تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

نصوص أدبية

أمينة المجنونة

امان السيد الطفلة التي كنتها ما تزال تشعرني حتى اليوم أن لـ" أمينة المجنونة" حقّا عليّ، وعلى الحارات، وأطفالها، وعلى شرفة بيتنا حيث لم أكن وقتها قد تجاوزت بطولي أصص الورود المستّفة عليها، أقف أراقبها، وأتابع أترابي يقذفونها باسمها عابثين، وقد كسروا النّون فيه كما لهجة منطقة " الحَفّة " التي ننتمي معا إليها، أمينة التي لم تسلم من محاكاتي إياهم فناديتها مرة بالمجنونة، فما كان منها إلا أن اعتلت سلّم بيتنا بخطوِ فيل أهوج، وأخذت تخبط الباب باحتقان، وصراخ غير مفهومين لم ينقذني منهما غير جدتي لأبي، وقد كانت معتادة عليها، والتي أقبلت مسرعة تهدّئ من روعها، وتحتضنها ساحبة إياها بعيدا عني، وعن بيتنا تاركة وراءها قلبي الصغير يخفق بشدة.

كانت "أمينة" فارعة الطول صهباء بشعرها الغزير الملقى بلا اكتراث فوق كتفين عريضتين، تحزمه بقبعة  كبيرة من القشّ أشبهت المظلة تحميها من الشمس، فتستحضر هيئتها في المخيلة تمثال الحرية الشهير.

احتاروا في تفسير إصابة المرأة بالجنون، فمن النسوة من تغامزن بحكاية طريفة أنها فقدت عقلها في ليلة دخلتها حين خلع العريس ثيابه، فنفر منه ما أفزعها، وأصيبت من ساعتها باللوثة، ويحتجون بكون أمينة تتنقّل دائما مرخيّة فوق بدنها بوقا عريضا معكوفا، وتتجول مرددة باللهجة المحكية بضع كلمات ما تفتأ تكررها: " بدو يموتني، أبعدوه عني"، أما فستانها البرتقالي المزركش فقد دلّت منه حمالات صدر عديدة، حصلت عليها من نسوة البيوت التي تمر بها بعد أن تتكمش بأثدائهن حتى لتكاد تنزع  تلك الحمالات عنها نزعا، أما الشيء المثير حقا، فقد كان الصورة التي غمرت من أمينة معظم ثوبها لتبتلع جانبا من حذائها طويل الساقين المعقود على رجليها بشرائط متصالبة، وكانت لرجل ضخم أسمر، وسيم الملامح يصدر في خطاباته عن صوت مهيمن أخّاذ، شعاراته القومية التي ينادي بها، كانت تُلهج أكفّ العرب بالتّصفيق في تلك الحقبة من الزمن، صوره تلك لم يكن يخلو منها بيت، أو شارع.

أمينة" كانت تحرص على متابعة الخطابات مثلهم، بل، وأكثر، من خلال راديو ترانزيستور تسنده إلى أذنها كي لا تفوتها كلمة، تنصت باهتمام، وهي تتنقل في زقاقات "الحفّة"، وتصفق مع المصفقين بنشوة تصدح أصداؤها حولها. كانت " أمينة" والسدّ في منطقتنا ختمين تتداخل فيهما الخصوصية بالدهشة.

زمن هادئ وادع، ونقيّ، ذاك الذي احتضنني و"أمينة" بتفاوت عمرينا، غير أنه لم يكن يقلّ في توقّده، وحماسه المصاحب، عما نعاصره اليوم من انشداه العامة الأزليّ، برموز السلطة وفراعينها، ولعلّ بوق "أمينة"، أو نعيق عريسها، أو مذياعها بما كان يحرك، قد أعاد إلى الحياة قيامتها، لتشبّ أمينة خدرا جديدا في أجساد ترفض أن تشفى من دائها.

يتناقل أهل الحفّة عن "أمينة" أنهم عثروا بها ميتة قرب السدّ معانقة صورة الزعيم الأسمر الذي كان خطابه الجماهيري ينطلق وقتها من راديو الترانزيستور. كانوا يرددون: إنها مجنونة، والمجانين أحرار في أن يصلوا بمشاعرهم إلى من يحبون، ويهوون مهما علت بهم المناصب، والكراسي!

 

أمان السيد

سيدني - أستراليا

.....................

* قصة من المجموعة القصصية: قصة من " نزلاء المنام"

 

في نصوص اليوم