تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

نصوص أدبية

محمد محضار: زمن التمزق والتشظي

البحر أمامي، الأمواج تتكسر عند الصخور الناتئة، فتتحول إلى موجات صغيرة،الأفق يعانق زرقة الماء التي تتحول إلى خضرة مشوبة بالبياض وأشعة الشمس المنفلتة من بين الغيوم الرصاصية تعكس ألوانا متداخلة على سطح البحر، على بعد خطوات مني اعتلى صياد في متوسط العمر صخرة متشحة بالسواد وطرح صنارته في البحر،علَّ سمكة تعلق بها، كان منشرحا مستمتعا بالأجواء.

تقدمت خطوة إلى الأمام،أصبحت على مستوى واحد مع الصياد، رش رذاذ الموج وجهي ومناطق أخرى من جسمي، أحسست برعشة نشوة سرت في كل ذاتي، التفت إلى الخلف رأيت زوجتي منشغلة بجمع أصداف البحر وقطع الأحجار المتناثرة بين الصخور وعلى الرمل، تركتها لحالها، وعدت لأحضن بفرح طفولي سحر المنظر المبهج الذي كانت ترسمه الطبيعة أمامي، قلت لنفسي : "أريد هدنة تبدد بعضا من ثقل السنين الماضية، وتُسكّن إلى حين أوجاع الخاطر والبدن، وتسمح لي بمواصلة الرحلة دون توترات طارئة، فالطوارئ لا تحمل إلا ظلال الكآبة و بؤس اللحظة، وتزيد شدة التمزق والتشظي."

نادتْ عليَّ زوجتي تدعوني لمغادرة المكان، رفعتُ يدي مطالبا إياها بالتريث لحظة، وافقتْ، ثم عادت لأصدافها وأحجارها، وعدت أنا إلى عالمي أمارس طقوسي بصيغة خاصة بي، سألتني موجة حمقاء وهي تلقي بمائها وزبدها نحوي :"أتبحث عن الزمن الضائع عند البحر؟.."

لم تترك لي فرصة الرد وأجابت عن سؤالها:" لن تجد هنا إلا الضياع دون زمن، ولن ترى إلا الوجع المضمر في سحر المنظر وجمال الصورة".

استفزني الأمر وأيقظ داخلي مرارة لم أفهم سِرّ انبلاجها، هناك طبعا شيء غير طبيعي يقلب مزاجي ويضعني في مواجهة حقائق ووقائع ذات حمولة سلبية تقتل ذلك الإحساس السابق وتصيبني بالخرس، تراءت لي فجأة بين أحضان الموج المتلاطم جثثا آدمية تطفو على سطح البحر، تذكرت نصيحة قديمة لوالدي :" احذر يا بني البحر والنار والمخزن".

اهتز وجداني بقوة، تلاشت جمالية المنظر، وقفزت الى الذاكرة جُملة من التساؤلات الغامضة، وفُتِحتِ الأقوس، وتناسلت الجمل الاعتراضية في نسق ناشز لا يقود الى معنى.

للبحر جوع من نوع خاص، فهو يعشق ابتلاع المغامرين الباحثين عن لقمة عيش افتقدوها في أوطانٍ ضاقت بأحلامهم ودفعتهم قربانا لأمواجه القاسية، حتى إذا صعدت أرواحهم لباريها عاف جثثهم وقذف بها بعنجهية.

أحسست فجأة بِيدٍ تضغط على كتفي، وصوت يوقظني من سهوتي، تبينت أنه لزوجتي التي هتفت بي:

- عُد إلى رشدك يا فيلسوف عصره، فأنا لم أعد قادرة على تحمل لسعات البرد.

***

محمد محضار

14أبريل 2023

 

في نصوص اليوم