نصوص أدبية

علي صالح جيكور: إنكريد..

إنكريد، هي أول إمرأة أتعرف عليها في هذه البلاد الغريبة، بعد شهور طويلة من الوحدة والتسكع، إلتقيتها في المترو النازل الى وسط المدينة.

جلست قبالتها وكنا متجاورين، بعد أن تركت السيدة المُسنة الجالسة أمامها، مقعدها ونزلت في المحطة التالية، ليتسنى لي النظر إليها والحديث معها.

كان ذلك في عصرية يوم مشمس من نهاية شهر آيار..

لم تكن على قدر كبيرمن الجمال، فهي قصيرة وممتلئة بعض الشيء، ترتدي نظارات طبية وتكبرني بعامين

لكن وجدت فيها شيئا مغريا، جذبني لسبب أجهله!

صرتُ أهتم بمتواضعات الجمال من النساء،على شاكلة إنجريد، بعد أن يئست من التعرف على فتاة شقراء جميلة، تلائم ذائقة شاب شرقي حالم..

سألتها بلغةٍ هولندية ركيكة:

هل يصل هذا المترو الى محطة راينهافن؟

كنت أعرف كل محطات المترو والترام ومواقف الباصات، أكثر من أهل المدينة ذاتهم، لكني أردت بسؤالي هذا مدخلاً للحديث معها..

أجل، يصل الى هذه المحطة، قالتها وإبتسامة عذبة أشرقت من عينيها الحشيشيتين الصغيرتين..

شكرتها بلطف، ثم رحت أنظر اليها عبر زجاج النافذة الذي عكس صورتها بوضوح تام.

خلعت سترتها البنية القصيرة، طوتها وألقتها الى جانبها، أبهرني ذراعها الأبيض وصدرها المُنمش الممتليء.

تنبهتُ الى جمالها، وفي الحقيقة لا أدري إن كانت جميلة، أم أن الحرمان صورها لي بهذا الشكل؟!

خشيت أن أرمي صنارتي التي طالما عادت بخيباتي وإخفاقي، لكني إستجمعت ما لدي من جرأة وسألتها:

هل أنتِ من هذه المدينة؟

كلا، أنا من مدينة فلاردينن، على مبعدة عشرين دقيقة من السنترال بالقطار.

وأنتَ؟ لا تبدو من هنا..

بلى، أنا أسكن قرب المحطة التي صعدنا منها قبل قليل..

قالت : وكيف لاتعرف بأن المترو يصل الى راينهافن وهي على مبعدة ثلاث محطات من محل سكناك؟!

في الحقيقة أنا أعرف، لكني وددت أختلاق أي موضوع، ليكون مُستهلاً للتعرف بك..

ضحكت بصوت عال وظلت تقهقه للحظات، مسحت دموع الضحك وقالت:

كان لدي أحساس بإنك كذّاب..

 ضحكت بدوري، لأداري حرجي، قلتُ:

صح، أنا كذاب، لكنها كذبة بيضاء، بيضاء، صدقيني..

ألقت نظرة على جسدي الرياضي الممشوق وظلت تحدق بعيني، قالت:    

 أحب هذا النوع من الكذب والكذابين..

إذاً مازال الأمر هكذا، ما رأيكِ بفنجان قهوة؟

قالت: لا بأس..

هبطنا من المترو وسرنا شارعين خلف محطة القطار، دخلنا مقهى صغيراً، جلسنا في أحد اركانه، طلبتُ لها قهوة، ولي زجاجة بيرة..

تحدثنا لساعة كاملة بإنشراح ومرح، وكأننا تعارفنا منذ اعوام، تركت لي رقم هاتفها، صافحتني مبتسمة، ثم إنصرفت.!

إنتشلتني إنكريد من وحدتي وتعاستي، كانت طيبة وسخية، في عطاءها الروحي والجسدي، عُدتُ معها ذلك المُراهق الحالم.

بعد أيام من ذلك اللقاء، كنتُ أجلس بمنتصف الليل في شرفة شقتها الصغيرة، أترشف شراب (الجنيفر) وأدخن، كانت إنكريد نائمة بثوب قصير، لاشيء تحته، وقطتاها تغفوان فوق الأريكة المخملية الصفراء..

قناني النبيذ والبيرة الفارغة، مبعثرة على الأرضية والطاولات، ومنافض السكائر ممتلئة، وتفح منها رائحة خانقة...

في الصباح إستيقظت وعليها روب إستحمام أبيض، فتحت النوافذ كلها، رحتُ أساعدها في جمع القناني وغسل الصحون،

قالت لي ضاحكة:

قلبت شقتي رأساً على عقب وصيرتها فوضى يا كذاب، ظلت تنعتني بهذا اللقب القبيح إلى آخر يوم من علاقتنا.

بعد أيام من تلك الليلة عرفتني بإمها، جلسنا في حديقة دارهم نحتسي القهوة ونثرثر، أبواها منفصلان منذ سنوات، لها أخت تسكن في ذات الشارع الذي تقيم فيه أمها، وأخ في مدينة أمستردام.

كُنتُ أتصبب عرقاً عندما يكون أخوها حاضراً بيننا، فإنكريد اللعينة عرفت طبعي الشرقي، فكانت تقفز الى حضني أمام أنظارهم وتطبع قبلات على وجهي، لتتسلى بخجلي وأضطرابي..

لم أستطع الإنسجام معهم، كنت أشعر بالضيق والملل من أحاديثهم التي لاتعنيني، فأنا بينهم مثل أطرش في زفة، اتبسم حين يبسمون، وأعبس عندما يعبسون.

إنفصلنا، ولم يكن هنالك سبباً مباشراً للإنفصال، كلانا كان يدرك بأن هذه العلاقة عابرة، نزوة، هي أيضاً كانت تعاني مثلي من الوحدة والضجر، لعلها إعتبرت علاقتنا القصيرة، محطة إستراحة في حياتها الرتيبة المحصورة بين بيتها ومحل عملها!

كانت بداية النهاية قد حلت، بعد أن أحست بسأمي ومللي الواضحين، صرتُ أتهرب من لقاءآتنا اليومية، الى لقاء أسبوعي ومن ثم مرتين في الشهر، ثم أختفيتُ تماماً من حياتها.

إلتقينا صدفة بعد عشرة أعوام، وفي ذات المترو النازل الى وسط المدينة، تصافحنا بحميمية، لم نأت على سيرة الماضي بكلمة واحدة، زاد وزنها قليلاً، وتبدلت قَصَةَ شعرها، لكنها ظلت تحتفظ بضحكتها الحلوة وبسمتها المُشرقة، من عينيها الحشيشيتين الجميلتين.

***

علي صالح جيكور

 

في نصوص اليوم