نصوص أدبية

نضال البدري: سربُ الحمَام

صباح كلّ يوم ومنذ عشر سنوات تقريباً، وبعد أن تقاعد عن العمل، كان يبدأ يومه بقرقعة الصحون وهو يدندن ما علق في ذاكرته من أغانٍ قديمة مع صوت دوران ملعقة الشاي وهي تحرّك بلورات السكر الهاربة من ضرباتها.  كلّ يوم يشبه اليوم الذي مضى واليوم الذي سيليه بالنسبة إليه. كان يبدو كحصان عجوز سُرّح من الخدمة، يعيش على ذكرياته وبطولاته التي يتفاخر بها كثيراً، حتى فقدت قيمتها بعد أن استهلكها التكرار اليومي، ونكاته هي الأخرى أصبحت تثير الملل بدلاً من الضحك. ربما هكذا هم كبار السنّ، يجعلهم الفراغ يستحضرون ذكريات الماضي، وحين يبادرهم أحد بالحديث يودّون أن يستمرّوا في الكلام لوقت طويل وألا يصمتوا.

جميع من في المنزل مشغول بعمله، والزوجة المسنّة تغطّ في نوم عميق، تستفيق عادة بين الحين والآخر، أمّا هو فكان حريصاً على نظافة ياقة قميصه البيضاء، ثم يمسك مشطه الصغير يسرّح به ستّ أو سبع شعرات مازالت صامدة في رأسه لم تنّسب من بين أسنان المشط. يسأل قبل أن يغادر البيت "شنو غدانا اليوم"؟، ثم يتوجه إلى أحد المقاهي الشعبية التي اعتاد أن يلتقي فيها مع أصدقائه القدامى لكي يتباروا في لعبة (الطاولة)، وهي أكثر الألعاب التي يرغب كبار السنّ من الرجال في لعبها، ويرتفع خلال اللعب صوت تقلّب النرد، وصدى كلمة "دوشيش" حين يستقرّ النرد على الستّ نقاط، يعقبها صوت مرتعش لأحدهم وهو يغني المقام العراقي حين يتغلب على خصمه الآخر، والابتسامة تعلو وجهه. وقد يتبادلون أطراف الحديث في موضوعات عدة، يكون أهمها الحديث عن الأوضاع السياسية والهجمات الإرهابية التي تحدث في أيّ لحظة، وتقتل الناس، وتحصد أرواح العشرات من الأبرياء ممن يرومون الذهاب إلى دوائرهم، وكذلك طلبة المدارس والجامعات الذين لا ذنب لهم.

ثم ينهض مغادراً بخطى ثقيلة إلى آخر محطاته اليومية، وهي الجلوس على حافة رصيف إحدى النافورات التي تتجمّع تحتها العصافير والطيور الهاربة من حرّ الصيف اللاهب، يجلس ويتطلع إلى المارّة من الناس والباعة المتجولين وهم يتقاطعون في سيرهم وحركة السيارات المارّة من أمامه، أغلبية المارّة من هناك كانوا يعرفونه ويلقون التحية عليه، لقد أصبح جزءاً من هذا المكان وكأنه نصب تذكاري من البرونز. ثم يعود بعد أن يغلبه النعاس إلى المنزل.

 لم يفقده روتينه اليومي ابتسامته المعتادة ولا ثرثرته، كان يحاول أن يلمّ شتات نفسه ويعيد ذاته الأولى وهو يتابع مباريات كرة القدم مع أولاده كأيّ شاب يعلو صوته ويفقد أعصابه حين يخسر الفريق المفضّل لديه أمام خصمه، يتحدّث وكأنه حكم ومدرب دولي يقتنص الأخطاء.

ذات صباح طالع وجه زوجته التي كانت تغطّ في نومها العميق وفمها مفتوح كفم سمكة، وبالقرب منها طقم أسنانها المتيبس. كان يشتاق أن يراها في ذلك اليوم مستيقظة، لسبب لا يعلمه، ويطبع على خدها الذابل قبلة قبل أن يخرج. لكنه هذا الصباح بدا هادئاً وخالياً من الضوضاء التي كان يفتعلها متعمداً أن يوقظ الجميع. قبض بكفه حفنة من حبوب الحنطة واضعاً إياها في كيس، حيث اعتاد أن يطعمها للطيور والعصافير. خرج قبل أن يفكّر في الذهاب إلى المقهى، فقد ذهب هذه المرة إلى الساحة، متأبطاً تحت ذراعه إحدى الصحف التي لفها كورقة تبغ، وعندما وصل إلى الساحة فرش ورق الصحيفة -التي تتصدر التفجيرات والأوضاع السياسية عناوينها -على الدكة، ككلّ يوم تقريباً، جال بين سطورها بنظرة سريعة قبل أن يجلس محدّثاً نفسه قائلاً: ما علاقتي أنا بالسياسة، أنا رجل مسنّ، الأجدر بي أن أهتمّ بصحتي قبل كل شيء.

فتح الكيس وأخذ ينثر حبّات الحنطة في الهواء، فتجمّعت أسراب الحمَام والعصافير من حوله، وراحت تحطّ وترتفع مرفرفة بأجنحتها وهي تلتقط الحبّات بمناقيرها الحمراء الصغيرة، منظر جميل جعله يبتسم ويشعر بسعادة أنسته أوجاع الشيخوخة وأوجاع الوطن. تسارعت ساعات الصباح حتى وصلت ذروتها، فازدحم الشارع بالمارّة والسيارات، واكتسحت أشعة الشمس المكان، وقبل أن يغادر بقليل، فجأة عصف صوت انفجار رهيب طغى على صوت المكان وضوضائه وزحمته، تبعته عاصفة رمادية اجتاحت المكان برمته، محّولة  إيّاه إلى ركام وأكوام من الحديد، وقطع من الزجاج المحطّم المتناثر في كل مكان، وبرك من الدم التي نزفت من أجساد المارة، جعلت منها  بقعة حمراء. بعدها عمّ السكون المكان وكأن الحياة قد توقفت، هرعت سيارات الإسعاف والإطفاء لتسعف المصابين وتخمد ألسنة اللهب في المكان الذي صار مليئاً بالدخان والسخام الذي خلّفه الانفجار. تسارع الجميع للبحث عن ذويهم بين المصابين والقتلى، إلا هو، فلم يعثر أحد على جثته بالرغم من البحث الطويل، بدا مكانه عبارة عن بقعة بيضاء نظيفة جداً! كأنه غادر المكان قبل الانفجار بلحظات، بينما المساحة المتبقية من الرصيف كان يكسوها السخام الأسود الذي غطى المكان، لم يجدوا أيّ أثر له في المستشفى، أو ثلاجات الموتى، كما لم يجدوا أيّ أثر لأشلاء جسده، أو أيّ شيء يدلّ على أنه قضى نحبه في الانفجار. بعد عدّة أيام شاع حديث بين الناس وتناقلته الألسن بأنهم شاهدوا سرباً من الحمَام حمله وطار به بعيداً.

***

نضال البدري

عضو اتحاد الأدباء في العراق

في نصوص اليوم