نصوص أدبية

صالح البياتي: رجل الله

صالح البياتيذاك هو من بعيد..

رأيته؛ فأثار كل تلك الذكريات القديمة، عن المكان والزمان.

أوقفتني أمامها، رفعت كفها الموشومة، ورسمت دوائر وهمية فوق رأسي، وتمتمت؛ ليباركك الله يا بني ولتعش عمرا طويلا، بعدد ذرات قبره، وختمت كلماتها بضمة حانية الى صدرها، رفعت نظري باسما، كأي طفل لم يفهم شيئا مما سمعه أو رآه.

هذه هي الصورة التي كلما استعدتها، لبثت لحظة أطول من غيرها، وحفزت ذاكرتي لتنشط؛ وتسترجع أحداثا آخرى؛ كاد الزمن ان يدفنها الى الأبد.

بعد أن كبرت؛ عرفت ماذا كانت تعني أمي بذاك الدعاء الغريب.

رجل الله؛ الدفين في حجرة بجامع الحي، الذي كان معروفا بإسمه اول الأمر، فهو الذي ابتناه من ماله الخاص، ولكن مع حركة الزمن البطيئة آنذاك، لم يعد أحد يتذكر اسمه الحقيقي، والذين عاصروه؛ ومن بينهم جدي لأبي، أتفقوا أنه توفي ولا عَقْبَ له، وأن اسمه وكنيته، تدلان على أنه من بلاد آخرى، تختلف لغتها عن هذا البلد، ولكن يجمعهما دين واحد.

كنت أتجنب الإقتراب من الجامع، خوفا من الحجرة، ومهما حاولت أمي ان تبدد مخاوفي، بما تسرد من حكايات عن رجل الله، الطيب الذي كان يحب الأطفال، ويفرحهم بالهدايا والحلوى، في أيام الأعياد وسواها، كانت حكاياتها تذهب ادراج الريح، بسبب ما كنت أسمعه من الأولاد الأكبر مني، كانوا يبثون حكايات مرعبة، بين الأطفال الأصغر سنا، يزعمون انهم يسمعونها من عجائز الحي، والحقيقة أنهم يختلقونها من وحي خيالهم الشيطاني، فكانت تثير مخاوفي، وتجعلني أخشى الإقتراب من المكان، خاصة عند حلول الظلام، حيث تراود خيالي أشباح ومخلوقات مرعبة، تخرج من الحجرة وتطارد الصغار، ومما زاد تلك المخاوف قوة، ما حدث لإمراة كانت تجلس عند عتبة دارها، تلقت حجرا كاد يودي بحياتها، ذاع الخبر في الحي؛ ان جني الجامع هو الذي قذف الحجر؛ لأنه ينزعج من خروج المرأة وقت العتمة من بيتها، في الحقيقة لم يكن جنيا، كان أحد الأولاد العفاريت، تخيلها كما أسرني جنية سوداء فصدقته، لأنه في هذه المغامرة لم يدع البطولة، بل كان خائفا عندما رآى اسنانها البيضاء تلتمع في الظلام، ولكن أمي عندما أخبرتها لم تصدق أنه إنسي، اصرت أنه جني حقيقي.

تحول الجامع من بيت الله الى بيت الأشباح، وإختبأت الخفافيش في سقوفه، فكان صوتها الحاد عندما تطير؛ يثير الرعب في قلوبنا، سمعنا في تلك الأيام، ان خفاشا التصق بوجه إمرأة، وفشلت كل المحاولات لأنتزاعه، حتى تذكرت إمرأة عجوز، طريقة رجل الله التي كان يستخدمها، فذهبت قبل طلوع الفجر، لمساعدة المرأة المسكينة، وضعت أمام وجهها مصحفا شريفا ومرآة صغيرة، فإرتخت جناحا الخفاش وتركها، ولكن بعد ان قضم قطعة من انفها، كما زعموا، فدعيت بإمرأة الخفاش، أشياء عجيبة كانت تحدث في حينا، لم استطع أن أجد لها تفسيرا، وستظل اسرارا قابعة في أقبية الظلام، حتى يقيض الله رجلا من عباده، يساعد الناس بعلمه على فك الغازها، لنرى من سينبري لتلك المهمة الجليلة!

بدا أن الله حسم الأمر؛ إختار الأستاذ أبا علي المندائي، معلم الرسم؛ كنت في السنة السادسة ابتدائي، كان في كل حصة اثناء الدرس، يردد على مسامعنا عبارته الشهيرة:

" أقرأوا ثم إقرأوا، إستغلوا وقتكم للقراءة، حتى في أوقات الطعام، ضع كتابا قربك، كُل وإقرأ."

كان معلم الرسم، شخصية جذابة، رساما ومثقفا ذاتيا، علمنا كيف نخلق من الطين أشكالا؛ تماثل صورها الأصلية، ينفخ فيها من روحه الفنية فتقترب من الحقيقة.

إتبعت نصيحته حرفيا؛ بل قل قدستها؛ بمعناها الإيماني، إنغمست في القراءة فقرأت كثيرا؛ خلال المراحل الدراسية التي تلت الإبتدائية، صعودا للمرحلة الجامعية، علمتني أن أفكر بمنطق سليم، فأتفق مثلا مع الرأي القائل :

" أن أزدياد معدل الجرائم في المدن الكبرى، إبان الثورة الصناعية في أوربا، يرجع ( من بين عوامل آخرى )، الى ضعف الإضاءة في الشوارع، وأن جذور العنصرية ضد الملونين، موغل في القدم، لخوف الإنسان البدائي من الظلام الدامس، لأنه يخفي الأشياء المجهولة عن الأنظار، فهل هذا يا ترى صحيح!

تساءلت.. وماذا عن الأشباح مثلا؛ فهي بيضاء ولكنها مخيفة ايضا، فقلت في نفسي ربما لأنها تتسكع على هواها في الظلام، لكن رجل الله الذي ظهرلأمي شئ آخر ..

سألتها يوما أن تصفه لي، فقالت كأنها رأته حقيقة؛ هو شيخ طويل، نوراني الوجه، لحيته الطويله وشعر راسه وثيابه، كلها بيضاء، وابتسامته ياالله، إبتسامة تؤسر القلوب. وكما وصفته رأيته في منامي، قال لي يا بني لا تخف الذين يرقدون في القبور، فهم مسالمون لا يؤذون أحدا، الخوف الذي نخشاه يأتي من الأحياء؛ الذين يدبون على الأرض أو يطيرون في السماء.

بدد ذلك الحلم الجميل كليا؛ أوهامي دفعة واحدة، وبعده لم ينجح أحد من الأولاد الأشقياء؛ أن يضحك علي او يسخرمن جبني.

عندما اصبح الجامع مهجورا، عبثت به يد الخراب، وأستوطنته الخفافيش، دخلته يوما، قاصدا حجرة الضريح، إزحت التراب المتراكم؛ فظهر شاهد القبر؛ الأسم وتاريخ الوفاة، فكتمته في نفسي، لأني أعلم ان ذلك سوف لن يغير شيئا، مما إعتاد عليه الناس، فقد غلبت الصفة ( رجل الله ) على الموصوف. وظل يحيا في ذاكرة أهل الحي، طوال العشرة عقود الماضية، كما الرجال العظام والأجداد الأفذاذ، يستحقون منا الإحترام والتبجيل.

الأيام قد تحبل بأجنة مشوهة، تُزرع سفاحا في رحم الزمن، فتولد مفاجأت فاجعة، فعندما نشبت حرب الثمان سنوات؛ أستعاد الجامع المهجور منذ زمن طويل، بعض وظائفه الإجتماعية، فتحولت قاعة الصلاة الى مجلس مواساة لذوي الضحايا، وقام خادم الجامع بتقديم كؤوس الماء وفاجين القهوة للمعزين، وأسندت التوابيت الخشبية على جدران الجامع الداخلية.

شمس تموز لها طاقة عجائبية، فهي تجفف طينة أحفاد السومريين؛ قبل غيرهم من أهل البلاد، فيشبون عن الطوق قبل أوانهم، وجدتني اقف خاشعا، اوقد شمعة فوق قبر رجل الله، وأقرأ فاتحة الكتاب، في تلك اللحظة شعرت به يقف بجانبي، يمسك كفي، ورغم أنني كنت قادرا على الإفلات من قبضته اللينة، ولكني لم أهرب؛ كما كنت أفعل قديما؛ حينما يتملكني الخوف، بالعكس؛ شعرت أنني عدت صبيا، يغمرني إطمئنان نفسي، وفرح يفوق الوصف، ببطء إنفلت اصابعه، وعدت لسيرتي الأولى، مغمورا بفرح تمنيت ان يدوم أطول مدة، كان الخادم لايزال ينظرالي؛ حتى انتهيت من القراءة، وعندما التفتُ أنزل كفيه ومسحهما بوجهه، قفزت لذاكرتي كل الصور دفعة واحدة، متداخلة متدافعة، مختلطة بالأمكنة والأزمنة والناس، أوقفت جريانها رؤية خادم الجامع المجذوب، الذي يقف الآن أمامي ولم يكن موجودا آنذاك.

مرة رأيته عند جرف النهر، سمع بصبي غريق، وقفت أمه طوال النهار باكية، تتضرع ان تظهر جثته، قبل أفول الشمس، خوفا الا تراها العيون في الليل، ويجرفها التيار الى الهور القريب أوالبحر البعيد، وفجأة بعد أن تمتم خادم الجامع بكلمات غير مفهومة، ظهرت الجثة طافية على وجه الماء، فتمكنوا من انتشالها، ذاع صيته في أماكن آخرى بالمدينة، فكانت النسوة يأتين بالشموع والبخور، وأخريات يقدمن النذور، ويطبعن أكفهن الملطخة بالحناء، على باب الجامع الخشبي المهجور، كانت بعض تلك اللطخات طرية تفوح منها رائحة الحناء الخضراء، وأخرى داكنة جفت منذ زمن، وترى في اسفله بصمات اصابع صغيرة.

خادم الجامع الذي بكى بحرقة، ونشج كطفل متألم؛ تعاطف بصدق مع الام، الأخت، الزوجة والأبنة، اللاتي نثرن دموعهن، يتوسلن بالسماء؛ لعلها تفتح بابا أو حتى كوة صغيرة، ليصعد دعاؤن الى الله، ولكنها ظلت موصدة، لم تستجب لهن، ولم تتوقف الحرب، استمرت تحصد الأرواح بلا هوادة، ونفدت التوابيت من الجامع، كان خادمه المجذوب يحملها على ظهره، ثم يضعها على الأرض،

وينزل فيها ضحايا السنوات الأربع الأولى؛ من عمرها المشؤوم.

تذكرته يتخذ تابوتا ينام فيه إتقاء برد الشتاء، متدثرا بأسماله وبمعطف عسكري، ورثه عن جندي تولى غسله وتكفينه، كان بعض أشقياء الأطفال يرمون التابوت بالحجارة؛ من بين قضبان النوافد التي تحطم زجاجها، فيهب راميا غطاء التابوت جانبا، يفرون بسرعة ويختفون في بيوتهم، فلا يتمكن منهم، وإن أمسك بأحدهم فإنه لا يؤذيه ابدا، وإنما يحمله بين ذراعيه الى بيته، ويترجى اهله الا يعاقبونه، كان يقول لهم انه سامحه من كل قلبه، كان يعرف جميع أهل الحي، أحبوه وأحبهم، لم يبخلوا عليه رغم فقرهم، بقليل من النقود، الملابس المستعملة، والطعام، جئت امسية لأوقد شمعة على قبر رجل الله، فوجدته يقيم صلاته واقفا رافعا يديه الى أعلى ما يستطيع، يصلي صامتا، إنتظرته حتى فرغ، سألته وكأنني أكذب نظري، أكنت تصلي، هز رأسه بالإيجاب، قلت في نفسي تلك والله هي الصلاة، كان الجامع بيته الذي يأوي اليه، لم أكن أعرف أسمه، فالبعض يدعونه بالمذهول او المجذوب، أو اي أسم يخطر على بالهم، فسألته عن اسمه فأخبرني، ولشدة دهشتي كان اسمه وكنيته مطابقا تماما، لما قرأته على شاهد قبر رجل الله.

هو الذي رأيته هناك من بعيد..

***

قصة قصيرة

صالح البياتي

 

في نصوص اليوم