نصوص أدبية

غابة اليقطين السحري

محسن الاكرمينتحكي الحكايات أن بيتها كان يقع في الغابة بقرب عمق سفح الجبل. وفي كل صباح بارد متمسك ببرودة شتاء كانت تصدر من استنشاق الهواء زفير بخار غائم من صدرها الموحل بالآهات. حين شدت السفح الممتد بصورة العين المقلوبة، شردت خارج مفاهيم الزمان، وبدا أن حياتها تتقلص طولا، وأن شعلة أحلامها قد تصير مظلمة. لحظتها أيقنت أنها لن تتمكن من الإنصات أو الاستماع إلى دواخل نفسها المنفطرة.

حين اقتفت نظراتها المتأنية عمق أغصان الشجرة الباسقة بعرض ظل العشوائية، وجدت طيرا كانت تسميه جدتها في الصغر نذير شؤم، رمقته منكمشا داخل ريشه المنفوش، ودافنا رأسه مثل النعامة في رمال الخوف. وبسرعة برق خاطف عمدت بدا على لملمة نظراتها بالانسحاب، والفر من شؤمه، دون أن تتمكن من تحديد ألوان عين طير المخالب. كانت تتمنى من خوفها الداخلي الآتي من فزع صغر العمر، والذي لحظتها كان قد توغّل سبرا وانسياقا مع نبرات صوت جدتها الأجش، أن يذهب طير ندير الشؤم عن مكان تواجدها وتطمس ملامحه عن عيونها، وبغير عودة شؤم التمكين، وبلا إخافة موالية. لكن الطير الفضي كان أسرع ذكاء في التحرك، و في معاودة طيرانه الدائري ترك لها رسالة من بعيد: "انتظري عودتي عند بزوغ فجر". كم كان خوفها يتفاقم شدة مع برودة طقس شتاء الجبل، كم ستعدد شمس إشراقة أيام الفجر دون أن يعود الطير لموطنه الطبيعي، كم كان طير الشؤم نزقا حين جعل عودة فجر من باب تحصيل نكرة لغة الكلام، ولم يحدد ميقاته الزمني و لا المكاني.

من حكامة سلوك الجسد الباردة حرارته الطبيعية أنه يقترب من نار الموقد بلا تفكير، من مزهرات نار ذاك الموقد حين وقفت على حطب الاشتعال الذي كان ينمو على أشجار ضريح السلف. حينها تذكرت جدتها وهي تلتقط الحطب الميت من خشاش أوراق الأشجار، فقد كانت تحدثها عن نساء القبيلة، كانت تركز الجدة على منطق السلم والسلام والاتحاد الفاضل، وأن النساء في القرية تعلمن بفطرتهن ألا تحملن سيفا ولا فأسا قاطعا يصنع الموت. تعلمت من الجدة حين لدغتها حية الجبل وهي هاربة منها خوفا، أنها أصبحت هي الفريسة السهلة في الصيد واللدغ التحرشي، تعلمت من الجدة أن تسحب السم مزّا من الجرح بتأمين دوام الحياة وبسمة الأمل، تعلمت منها حين أعادتها إلى الوقوف بعلامة جرح لدغة الأفعى الشيطانية، أن كي النار يكون هو الدواء الأخير للجرح قبل التقيح، وأن الهرب في الغابة يسرع حضور القتل و صوت طير ندير الشؤم.

من إطلالة تلك النافدة النيئة بتفاعل كيميائي بين ندى نار التوهج الداخلي بحرارة الدفء، و بين برد سفح الجبل الخارجي الممتد عبر أشجار اليقطين السحرية، كانت تلتقط رؤية متقطعة وشاردة نحو ثقب الغيمة الرمادية، كانت تقرأ ملامح مهمتها الحياتية الآتية من حركات تموج سحاب الغيمة المقبلة لقمة الجبل، كانت مهمتها الأخير مدونة بحروف سومارية بدائية، تحملها الألواح الطينية أرضا وبتشكيل خط مسماري بدائي. كان آخر أمر وبنقطة النهاية عند الغيمة " إنها مهمتك، فلا تترددي ساعته ". لم تستطع قطا الوثوق بأمن حياة سفح الجبل منذ أن لدغتها الحية المميتة وهي هاربة من الخوف. لم تستطع أن تتمم المهمة كما كانت تساعد جدتها في رسم زهرة الحياة، لم تستطع أن تشكل من تلك الأضلاع الزخرفية السداسية دوائر متراكبة ومتراصة بالهندسة التوافقية، لم تستطع إتمام فكر حلم الجدة في تقرير لغة التناص حتى ولو كانت خطوط زهرة الحياة متباعدة.

حين أفرغ جسمها من التقاط لذة حرارة النار، وجدت أن سفح الجبل قد منحها فرصة ثانية لتنظم إلى أخوية تشكيل زهرة الحياة بعد موت الجدة، وجدت نفسها قد اختارت الطريق الصعب كمهمة أخيرة لإتمام بقاء حلم زهرة الحياة، وجدت أن الشرير الظالم يمكن أن ينال الظلم من نفس جنسه. حين ابتعد جسمها عن كاوية المدفئة الحامية بنار حطب شجر ضريح السلف، اقتنعت بالتمام ألا وجود للحياة في الفراغ العاطفي، أدركت أن الإحساس بقيمة القرارات الذاتية يمكن أن يكون مضحكا، ويمكن أن يكون مفلسا، ولكنه في الأخير لا يحتاج إلى حلول آتية من معارف جن الخرافة، ولا من متتالية حظ الصدفة.

 

محسن الأكرمين

 

في نصوص اليوم