع في تحويل بصرها إلى حذائه، كما لو كانت تستكشف لونه البنيّ اللامع. ثمَّ تنظر إلى وجهه حينما يكون بصره طافياً على أمواج البحر. تحدّق في شفتَيه، تتأمَّل أنامل يدَيه الطويلة وعروقهما البارزة، وتقاوم رغبة شديدة في تناولهما بكلتا يدَيها وتقبيل أصابعهما واحدةً واحدةً، ثمَّ ضمّهما إلى صدرها بالقرب من قلبها الخافق.

تتساءَل في نفسها ما إذا كان سيتفوّه يوماً ما بالكلمة التي تنتظر سماعها منذ أكثر من سنةٍ كاملةٍ. تتساءل ما إذا كان سيجود يوماً بلمسةٍ من يده، طالت صبوتها إليها؛ لمسة يتيمة تمسح عن جفونها ظلال التيه والترقُّب والقلق؛ لمسة تهمي على يدها، ذراعها العارية، رقبتها الأنيقة؛ لمسة تكون مدخلها الفذّ لمدينة الأمل. علَّمتها خبرتها أنَّ لمسةً واحدةً تقول ما لا تستطيع الإفصاح عنه ألفُ همسة، فكثيراً ما تُغني الإشارة عن العبارة في لغة التواصل الإنسانيّ.

لم تطلب منه شيئاً، ولم تأمل من وراء لقاءاتهما أمراً ذا بال. إذن، ما فائدة هذه اللقاءات؟ وما الذي يشدُّها إليه، ويجذب مشاعرها نحوه، حتّى غدت أسيرة إرادته وطوع إشارته؟ تترك كلَّ شيءٍ وتنسى جميع المواعيد الأُخرى حين يُهاتفها هو. وتسير منوَّمة، حالِمة، فرِحة إلى المكان الذي يختاره في الوقت الذي يريد. أتراها وجدت فيه صورة الأب الذي افتقدته منذ طفولتها؟ أم أنّها تمارس إنسانيّتها المسلوبة حين تلتقيه؟

منذ عامٍ ونَيِّف وهما يلتقيان هنا وهناك على شاطئ البحر. يجلسان متقابلين والصمت ثالثهما. وبالرغم من أنَّ بصرها مُثبَّت على حذائه البنيّ اللامع، فإنَّها كانت تُحسُّ بلسع عينيه على شفتيها المكتنزتين الحمراوين، وعنقها العاجيّ الطويل، وخصلات شعرها المنسكبة مثل شلالِ نورٍ على كتفَيها؛ فيصعد الدمُّ حارّاً إلى خدَّيها، فيلتهبان حمرة وجمراً؛ ثم تشعر بانزلاق بصره إلى صدرها الناهد ليغفو عليه، فيزداد وجيب قلبها.

ويتساءل هو في نفسه ما إذا كان هذا اللقاء سيكون الأخير. في كلِّ مرَّة يلتقيها يعقد عزمه على عدم الاتصال بها ثانية. ولكنَّه حالما يبتعد عنها يوماً أو بعض يوم، يشعر بالشوق إليها يتلظّى بين الجوانح، فيسرع لمهاتفتها. ولكن لا شيء في هذه المكالمات الهاتفية سوى السؤال عن الصحة والحال. يكاد يكون السؤال نفسه في كلِّ مرَّة والجواب ذاته، لا غير. اللغة هنا أمست مفرغة من مضمونها. إذن، ما جدوى هذه المكالمات الهاتفيَّة، وما فائدة تلك اللقاءات الصامتة؟ أهي تمرين على ممارسة الصمت واختلاس النظر، تمرين نظريّ لا فائدة عمليّة تُرجى من ورائه؟ كلُّ ما يخلِّفه هو شعورٌ بالذنب، وحيرةٌ في القلب.

في كلِّ مرَّة يلتقيان، كان ينظر إليها، يتأمَّلها، يُحدِّق في ملامحها، كأنه يبحث عن شيءٍ فقدَه أو افتقده، وهو طوال ذلك الوقت صامت هادئ، كما يبدو للناظر، في حين تغلي الفِكَر في أعماقه مثل غليانِ الحمم في أغوارِ بركانٍ ساكنٍ. كانت رغبته الدفينة تضطرم بين ضلوعه، تحرق قلبه، تدبّ في شرايينه، ثمَّ تتوقَّف فجأةً عند شفتيه، فيرتجفان. كانت تبدو له مثل تفّاحةٍ شهيّةٍ مقضومةٍ، يكاد يقطر منها عصيرها، فيشعر بجوعٍ وعطشٍ، ويهمُّ بالتهامها ليشبع سَغبه ويروي ظمأه، غير أنَّ شيئاً مُبهماً في أعماقه يأبى عليه ذلك. إنَّها التفاحة المحرَّمة بذاتها، وهو متأكِّد تماماً من عدم قدرته على أكلها، حتّى لو عزم على ذلك، بالرغم من الحرمان الذي يمضُّ نفسَه. سيُشَلُّ فكاه عن الحركة، وستنطبق شفتاه بلا إرادة منه، ولن يستطيع القضم، ناهيك بالابتلاع.

إنها تفاحة مُحرَّمة. هكذا يصرخ فيه كلَّ مرَّة ذلك الصوت الداخليّ الآمر الناهي، صوتٌ في باطنه يُطلِق أوامره ونواهيه، يُصدر أحكاماً على سلوكه، يُحسِّن له بعض الفعال ويرتضيها له، ويقبّح بعضها الآخر ويحذّره من مغبتها، حسبَ قواعد أخلاقيّة لا يعرف كيف انغرست في نفسه. كلَّما فعلَ شيئاً يتماشى مع تلك القواعد، أحسَّ بالارتياح في نفسه ونشوة اللذَّة، أمّا إذا خالف تلك القواعد، شعر بكثيرٍ من الندم والتأنيب والتبكيت. إنّه صوت قويّ مُتمكِّن من نفسه. بل هو صوت النفس ذاتها، يعلو على كلِّ صوتٍ حوله.

وتساءل ما إذا كان ذلك الصوت هو الذي يسمّونه الضمير، وما إذا كانت تلك القواعد أو القيم الخُلقية التي يراعيها ضميره هي أزليّة عالميّة، يتَّفق الناس عليها  ويبجِّلونها في كلّ زمان ومكان، أم هي نسبيّة يختلفون حول قيمتها ووجوبها. وإذا كان الأمر كذلك، ألا يحقُّ له اليوم أن يخرق إحدى هذه القواعد أو يتناساها، مادام أنَّه في أشدّ الحاجة إلى قطف تلك التفاحة اليانعة؟ وتساءل كيف أصبح ذلك الصوت الداخليّ بهذه القوَّة والسطوة، وكيف صارت تلك القواعد بتلك الصلابة والرسوخ؟

تذكَّرَ أن أباه الفقيه هو الذي غرسَ تلك القيم الخُلقيّة في نفسه منذ أنْ كان صبيّاً. لم يكُن أبوه يراجع معه دروسه المدرسيّة فقط ، ولكنه كذلك كان يمضي الساعات الطوال في تلقينه الخير والشرّ. كان يقول له: عليَّ أنْ أعلِّمك ما لا تعلِّمك المدرسة. كان يُقرِئُهُ القرآنَ وكُتُبَ الأخلاق مثل "الأدب الكبير"  و "الأدب الصغير" لابن المُقفَّع، و "أدب الدنيا والدين" للماوردي، و"الرعاية لحقوق الله" للمحاسبي.

 كان أبوه يريده أن يتجنَّب شرور الدنيا ليفوز بالآخرة. وتركّزت تلك الشرور في ثلاثة: الكذب، والخمر، والجنس الحرام. فكان الأب لا ينفكّ يُحدِّثه عن قبحها وإثمها ونتائجها الوخيمة، بحيث أصبح الصبي يشمئزّ حتّى يكاد يتقيأ من رؤية الرجل وهو يكذب، وأمسى يُصاب بالدوار عندما يشمّ رائحة الخمر، ويغشيه الغثيان حينما يرى واحدة من بنات الهوى في الطريق. كان يميّزهن من كثرة مساحيق التجميل على وجوههن وطريقة لبسهن. لماذا فعلتَ بي ذلك، يا أبي؟ ألم تعلم أنَّ الدنيا مليئة بالكذّابين والمخمورين والفاسقين والذئاب؟ لماذا فعلتَ بي ذلك، يا أبي، وأنتَ تعلم أنّي أحبُّك وأنتَ تحبّني، ولكنّي أحبكَ أكثر مما تحبني، لأنَّ لك أولاداً آخرين وأنا لا أبَ لي سواك؟

في هذه الجلسة، وبينما كان بصره طافياً على أمواج البحر الممتدّ باتساعٍ أمامه إلى ما لا نهاية، تذكَّرَ كيف التقى بها أوَّل مرَّة. كان ذلك في المطار حينما كان في طريقه إلى مدينة ساحليّة لإلقاءِ محاضرةٍ في جامعتها. وبعد انتظارٍ لم يطُل في صالة المطار، خرج مع بقيّة المسافرين ليركب الحافلة التي كانت ستنقله إلى الطائرة الرابضة على مدرج المطار. وكانت حقيبته كبيرة بعض الشيء، ثقيلة كثيراً بفعل عشرات النسخ التي حملها من أحد كتبه ليوقعها لمن يقتنيها من الأساتذة والطلاب، في حفلٍ سيعقب المحاضرة. وكان ينوء تحت ثقل الحقيبة عندما همَّ بصعود الحافلة. وفجأة وقعت عيناه عليها. التقت نظراتهما. ولا شكَّ أنّه انبهر بحُسنها وهي جالسة بقامتها الفارعة على أحد مقاعد الحافلة، فقد ارتبكتْ حركاتُ ذراعية وساقيه. كان بحاجة لشيء من التوازن في حركاته يمكِّنه من ارتقاء درجة الحافلة وهو يحمل تلك الحقيبة الثقيلة، ولكن ذهنه أُخِذَ بجمالها.

في تلك اللحظة هبّتْ واقفةً من مقعدها، وبخفّة الشباب وعنفوانه، أسرعت إليه وتناولت الحقيبة من يده ورفعتها إلى جانب المقعد المجاور لها. فما كان أمامه خيار إلا أنْ يجلس في المقعد الشاغر بجانبها. لم ينطق بشيء ولا حتّى بكلمة " شكراً ". كان مأخوذاً بحيويتها، ممتناً لشهامتها، منبهراً بحُسنها. كان في حاجةٍ إلى بعض الوقت لالتقاط أنفاسه. وبعد ذلك كلِّه، فرحلة الحافلة إلى الطائرة لا تستغرق أكثر من دقيقتَين، وهما لا تتسعان لكيفية الشكر التي يريدها.

جلسا متجاورين في الطائرة. لم تفُه بشيء. كان إحساسها على يقين من أنّه سيوجّه الكلام إليها. وانتظرت بصبر. أما هو فقد أغمض عينَيه وأخذ يتمتم بدعاء السفر عند إقلاع الطائرة. وبعد قليل، فتحَ الحقيبة، تناول منها نسخةً من كتابه، التفتَ إليها، سألها عن اسمها قالت: " وسناء". كتب على الصفحة البيضاء الأولى من الكتاب: " إلى وسناء، مع شكري وإعجابي"، وناولها الكتاب.

ألقتْ نظرةً على عنوان الكتاب في صفحة الغلاف الأولى: " مفهوم الحبّ في الثقافة العربية "، فلاحت ابتسامة باهتة على شفتيها تكتنفها سخريّة غامضة. قلّبت الكتاب، وقرأت التعريف الوجيز بالكاتب في صفحة الغلاف الأخيرة. قالت: " إذن، أنتَ الكاتب. زميلتي اقتنت هذا الكتاب، ووعدتني أن تعيرني إياه بعد الفراغ من مطالعته. شكراً."

لم يكُن على وجهها شيءٌ من مساحيق التجميل. لم تلوّن أهدابها، ولا ظاهر جفنَيها، ولا خدَّيها، ولا شفتيها. وإذا كانت قد استعملت تلك المساحيق، فلا شكّ أنّها خفيفة وذات ألوان طبيعيّة، وأنَّها وُضِعت بمهارة وخبرة. فبدا وجهها المليح طبيعيّاً بلا مساحيق. ومع ذلك راودته شكوك في نفسه.

التفتَ إليها، سألها بلُطف:

 ـ ماذا تعملين؟

رمشت عيناها، تردَّدت، غضَّت من بصرها، خفضَّت صوتها، وقالت بتوريةٍ:

ـ أعمل.. أعمل.. في السياحة.

***

قصة قصيرة

علي القاسمي     

......................

* من مجموعة قصصية عنوانها "دوائر الأحزان" صدرت طبعتها الثانية عن دار الثقافة في الدار البيضاء هذا العام، وكانت طبعتها الأولى قد صدرت عن دار ميريت بالقاهرة عام 2004

 

في نصوص اليوم