نصوص أدبية

تماضر كريم: حدث في إحدى المطارات

في المطار، وقبل أن يأتي موعد طائرتي فكرت أنه قد يحصل لي، كما في الأفلام، تلك التي يتعرف فيها ضائع وحزين ما، بفتاة من نوعه مختلفة، جميلة وغامضة وعميقة العينين. كان هناك وقت كاف، ثمة ثلاث ساعات  تفصلني عن موعد رحلتي، وأنا هنا وحيد، مع حقيبة سفر، وحلم جامح ورغبة في الحديث والضحك ومشاركة الطعام معها، تلك التي ستأتي، كما رسمها كتّاب الروايات والقصص. ربما في البدء ستمرُّ بشكلٍ عابر، تسألني عن مكانٍ ما في هذا المطار الكبير، بعدها تتشكّل الكلمات والأفكار لتنتج حديثا، سأنبهرُ بعينيها السوادين، ويديها وصوتها، وألمح حزنا وحكايات خلف حديثها المقتضب وصوتها ذي البحّة العذبة.

ستكون تلك الساعات القليلة، مفعمة بحديث عابري السبل، عندما تجمعهما محطات السفر، حيث يشجعهما كونهما غريبين على البوح والشكوى والتذمر وحتى البكاء، فهما أحرار من صِلات القرابة وتبعاتها.

على مقعدي في زاوية من المطار البارد ذي المساحة الشاسعة ومع حركة المسافرين الدائبة، الراحلين والعائدين، الحزينين الذين يلوحون بأكف الوداع، والفرحين بحلاوة اللقاء والعناق، كنت هناك، أنتظرها، تماما كما في الأفلام، حين تجيء مثل حُلم لتشرق شمس كانت قد أفلت في قلب البطل، البطل مثلي، على مقعده يشعر بالخذلان، مثلي أنا الآن في هذا المكان، مع هذا الكتاب الممل والحقيبة المحشوة بأمتعة تافهة، ومظلة لم تعد تجد في المطر إغراءً. انا بائس جدا مثل بطلٍ في روايةٍ  لكافكا، يرسمُ كيف سيطرق سمعه وقعَ كعب حذائها على البلاط الصقيل، وتغشاه نفحة من عطرها، ليحصل ما يحصل. حيث سنتحدث حتى سماع النداء  بالتوجه للطائرة، وعندما نفترق، يحدث أن أمسّ يدها، فتتشبث بي، ومن يدري قد يحصل أنها تغير وجهة سفرها كما يحصل في الكتب تماما.  مثلما  تمنيت واشتهت روحي المثقلة بحنين لا يوصف.

مع أن نصف ساعةٍ مرّت دون أن تظهر، لكن المشهد أمامي شديد الوضوح والألق حيث تلتقي عيوننا وتشتبك نظراتنا التي تنتظر لحظة، قد تكون هي اللحظة الأهم في العمر. ومن حولي وجوه  أصدقائي الذين لطالما ظنوا أنني خائب في الحب، وأمي التي توقعت دائما أني سيء الحظ وزوجتي التي تركتني بحجة عزلتي وغرابة اطواري وهوسي بالقراءة، جميعهم أمامي الآن حزينون لأن حلمي يضيع، وابتسامة مرة صفراء على وجوههم التي تُظهِر العطف. وتتهمني بالسذاجة، كدت أصدق أنا الآخر، لولا أن عطرها غمرني، وخطواتها على البلاط طرقت سمعي، تماما كما في خيالي. اقتربت مني، صارت بمحاذاتي. رأيت وجوه اصدقائي وأمي وزوجتي تبتسم مرة أخرى بسخرية، لكن تلك الإبتسامة اختفت عندما التفتت نحوي وسألت عن مكان ما.  إبتسامتها كانت أجمل بكثير من تلك التي رسمها خيالي. لا أعرف إلى أي حد كانت عيناي مفضوحتين، فقد قرأتُ في عينيها أنها تفهم كلّ شيء، كانوا هم حولي فاغري الأفواه، ينتظرون إن كانت ستجلس أم تمضي في طريقها غير آبهة. لكنها  لمحت عنوان كتابي، فقالت بفرح (عجبا .. منذ مدة وأنا أبحث عن رواية 'الوشم" كيف حصلت عليها)، قلت لها فورا إنني أهديها لها، ترددت قليلا (لا يمكن ذلك إنه كتابك)

- لقد قرأته..ويسرني أن تقبليه مني

- شكرا.

لقد تصفحت الكتاب وهي جالسة على المقعد قريبة مني، بيديها اللتين اعرفهما كما اعرف جزءا مني. فيما بعد تكلمنا عن أبطال الرواية وأحداثها، للحظة نسيت أين أنا وماذا انتظر وأين كنت أنوي الذهاب، حتى الوجوه المحدِقة بي، تلاشت، ولم تبق سوى رموشها وهي تومض مثل قنديل في قرية نائية. وقفت فجأة، وقد عدلت من وضع حقيبتها متوسطة الحجم، كان موعد رحلتها قد حان. لم أرد أن تمضي أبدا، كانت فاتنة ورقيقة وتحب القراءة مثلي، ماذا لو جميع الكتاب وضعوا نهايات سعيدة لقصصهم؟ كنت أسير معها وقد اقتربت لحظة الرحيل.  مددت يدي في جيبي، ثمة علكة بطعم النعناع، أخذتْها مني ضاحكة. لقد رغبت في حصول شيء مهم، شيء خطر قد يحول دون سفرها، في هذا البلد تحصل دائما أشياء سيئة، كنت أفكر فقط لكني لم أقصد حقا أن ينشب حريق في إحدى صالات المطار، لقد ارتبك الجميع، وعمت الفوضى، وحده قلبي كان سعيدا، محلقا، يمسك بيدها ويركض، كان الدخان كثيفا وسقط كثيرون وارتبكت حركة الطائرات، وتناثرت بعض الحقائب، ودوت أصوات سيارات الدفاع المدني والإسعاف، لكني كنت مطمئنا..هادئا جدا،  أمسك بيدها الصغيرة  وأخبرها أن كلّ شيء سيكون بخير.

***

تماضر  كريم

 

في نصوص اليوم